عناصر الخطبة
1/ اتباع الجُهَّال من أسباب ذَهاب الدين 2/ اتخاذ الجُهَّال من الصحافة منبرا لتسويق جهالاتهم 3/ أهمية الرجوع لأهل الاختصاص في كل أمر 4/ الرد على طائفة من شبهاتهم 5/ توجيهات للسلامة من ضلالاتهماهداف الخطبة
اقتباس
واليوم، في هذا العصر الغريب والعجيب، تأتي العجائب جمة، والغرائب جلية، فتقوم طائفة من أرباب الضلال، وسادة الجهل، فيتحدثون في دين الله تعالى وشرعه بكل عجيبة وغريبة، لا ديـن يردعهم، ولا سـوطَ يقمعهم، ولا صـوتَ يزجرهم، أضحى دين الله لهم كلأً مباحاً، وحمىً مستباحاً؛ فأي عار؟ وأي فتنة؟ وأي بلاء حل بأهل الإسلام حتى نطق الرويبضات، وعلا صوت أهل الجهالات في دين الله تعالى؟!
عباد الله: إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له؛ وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
(ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ) [آل عمران:102]، (ياأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِى خَلَقَكُمْ مّن نَّفْسٍ وحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِى تَسَاءلُونَ بِهِ وَلأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) [النساء:1]، (ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَـالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً) [الأحزاب:70-71].
أيها المسلمون: الفتن! نعم، إنها الفتن! وما أدراك ما الفتن؟! حذَّر النبي -صلى الله عليه وسلم- أمته منها غاية التحذير، وأنذرهم منها غاية الإنذار، حتى تواتر ذلك عنه -صلى الله عليه وسلم- واستفاض، وكان من أعظم الأحاديث عنه فيها حديث حذيفة بن اليمان -رضي الله عنه- قال قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "تعرض الفتن على القلوب كالحصير عوداً عوداً، فأيُّ قلبٍ أُشْربها نُكِت فيه نكتةٌ سوداء، وأيُّ قلبٍ أنكـرها نُكت فيه نكتة بيضاء، حتى تصير على قلبين: على أبيض مثل الصفا فلا تضره فتنةٌ ما دامت السماوات والأرض، والآخر أسودُ مِربادّاً كالكوز مُجَخِياً، لا يعرف معروفاً ولا يُنكر منكراً، إلا ما أُشْرب من هواه".
وكان مما علَّم أمته -صلى الله عليه وسلم- أن يواجهوا به الفتن ويستدفعوا به المحن الدعاء، والاستعاذة بالله من الفتن، ففي الصحيح قوله -صلى الله عليه وسلم-: "تعوذوا بالله من الفتن، ما ظهر منها وما بطن " وكان يتعوذ بالله منها في دبر صلاته ..
وإن أعظـم مما تبتلى به الأمة وتفتن فيه دينُـها، نعم، دينـها! وما حذر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كل هذا التحذير أمته من الفتن إلا خوفاً عليها من ذهاب دينها، إذ بذهاب دينها توشك على الهلاك، وتقارب الدمار.
وأجلُّ أسباب ذهابِ الدين، ودروسِ الإسلام، اتباعُ الجُهَّال، واتخاذ أهل الأهواء والضلال أئمة يقتدى، بهم ويسمع قولهم في دين الله تعالى؛ فقد أخبرنا النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك، وذلك فيما يرويه عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالماً، اتخذ الناس رؤوساً جهالاً، فسُئلوا، فأفتوا بغير علم، فضلّوا وأضلّوا".
وأخبر -صلى الله عليه وسلم- أن من أشراط الساعة أن يرفع العلم، ويثبت الجهل. وبيَّن ابن مسعود -رضي الله عنه- في أثرٍ عنه أن سوء العام بعد عام ما هو إلا لذهاب أهل العلم، يقول: ليس عام إلا الذي بعده شر منه، لا أقول عام أخصب من عام، ولا أمير خير من أمير، ولكن ذهاب العلماء؛ ثم يحدث قوم يقيسون الأمور بآرائهم، فيُهدم الإسلام.
