عناصر الخطبة
1/ الحث على اغتنام ما بقي من رمضان 2/ معاني الفتور وأقسامه 3/ أهمية الانتباه لأمراض النفوس وعلاجها 4/ شكوى الصحابة من الفتور وأضواء على قصة حنظلة 5/ حِكَم الله تعالى في تعريض العباد لبعض الفتور 6/ حال المقبلين والمعرضين عندما ينزل بهم الفتور 7/ خسارة الدين أعظم خسارة 9/ خاب وخسر من أدرك رمضان وخرج دون أن يغفر الله لهاهداف الخطبة
اقتباس
ثمرة صدق الإقبال على الله تعالى والصبر على طاعته هي لذة يجدها العبد في قلبه حتى يود أن جميع حركاته وسكناته في طاعة الله ومرضاته من لذة العبادة وحلاوة الإيمان التي خالطت بشاشة قلبه، لكن لا بد من هذه الشرة من فترة تعقبها يسكن فيها القلب ويضعف.. وإن من حكم الله تعالى في تعريض العباد لهذه الحالة من الفتور هو ..
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له؛ وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وسلم.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
ها نحن اليوم في منتصف شهر رمضان، أسأل الله تعالى لي ولكم القبول... وأحمده سبحانه على ما تفضل علينا إذ أمهلنا وبلّغنا هذا الحد، وأسأله أن يتم علينا الشهر بكرمه ومنته.
أيها الإخوة: ألا ترون انحسارًا للهمة مع امتداد الشهر ؟! ألا تلحظون فتورًا في العبادة عما كان عليه الحال أول الشهر ؟!
الأمر طبيعي فلا تخافوا، فإن من طبيعة الإنسان الحماس بداية إقباله على كل ما يحب، أول إقباله على الطعام وهو جائع يتحمس، أول إقباله على الماء وهو عطشان يتحمس، أول إقباله على الزواج بعد عزوبة يتحمس، أول إقباله على أحبته وأصحابه بعد شوق وطول فراق يتحمس.. وهكذا..
ثم مع مرور الوقت يضعف ذلك الحماس، وفي الطاعة كذلك نفس الحال، فعن عبدالله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن لكل عمل شِرّة، ولكل شِرّة فترة, فمن كانت فترته إلى سُنتي فقد اهتدى, ومن كانت فترته إلى غير ذلك فقد هلك" أخرجه الإمام أحمد وابن حبان.
الشرة مصدر شره، وهي النشاط والخفة، والفترة من فتر الشيء إذا سكن أو زالت حدته، فالشرة نشاط وخفة، والفتور سكون بعد حدة وضعف بعد قوة ولين بعد شدة..
فالإنسان الصالح إذا أقبل على الطاعة بداية الأمر وجد في نفسه انجرافًا لها ونشاطًا بالغًا إليها، وأنه يريد أن يستغرق الطاعة بكل ما يستطع، وهذا الشعور الجميل هو من نعم الله تبارك وتعالى على الصالحين.
فقد قال جل وعلا: (وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ) [الحجرات: 7] ولذلك تجد أن ثمرة صدق الإقبال على الله تعالى والصبر على طاعته هي لذة يجدها العبد في قلبه حتى يود أن جميع حركاته وسكناته في طاعة الله ومرضاته من لذة العبادة وحلاوة الإيمان التي خالطت بشاشة قلبه، نسأل الله من فضله.
لكن لا بد من هذه الشرة من فترة تعقبها يسكن فيها القلب ويضعف، وقد بيّن صلى الله عليه وسلم هذه الطبيعة عندما اشتكى إليه الصحابة تلك المشاعر المتباينة، عن حنظلة الأسيدي -وكان من كُتّاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل رقة القلب- قال: "لقيني أبو بكر فقال: كيف أنت يا حنظلة؟ قال: قلت: نافق حنظلة. قال: سبحان الله! ما تقول؟ قال: قلت: نكون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكّرنا بالنار والجنة حتى كأنا رأي عين.." أي من شدة تأثرنا بحديثه ترق قلوبنا حتى كأننا نرى الجنة والنار بأعيننا هذه مرحلة الشرة.
