عناصر الخطبة
1/فرحة المسلمين بقدوم خير الشهور 2/من أسباب الفرح بقدوم شهر رمضان 3/شروط الصيام المقبول بإذن الله تعالى 4/مزايا تلاوة القرآن في شهر الصيام 5/فضائل وعوائد تلاوة القرآن الكريم بتدبُّراقتباس
وإنَّه لَحَرِيٌّ بمن اغترف مِنْ مَعِين هذا الكتاب شهرًا كاملًا يتلذَّذ به، ويتلوه حقَّ تلاوته، في سكونِ طائرٍ، وخفضِ جَناحٍ، وتفريغِ لُبٍّ، وجمعِ خاطرٍ، أن يجعل القرآنَ ربيعًا لقلبه، يَعمُر به فؤادَه، ويملأ به جَنانه، ويحرِّك به لسانَه، ويتأدَّب بآدابه، ويتخلَّق بأخلاقه...
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي كتَب علينا الصيامَ، وجعَلَه بابًا من أبواب الجنة دار السلام، أحمده -سبحانه-، وأشهد ألَّا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبد الله ورسوله، صاحب الحوض المورود، والدرجات العلا، والمقامات العظام، اللهم صلِّ وسلِّم، على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه، صلاةً وسلامًا دائمين، ما تعاقبت الليالي والأيام.
أما بعدُ: فاتقوا الله -عباد الله-، وسارِعوا إلى مرضاته، واحذروا أسباب غضبه، واذكروا أنكم ملاقوه، فأعِدُّوا لهذا اليوم عُدَّتَه، وخُذُوا له أُهبَتَه، (فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ)[لُقْمَانَ: 33].
عبادَ اللهِ: حين يُظِلُّ المسلمين زمانُ هذا الشهر المبارك رمضان، يقف أولو النهى عند جَمال المناسَبة وجلالها، وبين الفرحة الغامرة باستقبالها وقفة يذكرون فيها أيضًا تلك الفرحتين اللتين أخبَر بهما رسولُ الهدى -صلى الله عليه وسلم- بقوله: "للصائم فرحتان يفرحمها: إذا أفطر فرح، وإذا لقي ربه فرح بصومه"، وفي لفظ: "فرح بجزاء صومه"(أخرجه الشيخان في صحيحهما، من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-).
وإن هذا التذكر ليحملهم على طول التفكر في بواعث هذا الفرح وأسبابه المفضية إليه، وحقيقة الصوم المتعلِّق به؛ إذ لا ريب أنه ليس صومَ من لم يدع قول الزور والعمل به، فقد قال عليه الصلاة والسلام: "من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه"(أخرجه البخاري) في صحيحه، ولا ريب أيضا أنه ليس صوم من يصوم عادة؛ لأنه أهل بلده صاموا، فكان لزامًا عليه أن يصوم مجاراةً لهم، وليس صوم المتبرِّم المتأفِّف المتضجِّر، المستثقِل المسرِف على نفسه، بل هو صيام من استقبل شهرَه عاقدَ العزم على اغتنام فرصته في القيام بما أُمِرَ به؛ مما تزكو به نفسُه، وتسمو به روحُه، ويطمئنُّ به قلبُه، ويحفظ به لسانَه وبصرَه وجوارحَه، إنه صيام مَنْ صام إيمانًا بأنه حق وطاعة وقربى يزدلف بها إلى مولاه، محتسِبًا ثوابَه عند الله، راجيًا جميلَ الموعود الذي جاء به الحديث الذي أخرجه الشيخان في صحيحهما، من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَنْ صام رمضانَ إيمانًا واحتسابًا غُفِرَ له ما تقدَّم من ذنبه"، وهو غفران مخصوص عند جمهور أهل العلم بما دون الكبائر، التي لا تكفِّرها إلا التوبةُ النصوحُ، وردُّ الحقوق إلى أهلها؛ إذا تعلقت الجنايةُ بحقوق العباد؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم-: "الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ، وَالْجُمْعَةُ إِلَى الْجُمْعَةِ، وَرَمَضَانُ إِلَى رَمَضَانَ، مُكَفِّرَاتٌ مَا بَيْنَهُنَّ إِذَا اجْتُنِبَتِ الْكَبَائِرُ"(أخرجه مسلم في الصحيح من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-).