أيها المسلمون: واليوم، في هذا العصر الغريب والعجيب، تأتي العجائب جمة، والغرائب جلية، فتقوم طائفة من أرباب الضلال، وسادة الجهل، فيتحدثون في دين الله تعالى وشرعه بكل عجيبة وغريبة، لا ديـن يردعهم، ولا سـوطَ يقمعهم، ولا صـوتَ يزجرهم، أضحى دين الله لهم كلأً مباحاً، وحمىً مستباحاً؛ فأي عار؟ وأي فتنة؟ وأي بلاء حل بأهل الإسلام حتى نطق الرويبضات، وعلا صوت أهل الجهالات في دين الله تعالى؟! دخل مالك بن أنس -إمام المسلمين- على ربيعة فوجده يبكي، فقال: ما يبكيك؟ وارتاع لبكائه، فقال له: أمصيبة دخلت عليك؟ فقال: لا. ولكن استُفتِيَ من لا علم له، وظهر في الإسلام أمر عظيم!.
قال ربيعة: وبعض من يفتي ههنا أحق بالسجن من السراق. إي والله! ظهر في الإسلام أمر عظيم. قال ابن الصلاح (ت: 643) في أدب المفتي بعد أن نقل هذا الخبر: رحم الله ربيعة كيف لو أدرك زماننا؟!، وأقول: رحمهم الله! كيف لو رأوا صحافتنا وكمَّ المتعالمين الوالغين في الدين! فقد اتخذ هؤلاء من زوايا الصحافة وأعمدة الجرائد منابر لهم وأبواقاً لنشر باطلهم على الملأ، يسعون لفتنة أهل الإسلام، ونشر البدع والمضلات، فينشرون الشبهات ويذيعون المخالفات، ويسوغون المنكرات، ويجترؤن في الحديث عن دين الله تعالى، وفي دين الله تعالى، وهم أجهل الناس به، وأبعد الناس عن هديه الظاهر والباطن، وينصِّبون أنفسهم حكاماً على أهل العلم!.
ولتعلم -أيها المسلم- أن الأمة اليوم لم تُبل بمثل ما بليت به من الصحافة والإعلام على مدى تاريخها المعاصر، فقد كانت هاتان السوءتان جنداً لأعداء الإسلام، تقوم مقامه، وأعظم! وتؤدي ما يريد، وأكثر! وهذا هـو التـاريخ يشهد، والزمن يصدِّق.
فكم من ضلال زخرفته! وكم من فساد أذاعته! وكم من خير حاربته! وكم من شر سوَّقَته! وكم شعيرة من شعائر الدين هدمت! فانتفض أهل العلم عليهم من شرق ديار الإسلام إلى مغربها يَجلُون خبثها، وينذرون المسلمين شرها .
أيها المسلمون: إن الحديث عن الفتن لن يوجه إليهم؛ بل سيكون حديثاً لنا وإلينا.
أيها المسلم لربه: إن من أعظم الفتن، وأضلِّ الضلال، وأشد ما يُوقِع في الغَيِّ والوبال، أن يجعل العبدُ المسلم أذنَه صاغيةً لهؤلاء، متلقِّية كل ما يقولون، وتلك -وَرَبِّي- مصيبة طامة! أن يصبح توجيه الأمة بيد هؤلاء الأمشاج المبتلين، والأخلاط الأرذلين.
أيها المسلمون: إن هذا العلم دين، فانظروا عمن تأخذون دينكم. هكذا صاح بها التابعي الجليل، والعالم الرباني: محمد بن سيرين. نعم، عمَّن تأخذ دينك؟ عمن تأخذ أحكام شريعة ربك؟ أتأخذها من عالم رباني؟ أم من مثقف مخلط؟.