قال: "فإذا خرجنا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات فنسينا كثيرًا... " هذه مرحلة الفترة.
قال أبو بكر: "فوالله إنا لنلقى مثل هذا، فانطلقت أنا وأبو بكر حتى دخلنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت: نافق حنظلة يا رسول الله! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وما ذاك؟ قلت: يا رسول الله نكون عندك تذكّرنا بالنار والجنة حتى كأنا رأي عين فإذا خرجنا من عندك عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات نسينا كثيرًا"، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده! إن لو تدومون على ما تكونون عندي وفي الذكر لصافحتكم الملائكة على فرشكم، وفي طرقكم، ولكن يا حنظلة ساعة وساعة ساعة وساعة ساعة وساعة".
فالنبي صلى الله عليه وسلم يطمئنه بأن القلب ينتابه شيء من الفتور بعد النشاط أحيانًا، وأنه يتقلب ما بين نشاط وفتور، وأنها سنة الله في عباده وله فيها الحكمة البالغة، فقد تجد من نفسك في بداية شهر رمضان أنك لو استطعت لو استغللت كل لحظة وكل ثانية من هذا الشهر في محبة الله تعالى والقرب منه بشتى النوافل..
فإذا مرت الأيام متوالية عليك ألفت الطاعة واعتراك شيء من الفتور إلى الآن الأمر طبيعي لكن ماذا بعد ؟ هذا هو السؤال الصعب !
معاشر الإخوة: إن من حكم الله تعالى في تعريض العباد لهذه الحالة من الفتور هو ابتلاء العباد في ردود أفعالهم فيظهر فيها مدى الصدق والرهبة من الله تعالى من غير ذلك، فبعض الناس إذا اعتراهم فتور لم يقترف ولم يبالِ ولم يراجع، ولم يبادر إلى إصلاح قلبه، فيظل ينحدر في فتوره حتى يخرج من سُنة النبي صلى الله عليه وسلم، فيقع في المحرمات ويترك الواجبات فيهلك كما قال عليه الصلاة والسلام: "فمن كانت فترته إلى سنتي فقد اهتدى, ومن كانت فترته إلى غير ذلك فقد هلك".
وفي الوجه المقابل هناك بعض الناس إذا اعتراهم فتور تألم وأحس بفقد عظيم، فهو يرى أن القلب لم يعد القلب، والهمة لم تعد الهمة، فتراه يحفّز نفسه، ويستقصي الأسباب، ويجاهد ويجتهد، ويصبح ويمسي في ابتهال ودعاء وإنابة إلى الله تعالى عز وجل؛ في المسجد، في الطريق، في البيت.. باله مشغول لأنه يخشى على نفسه، يخاف أن يُسلب منه ذلك العمل الصالح الذي أكرمه ربه به، وأنعم به عليه، بل يخشى أكبر من ذلك يخشى أن ينتكس، وهؤلاء هم الأخيار أو فئة الامتياز كما يقال فهم أعلى الناس مقامًا في العمل الصالح..
الواحد منهم في الأصل محافظ.. محافظ على تلاوة القرآن وعلى قيام الليل وعلى الأذكار والنوافل وسائر الطاعات حتى إذا بدا منه ولو شيء يسير من التقصير في أمور ليست بالواجبة يتألم ويتضجر ويلوم نفسه، ويحس بأنه فقد جزءًا كبيرًا من حياته؛ لأن القلب أيها الإخوة كلما شعّ فيه نور الإيمان كلما أصبح الدين فعلاً أكبر همّه ومبلغ علمه واعتبر أن أعظم مصيبة هي مصيبة الدين، وأنه إذا أُصيب بنقص في دينه فلا يعدل ذلك نقص المال ولا العيال ولا الجاه ولا السلطان..لأن خسارة الدين عنده هي أعظم خسارة.