وهو الصيام الذي حوفظ على شروطه وواجباته، وروعيت آدابه ومندوباته، واجتنبت قوادحه وما يعكِّر صفوَه، وينقص أجرَه، فيكون لصاحبه حُسْن العقبى بالحظوة بفيض العطاء الرباني، وسعة الإنعام الإلهي الذي أخبَر به رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- بقوله: "إذا دخَل رمضانُ فُتِّحت أبوابُ الجنة، وغُلِّقت أبوابُ جهنم، وسُلسِلت الشياطينُ"، وإن أعظم ما يورث هذه العقبى، وأقوى ما يعين على بلوغها أن يجعل من هَدْي النبي -صلى الله عليه وسلم- في شهر رمضان خير عُدَّة، وأفضل زاد؛ إذ هو كما قال الإمام ابن القيم -رحمه الله-: "أكملُ الهديِ، وأسهلُه على النفوس، وأعظمُه في تحصيل المقصود"، وكان من هديه -صلى الله عليه وسلم- الإكثار من أنواع العبادات، فكان يُكثِر فيه من الصدقة والإحسان وتلاوة القرآن، والصلاة والذِّكْر والاعتكاف، وكان يخص رمضانَ من العبادة ما لا يخص به غيرَه من الشهور، وكان جبريل يدارسه القرآنَ كلَّ ليلة، وكان إذا لقيه جبريلُ أجود بالخير من الريح المرسَلة؛ أي المتصلة الدائمة بلا انقطاع.
عبادَ اللهِ: إن أولئك الذين يهتدون بهذا الهدي وينهجون هذا النهج ويستمسكون به على صفته كما بيَّن اللهُ ورسولُه هم الذين تَعظُم لهم الفرحةُ، ويَكمُل لهم السرورُ حين يَلقَوْن ربَّهم، وحُقَّ لِمَنْ أحسَن الحرثَ، وانتقى البذرَ، وأطاب الغرسَ أن يفرح بحصاده يومَ الحصاد، أمَّا مَنْ لم يُحسِنْ حرثَه، ومن لم يُطِبْ غرسَه، فأنَّى لمثله أن يفرح، وكيف له أن يُسَرَّ؛ فاتقوا الله -عباد الله-، واعملوا على ما تبلغون به أكملَ سرور، وأعظمَ فرحٍ، بحُسْنِ استقبالِ وكرمِ وفادةِ شهرِكم بما يليق به، من كمالِ جدٍّ واجتهادٍ، واستباقٍ للخيرات، ولنُرِي اللهَ من أنفسنا فيه خيرًا؛ فإنها -واللهِ- فرصةٌ ما أعظمها، وما أعظمَ فوزَ مَنِ اغتَنَمَها؛ أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)[الْبَقَرَةِ: 185].
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه، وبسُنَّة نبيِّه -صلى الله عليه وسلم-، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم، ولكافة المسلمين من كل ذنب، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم، أحمده -سبحانه- وأشهد ألَّا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهد أن سيدَنا ونبيَّنا محمدًا عبدُ اللهِ ورسولُه، صاحبُ النهجِ الراشدِ، والخُلُقِ العظيمِ، اللهم صلِّ وسلِّم، على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه، ذوي الفضل والخير العميم.
أما بعدُ، فيا عبادَ اللهِ: إن لتلاوة القرآن في هذا الشهر الذي اختص من بين سائر الشهور بنزول القرآن من الفضل العظيم والجزاء الجزيل ما تضافرت به الأدلة، من مثل قوله -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ قَرَأَ حَرْفًا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ فَلَهُ بِهِ حَسَنَةٌ، وَالحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، لَا أَقُولُ: الم حَرْفٌ، وَلَكِنْ أَلِفٌ حَرْفٌ، وَلَامٌ حَرْفٌ، وَمِيمٌ حَرْفٌ"(أخرجه الترمذي في جامعه بإسناد صحيح)، ومن مثل قوله -عليه الصلاة والسلام-: "اقرؤوا القرآنَ؛ فإنه يأتي يوم القيامة شفيعًا لأصحابه"(أخرجه مسلم في الصحيح)، إلى غير ذلك من الأحاديث، وإن المسلم كما يَحسُن به الإكثارُ من تلاوة كتاب ربِّه في هذا الشهر فإنه يَحسُن به أيضًا ألَّا يُخلِيَ هذه التلاوةَ من تدبُّر يقفه على بديع المعاني، وجليل المقاصد، مستعينًا على ذلك باستحضار قلبه عند تلاوة كلام ربه؛ ليكون ذلك عونًا له على فهم ما يقرأ والتأثر به والاتعاظ بعظاته، وإنما يتم له ذلك باستشعار عظمة هذا المتلوِّ، وعلوِّ قدرِه، ورفيع منزلته، وأنه ليس من كلام البشر، بل هو كلام الإله الحق، والرب المعبود الذي لا ندَّ ولا مثيلَ له، ولا منتهى لعظمته، وكمال ذاته وأسمائه وصفاته، وبأن يرتل القرآن فيقرأه بتمهل وأناة، يُعِينه على تدبُّر المعاني وتفهُّمِها، مع ما فيه من إعطاء الحروف والألفاظ حقَّها.