إن ربك الذي تتوجه له كل يوم، وتؤمن به، وتنطق بالتوحيد له، قد حدد لك في كتابه من تسأل، وعمن تأخذ دينه، فقال تعالى: (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) [النحل:43؛ الأنبياء:7]، (وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ) [النساء:83].
أخي الحبيب: أترضى أن تطلب دواءً لداءٍ ألمَّ بك من أستاذ في القانون، وتذهب إليه وتقول له: لو سمحت أعطني علاجاً لما أنا فيه. أهذا من العقل؟ أو تذهب لطبيب تطلب منه أن يخطط لك بيتاً أو حديقةً ؟! بل سيارتك إلى من تذهب بها؟ أإلى غير أهل الخبرة بها؟ كلا، بل تذهب بها إلى من تثق به غاية الثقة، فكيف تأخذ دينك، الذي به قوام دنياك وآخرتك، من أناس -وربِّي!- لا علم لهم بكتاب الله تعالى، ولا سنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، لا قراءةً ولا فهماً، أي وربي! لا علم لهم بذلك.
ودليل ذلك أن أحدهم أخذ يرد على أحد كبار العلماء في مسألة شرعية، فلما بلغ إلى الآية التي استدل بها العالم، قال هذا السخيف: إن الآية التي ذكرها الشيخ لم أجد موضعها من كتاب الله تعالى بعد البحث! فكيف تجترئ -يا عبد الله- على الحديث باسم الله تعالى وأنت لا تعلم كلامه؟! سبحانك يا رب! أي سخف وأي جرأة!.
وآخر يقول: كيف نذكر النساء بالموت، والشرع قد نهاهن عن زيارة القبور؟ أي فقه هذا؟! أترمي الشريعة بالتناقض يا مسكين؟! وآخرون -من شاكلتهم- كثر يستدلون بأحاديث ضعيفة، بل وموضوعة!.
فكيف يليق بك أن تأخذ دينك الذي تسأل عنه يوم القيامة عند ربك من هؤلاء الكتبة الجُهَّال، وهذه حالهم؟ أما إنك تتقحم مهولاً، وتأتي منكراً حين تتبع هؤلاء في دينك، وتجعلهم حجة بينك وبين الله تعالى. ناهيك عن جهلهم بالناسخ والمنسوخ، والمطلق والمقيد، والمجمل والمبين، وغير ذلك.
أيها المسلمون: لقد تجلت جرأة هؤلاء، وكثرة شبهاتهم في هذه الأيام بما لم يسبق من قبل، فإنا لله وإنا إليه راجعون، فتارة يأتون إلى حجاب المرأة فيقولون: يجوز للمرأة أن تكشف وجهها. ما الدليل؟ قاله بعض العلماء! وأنا هنا أسألك -أيها المسلم- ماذا تفهم من قول الله تعالى: (وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ) [الأحزاب:53]، أتفهم غير وجوب تغطية الوجه؟.
ماذا تفهم من قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً) [الأحزاب:59]، وقوله تعالى: (وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا) [النور:31].
ماذا تفهم من حديث أسماء بنت أبي بكر -رضي الله عنها-: "كنا نغطي وجوهنا من الرجال"؟ وهو حديث صححه ابن خزيمة، وتغطية عائشة لوجهها في غزوة المريسيع يوم أبصر بها صفوان وسمعت استرجاعه: "فخمرت وجهي بجلبابي، وكان قد عرفني حين رآني، وقد رآني قبل أن يفرض الحجاب علينا". هل هذا مشكل عليك حتى تستفتي كاتباً صحفياً؟ هل أنت بحاجة إلى شنشنة الأخازم الجُهَّال.