حنظلة رضي الله عنه لم يستكن بل ظل باله مشغولاً لم يكن يدري أن ما اعتراه من فتور بعد خروجه من مجلس النبي صلى الله عليه وسلم ومخالطته لأهله وأولاده إنما هو من طبيعة البشر، لقد أحسّ رضي الله عنه أنه فقد شعورًا جميلاً خالجه في مجلس النبي صلى الله عليه وسلم شعورًا عاليًا أزاح كل الدنيا من قلبه بل نقل قلبه صافيًا إلى الآخرة، وفتح له بابًا إلى الجنة ينظر إليها وإلى نعيمها كأنها أمامه يراها رأي العين..
هذا شعور عالٍ، ولذلك لما غادر مجلس النبي صلى الله عليه وسلم وعالج شئون الحياة لاحت إليه الدنيا من جديد وشيئًا فشيئًا خفّ ذلك الشعور فخاف رضي الله عنه، خاف على نفسه من النفاق فانطلق يشتكي ذلك إلى نبيه الحبيب صلى الله عليه وسلم.
وليس حنظلة فحسب بل اشتكى غيره من الصحابة أيضًا ففي السلسلة الصحيحة من حديث أنس قال: قال أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: "يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا إِذَا كُنَّا عِنْدَكَ رَأَيْنَا فِي أَنْفُسِنَا مَا نُحِبُّ، وَإِذَا رَجَعْنَا إِلَى أَهْلِينَا فَخَالَطْنَاهُمْ أَنْكَرْنَا أَنْفُسَنَا " أي لم نجدها على ما كانت عليه. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَوْ تَدُومُونَ عَلَى مَا تَكُونُونُ عِنْدِي فِي الْخَلاءِ لَصَافَحَتْكُمُ الْمَلائِكَةُ حَتَّى تُظِلَّكُمْ بِأَجْنِحَتِهَا عَيَانًا وَلَكِنْ سَاعَةٌ وَسَاعَةٌ".
فبيّن لهم عليه الصلاة والسلام أن طبيعة الإنسان لا تمكّنه من البقاء في ذلك السمو الإيماني على الدوام، وإنما هي إشراقات ربانية منعشة للقلب يحتاج إليها العبد بين الحين والآخر، ساعة وساعة كيف تحفظ إيمانه وتبقيه متقدًا ومتوازيا مع تعامله مع الدنيا حتى لا يمل وحتى يظل في شوق إلى العمل الصالح، فإذا فتر عمله الصالح قليلاً لم تتجاوز الفترة حدود سنة النبي صلى الله عليه وسلم.
وهو ما بين هذا وذاك حريص أشد الحرص، وليس المؤمن إلا حريصًا أشد الحرص، يعالج أمور الدنيا وعينه على الآخرة؛ يتكلم إذا تلفظ بلسانه وعينه على الآخرة، يصغي وعينه على الآخرة، يشتري وعينه على الآخرة، يبيع وعينه على الآخرة، يبرم العقود وعينه على الآخرة، يعامل زوجته وعينه على الآخرة، يصلي وعينه على الآخرة..وهكذا..
حريص لا تغيب الآخرة عن عينه، يراقب قلبه ويراقب سلوكه، ولا يدع مواسم الخير تفلت من يديه أبدًا؛ لأنها أكبر الغنائم في حياته القصيرة، وإنما تحل الغنائم في أوقات البركة، وهذا ما نريد أن يكون عليه حالنا نحن في شهر رمضان، موسم البركة لا يمكن أن يفلت من يدينا هذا الموسم ونجعل لأنفسنا ولشهواتنا حظا أكبر من حظ الآخرة.
فهو شهر الغنائم التي لا ينبغي الغفلة عنها، ولا التهاون فيها، ولا التراجع في السباق إلى مرضاة الرب تعالى.
وأقول لكل أخ كريم في هذا الشهر الكريم لو حصل شيء من الفتور عندك فلا تدع الكسل يتغلب عليك، وأسرع إلى مقدمة الصف من جديد، فإنما هي كما قال تعالى (أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ) [البقرة: 184] إشعارًا بقلتها أيام رمضان وسرعة انقضائها.