وإنه لَحَرِيٌّ بمن اغترف من معين هذا الكتاب شهرًا كاملًا يتلذذ به، ويتلوه حق تلاوته، في سكون طائر، وخفض جَناح، وتفريغ لُبٍّ، وجمع خاطر، أن يجعل القرآن ربيعًا لقلبه، يَعمُر به فؤادَه، ويملأ به جَنانه، ويحرِّك به لسانَه، ويتأدَّب بآدابه، ويتخلَّق بأخلاقه، وبالجملة: كما قال الآجريُّ -رحمه الله-: "فإنه إذا تلا القرآن استعرض القرآن فكان كالمرآة، يرى بها من حُسْن مِنْ فعلِه، وما قبح منه، فما حذَّره منه مولاه حذره، وما خوفه به من عقابه خافه، وما رغَّبه فيه مولاه رَغِبَ فيه ورجاه، فمن كان حالُه كذلك فقد تلاه حقَّ تلاوته، ورعاه حق رعايته، وكان له القرآن شاهدًا وشفيعًا، وأنيسًا وحرزًا؛ فاتقوا الله -عباد الله- وأقبِلوا على مأدبة القرآن في شهر القرآن، فعقبى ذلك هي الرضا، والرضوان من الملك الديان، ونزول رفيع الجنان.
عبادَ اللهِ: اذكروا على الدوام أن الله -تعالى- قد أمركم بالصلاة والسلام على خير الأنام، فقال في أصدق الحديث وأحسن الكلام: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 56]، اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليتَ على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنَّكَ حميدٌ مجيدٌ، اللهم بارِكْ على محمد وعلى آل محمد، كما باركتَ على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنَّكَ حميدٌ مجيدٌ، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين، الذين قضَوْا بالحق وبه كانوا يعدلون؛ أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر الآل والصحابة والتابعين أجمعين، وعن أزواجه أمهات المؤمنين وعنا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أَعِزَّ الإسلامَ والمسلمينَ، ، واحمِ حوزةَ الدينِ، ودَمِّر أعداءَ الدِّينِ، وسائر الطغاة والمفسدين، وألف بين قلوب المسلمين، ووحد صفوفهم، وأصلح قادتهم، واجمع كلمتهم على الحق يا ربَّ العالمينَ، اللهم انصر دينك وكتابك، وسنة نبيك محمد -صلى الله عليه وسلم-، وعبادك المؤمنين المجاهدين الصادقين، اللهم آمنا في أوطاننا وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، وأيد بالحق إمامنا وولي أمرنا، وهيئ له البطانة الصالحة، ووفقه لما تحب وترضى يا سميع الدعاء، اللهم وفقه وولي عهده إلى ما فيه خير الإسلام والمسلمين، وإلى ما فيه صلاح العباد والبلاد، يا من إليه المرجع يوم المعاد، اللهم أَحْسِنْ عاقبتَنا في الأمور كلها، وأَجِرْنا من خزيِ الدنيا وعذابِ الآخرةِ، اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، والموت راحة لنا من كل شر.
اللهم إنَّا نسألكَ فِعْلَ الخيراتِ وتَرْكَ المنكَراتِ، وحب المساكين، وأن تغفر لنا وترحمنا، وإذا أردت بقوم فتنة فاقبضنا إليك غير مفتونين، اللهم اكفنا أعداءك وأعداءنا بما شئت يا ربَّ العالمينَ، اللهم إنا نجعلك في نحور أعدائك وأعدائنا ونعوذ بك من شرورهم، اللهم زدنا ولا تنقصنا، وأعطنا ولا تحرمنا، وآثرنا ولا تؤثر علينا، وأرضنا وارض عنا يا ربَّ العالمينَ.
اللهم اشف مرضانا، وارحم موتانا، وبلغنا فيما يرضيك آمالنا، واختم بالباقيات الصالحات أعمالنا، اللهم وفقنا لصيام رمضان وقيامه، وتقبله منا على الوجه الذي يرضيك عنا يا ربَّ العالمينَ.
(رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ)[الْأَعْرَافِ: 23]، (رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)[الْبَقَرَةِ: 201]، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.
التعليقات
زائر
16-04-2021اشكر كم يا خطباء العالم