فرض الحج فورا وشروطه

الشيخ د علي بن عبدالعزيز بن علي الشبل

2024-06-06 - 1445/11/29
التصنيفات: الحج
عناصر الخطبة
1/توافد الحجيج على مكة 2/بين أذان إبراهيم الخليل وتلبية الحجيج 3/شروط وجوب الحج 4/ الحج واجب على الفور للقادر المستطيع.

اقتباس

الشرط الثالث: "الاستطاعة"، وهي التي نوَّه الله عنها في آيةِ آل عمران؛ (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ ‌حِجُّ ‌الْبَيتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيهِ سَبِيلاً)، والاستطاعةِ قوامها أمورٌ ثلاثة: استطاعةٌ مالية، واستطاعةٌ بدنية، واستطاعةٌ في أمن الطريقِ ذهابًا وإيابًا من بلده إلى أن يرجع إليه.

الخطبةُ الأولَى:

 

إنَّ الحَمْد لِله؛ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلا مُضِلَّ لَهُ، وَمْنْ يُضْلِل فلا هادي له، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدُهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ نبينا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُه صلى الله عليهِ وعلى آله وأصحابه، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.

 

أما بعدُ عباد الله: فاتقوا الله حق التقوى، واستمسكوا من دينكم الإسلام بالعروة الوثقى؛ فإن أجسادنا على النار لا تقوى، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران: 102].

 

أيها المؤمنون: ها هم الحجيج وفد الرحمن -جَلَّ وَعَلَا- وضيوفه وفدوا على بيته مُجيبين نداءَ خليلهِ إبراهيم؛ حيث أمره الله -جَلَّ وَعَلَا- بعدما فرغَ من بناءِ بيه العتيق؛ (وَأَذِّنْ ‌فِي ‌النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ)[الحج: 27-28]، أذَّن إبراهيم هذا الأذان، وأبلغ الله أذانه لمن في أصلابِ آبائِهم وأمهاتهم؛ فوفدوا حُجَّاجًا وزوارًا وعُمَّارًا مُعظمين شعائر الله، آمِّين البيت الحرام.

 

 وأنزل الله -جَلَّ وَعَلَا- على رسولهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- في آية سورةِ آل عمران؛ (إِنَّ أَوَّلَ بَيتٍ ‌وُضِعَ ‌لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ * فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ)[آل عمران: 96-97].

 

لما نزلت هذه الآية قام النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- في الناس خطيبًا فحمدَ الله وأثنى عليهِ ثم قال: "أيها الناس! إن الله قد فرضَ عليكم الحج فحُجُّوا"، فقام رجل هو الأقرع بن حابس الحنظلي التميمي -رَضِيَ اَللَّهُ عَنْه-؛ فقال: يا رسول الله! أفي كل عام؟ قال: "لو قُلت نعم لوجبت ولما استطعتم، الحجُّ مرةً فمن زاد فهو تطوع"(أخرجاه في الصحيحين واللفظ لمُسلم).

 

إن الحج إلى بيت الله العتيق رُكن الإسلام الخامس، وهو آخر أركان الإسلام فرضًا ونزولاً، وإن هذا الركن ليجب ويتعيَّن على من كان أهلاً من شروط استطاعة الحج وأهلاً بأدائِه، وأول شرائِط الحج -يا عباد الله- هو شرط "الإسلام"، فلا يصح الحج من الكافر، ولا من اليهودي والمجوسي ولا النصراني ولا الوثني، والمُشرك لا يصحُّ حجه كما الذي لا يصلي البتة لا يصحُّ حجه ولو حج.

 

 الشرط الآخر: "التكليف"، والتكليفُ يكون بالبلوغ، ويكون بالحُرية لمن كان عبدًا رقيقًا، نعم، فأما البلوغ فإنه به تكاليف الإسلام "رُفع القلم عن ثلاثة: عن الصغيرِ حتى يبلغ، وعن المجنونِ حتى يُفيق، وعن النائِم حتى يستيقظ"، وأما الرقيق العبد المملوك لسيده فإن منافعه لسيده، وبالتالي لا يجب الحج عليه حتى يعتق، جاء عن ابن عباسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- يرفعه وهو موقوفٌ عليه: "من حج وهو صغيرٌ ثم بلغ فعليهِ حجةٌ أُخرى، ومن حج وكان رقيقًا ثم أعتق فعليهِ أن يحج حجةً أُخرى".