أسأل الله تعالى أن يثبتنا على ذكره وشكره وحسن عبادته، وأن يجعلني وإياكم من المغفورين وأستغفر الله لي ولكم إنه غفور رحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله والصلاة والسلام على سيد المرسلين وإمام المتقين سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وعلى من صار على نهجه واهتدى بهداه إلى يوم الدين.
أما بعد: فيقول الإمام ابن القيم رحمه الله: "تخلل الفترات للسالكين – أي تخلل حالات الفتور عن العبادة للصالحين – أمر لا بد منه، فمن كانت فترته إلى مقاربة وتسديد، ولم تخرجه من فرض، ولم تدخله في محرم رُجي له أن يعود خيرًا مما كان " أن يعود لا أن يبقى.
وكل عمل إذاً يبدأ دائمًا باندفاع وحماس وهمة، فإذا الإنسان استمر قليلاً يصيبه نوع من الفتور والتراخي، وإذا أصابه هذا الفتور فلا ينبغي له أن يستسلم لذلك التراخي والكسل، بل يجاهد نفسه أن يعود خيرًا مما كان خاصة في شهر الفضل والخيرات..
شهر يقول النبي صلى الله عليه سلم فيه: "كل عمل ابن آدم يضاعف الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف ما شاء الله، يقول الله تعالى: إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به".
ففي شهر الصيام يكرم الله عباده من واسع فضله، فلا تقف مضاعفة الأجر عند سبعمائة ضعف، لا بل هي أكثر من ذلك بكثير؛ لأن الله تعالى نسب الصوم إلى نفسه جل وعلا فقال: "إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به" .
فهذا الخير بلا شك مما يجدد النشاط في النفس، ويبعث العزيمة على الاستمرارية في العبادة والوفاء بعهد الله تعالى.
أما إذا كان العبد يصلي أول الشهر كل التراويح حتى ينصرف الإمام ويحافظ على صلاة الجماعة في المسجد، ويداوم على ورده اليومي في ختم القرآن، ويمتنع عن متابعة مسلسلات السوء ومشاهد السوء محبةً لربه وتقربًا إليه، ثم إذا مرت الأيام فتر وتراجع وتنازل وصاحب من يصاحب، فأصبح ينصرف من صلاة التراويح قبل انقضائها ويهمل صلاة الجماعة، وأصبح يفوّت ورده ويستهين بمشاهدة المنكرات..
لقد دق ناقوس الخطر؛ فنحن الآن في منتصف رمضان مرت علينا أيامه بسرعة عجيبة، ولن تعود أبداً..أبداً، بل أصبحت مجرد ذكريات؛ والربح فيها أو الخسارة إنما يتبين يوم الحصاد، والآن نحن ننظر إلى ما بقي من رمضان، فما زالت لدينا فرصة أمهلنا الله تعالى لاغتنامها.
فأقول معاشر الإخوة: لم يبقَ إلا النصف الآخر، فلنستشعر الصوم بكثرة الذكر وتذكر الأجر والإيمان واحتساب مغفرة الذنوب السالفة كلها إلا الكبائر، ونعيد إلى الذهن حديث النبي صلى الله عليه وسلم: "من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غُفر له ما تقدم من ذنبه".
فالإيمان والاحتساب في كل الشهر ، وليس في أوله فقط شرط لمغفرة الذنوب، فالمحتسب إلى الله الأجر يشعر به كل يوم ويرجع دائما إلى الله سبحانه يطلبه المغفرة، ويرجو أن يكون الصيام شفيعًا له يوم القيامة كما جاء في الحديث في مسند الإمام: "يقول الصيام يوم القيامة: أي رب منعته الطعام والشهوات بالنهار فشفعني فيه، ويقول القرآن منعته النوم في الليل فشفعني فيه فيقول: قال: فيشفعان " أي الصوم يشفع له.
أسأل الله لي ولكم من كريم إحسانه وواسع فضله..
التعليقات