 

 الشرط الثالث: "الاستطاعة"، وهي التي نوَّه الله عنها في آيةِ آل عمران: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ ‌حِجُّ ‌الْبَيتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيهِ سَبِيلاً)[آل عمران: 97]، والاستطاعةِ قوامها أمورٌ ثلاثة: استطاعةٌ مالية، واستطاعةٌ بدنية، واستطاعةٌ في أمن الطريقِ ذهابًا وإيابًا من بلده إلى أن يرجع إليه.

 

 أما الاستطاعة المالية -يا عباد الله- فأن يجد نفقةً زائدةً عن حوائجه الأصلية وعن نفقات من يجب عليه، وكذا من باب أولى في إيفاءِ ديونه، فعندئذٍ إذا فرغ من هذه الحقوق المالية المتعينة عليه وفَضُلَ له ما يؤدي به الحج فإن الحج عندئذٍ يكون فرضًا عليه، ومن كان عليهِ دينٌ لا الأقساط الشهرية التي تُستوفى شهريًّا من راتبه، من كان عليهِ دَيْنٌ حالّ فلا يحج حتى يُوفِّي دَيْنه أو يستبيح من دائنيه.

 

النوع الثاني من الاستطاعة: "استطاعةٌ بدنية"، بأن يستطيع أن يمضِي إلى مكة سواءً ماشيًا أو راكبًا، ثم يستطيع أداء النُسك فإن كان عاجزًا في بدنه بأن كان كبيرًا في كبره أو مريضًا مرضًا مزمنًا يُقعده أو نحو ذلك فإن الحج لا يجب عليهِ بذاته، وإنما يُقيم من يحج عنه.

 

وفي هذا ما جاء في الصحيحين من حديث ابن عباسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- قال: انفلتت نسوةٌ يجرين من مُنصرف النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- من المزدلفةِ إلى منى، فلما رأينه -عَلَيهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- انفتلت إحداهن فأقبلت عليه فقالت: يا رسول الله! إن فريضة الله أدركت أبي شيخًا كبيرًا لا يستطيع أن يحج على الراحلة، أفأحج عنه؟ قال -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-: "حُجِّي عن أبيكِ"(أخرجه في الصحيحين).

 

 والثالث: "استطاعةٌ في أمن الطريق ذهابًا من بلده إلى أن يرجع إليه"، ويدخلُ في هذا الشرط استخراج التصاريح التي سنَّها وأمر بها ولي الأمر، فمن لم يُخرج هذه التصاريح وكان عاجزًا عنها فإن الحج -والحالة هذه- لا يجبُ عليه، أما من كان قادرًا على إخراجها ولكنه تكاسل وتخاذل وتهاون فإنه يكون آثمًا بذلك.

 

وتزيد المرأة في الاستطاعةِ بأمرٍ رابع: وهو إذا كان بينها وبين مكة مسافة قصر فلا بد أن يحج بها ذو محرم، ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة -رَضِيَ اَللَّهُ عَنْه- قال: قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-: "لا تُسافر المرأةُ إلا ومعها ذو محرم"، فقام رجلٌ فقال يا رسول الله! إني استتبت في غزوة كذا وكذا، وإن امرأتي خرجت حاجَّة، قال -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-: "انطلق فَحُجَّ مع امرأتك"، وإذا حجَّت المرأة ولا محرم معها فإن حجها في نفسهِ حجٌ صحيح، لكنها آثمة بمعصيتها الله وبمعصيتها رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-.

 

 نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم وما فيهِ من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه كان غفارًا.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إعظامًا لشأنه، وأشهد أن نبينا محمد عبدهُ ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليهِ وعلى آلهِ وأصحابه ومن سلف من إخوانه، وسار على نهجهم واقتفى أثرهم وأحبهم وذبَّ عنهم أبدًا إلى يوم رضوانه.

 

أما بعد عباد الله: فاتقوا الله -جَلَّ وَعَلَا- وعظِّموا فرائضه بالمُبادَرَةِ إليها، وعظِّموا نواهيه بالحذرِ والانتهاءِ عنها، واعلموا -رحمني الله وإياكم- أن الحج واجبٌ على الفور بمن كان مُحقِّقًا لشروط أدائِه ووجوبه، وقد فرض الله الحج على النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- في العام التاسع من الهجرة، ولم يحج -عَلَيهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- في تلك السنة، وإنما حج في السنة التي تليها حجته الوحيدة الفريدة "حجة الوداع".

 

 وأناب تلك السنة يحج بالناس أبو بكرٍ الصدِّيق -رَضِيَ اَللَّهُ عَنْه-؛ إشعارًا وإيذانًا بأنه المُستحق للخلافةِ من بعده، فلِمَ لَمْ يحج -عَلَيهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- تلك السنة مع أن الحج واجبٌ على الفور في أصحِّ قولي العلماء رَحِمَهُم اللهُ؟

 

لم يمنعه -عَلَيهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- من حجته تلك السنة إلا بقاءُ بعض آثار الشِّرك وأعلامه ولهذا حجَّ بالناسِّ الصدِّيق، ثم أردف وراءه عليًّا وأبا هريرة -رضي الله عنهما- يُناديان في الموكب: "ألَّا يحج بعد هذا العام مُشرك ولا يطوفنَّ بالبيت عُريان".

 

فلما جاء العام القادم في العام العاشِر حجَّ -عَلَيهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- ولم تظهر للمُشركين لم تظهر لهم علامة ولم تقم لهم قائمة، ولم يحج بالبيتِ مُشرك، ولم يطف بالبيت عُريان.

 

 ثم اعلموا رحمني الله وإياكم! أن أصدق الحديثِ كلام الله وخير الهدي هدي محمدٍ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وعليكم عباد الله بالجماعة فإن يد الله على الجماعة، ومن شذَّ شذَّ في النار، ولا يأكل الذئب إلا من الغنم القاصية.

 

اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آلِ إبراهيم في العالمين إنك حميدٌ مجيد، اللهم وارضَّ عن الأربعةِ الخلفاء، وعن العشرة وأصحاب الشجرة، وعن المُهاجرين والأنصار، وعن التابع لهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنا معهم بمنك ورحمتك يا أرحم الراحمين.

 

اللهم عزًّا تعز به الإسلام وأهله، وذلاً تذل به الكفر والشِّركَ وأهلهما، اللهم أبرم لهذه الأُمةِ أمرًا رشدًا، يُعزُّ فيهِ أهل طاعتك، ويُهدى فيه أهل معصيتك، ويُؤمر فيهِ بالمعروف ويُنهى فيهِ عن المنكر يا ذا الجلالِ والإكرام.

 

اللهم تقبَّل من الحجيج حجهم، اللهم أحسن وفادتهم، اللهم واقلبهم ورُدَّهم إلى أهليهم غانمين سالمين مأجورين غير مُكدَّرين يا ذا الجلالِ والإكرام.

 

اللهم آمنا والمُسلمين في أوطاننا، اللهم أصلح أئمتنا وولاةَ امورنا، اللهم اجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين، اللهم وفق ولي أمرنا بتوفيقك، اللهم خذ بناصيته للبر والتقوى، اللهم اجزهم خير الجزاءِ وأعظمه جرَّاءَ ما يهيؤون لوفدك وحاجِّي بيتك من هذه الإمكانيات والسُّبل جزاءً من عندك يُغنيهم عن جزاء من سواك يا ذا الجلالِ والإكرام.

 

 اللهم اغفر للمُسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والاموات ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرةِ حسنة، وقنا عذاب النار، وقوموا إلى صلاتكم؛ فإن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله يذكركم، واشكروه على نِعمه يزدكم، (‌وَلَذِكْرُ ‌اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ)[العنكبوت: 45].

 

 

المرفقات
storage
storage
التعليقات

© 2020 جميع الحقوق محفوظة لموقع ملتقى الخطباء Smart Life