وآخر يأتي يقول: الردة في الإسلام ليس لها حكم شرعي واضح، ويأتي بخزعبلات -عياذاً بالله-، "طيِّب" -أيها المبارك-: لما تسمع : "من بدل دينه قاقتلوه" فهل أنت بحاجة إلى هؤلاء وعندك هذا الحديث الصريح الذي أجمع أهل العلم على معناه؟.
وآخر يأتي فيقول: الأغاني ليس فيها شيء! ولِمَهْ؟ ثم يأتيك بجهالات يفتن بها الناس؛ لكن المسلم الحق لا يتردد في حرمتها وهو يسمع قوله تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ) [لقمان:6]، ثم يأتي ابن مسعود -رضي الله عنه- " فيقسم بالله ثلاثا أنه الغناء، ويوافقه على هذا التفسير ترجمان القرآن، وسائر التابعين. ثم لما تسمع قول رسول الله –صلى الله عليه وسلم- : "سيكون في آخر أمتي خسف وقذف ومسخ". قيل: متى يا رسول الله؟ قال: "إذا ظهرت المعازف والقينات"، وقوله -صلى الله عليه وسلم-: "سيكون من أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف". هل تفهم منها حل الأغاني أم حرمتها.
وآخرون يأتون إلى صلاة الجماعة فينقبون في الكتب بحثاً عن الشبهات، فيقولون: ليست واجبة. فماذا يفهم المسلم حين يسمع قوله تعالى: (وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُم) [النساء:102]. هذه الآية تختص بصلاة الخوف، فإذا لم يأذن اللّه أن نتخلف عن الجماعة في حالة الخوف، ففي الأمن أولى.
أو حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "والذي نفسي بيده، لقد هممت أن آمر بحطب فيحطب، ثم آمر بالصلاة فيؤذن لها، ثم آمر رجلا فيؤم الناس، ثم أخالف إلى رجال فأحرق عليهم بيوتهم! والذي نفسي بيده، لو يعلم أحدهم أن يجد عرْقا سمينا، أو مِرماتين حسنتين، لشهد العشاء ".
أو حديث عمرو بن أم مكتوم أنه قال لرسول اللّه -صلى الله عليه وسلم-: إني ضرير البصر، شاسع الدار، لي قائد لا يلاومني، فهل لي رخصة أن أصلي في بيتي؟. قال: "هل تسمع النداء؟" قال: نعم. قال: "فأجب، فإني لا أجد لك رخصة". وفي رواية قال: يا رسول اللّه! إن المدينة كثيرة الهوام والسباع، وأنا ضرير البصر، فهل تجد لي من رخصة؟ قال: "تسمع حي على الصلاة، حي على الفلاح؟". قال: نعم. فقال: "فحي هلا"، ولم يرخص.
وآخرون يشككون في ضلال الرافضة وسوء عقيدتهم، ويصرُّون على أنهم من أهل السنة والجماعة، والمسلم الحق لمَّا يسمع شيئاً من عقيدتهم يعلم علماً قاطعاً أن ما عليه دينهم أشدُ شركاً وكفراً من اليهود والنصارى!.
وهكذا في سائر أحكام الشريعة -وربي إنها لبينة جلية- ولكن هؤلاء القوم أهل زيغ وشبهات، قال الله تعالى : (هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ * رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ) [آل عمران:7-8]. قالت عائشة: تلا رسول الله هذه الآيات ثم قال: "فإذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه فاحذرهم". .
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد ألا إله الله تعظيماً لشانه، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد: أيها المسلمون: لتعلم -أخي الحبيب- أن الحق واضح بيَّن، ولكن أهل الشهوات والشبهات جعلوه ملتبساً، وإن أردت السلامة من ضلالاتهم فاعلم:
أولاً: أن تعلم أن دينك اليوم محارب من كل مكان، وأشد من يحاربه المنافقون وأهل البدع، وكان من نبأ حذيفة بن اليمان -رضي الله عنه- أنه قال: كان الناس يسألون رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن الخير، وكنت أسأله عن الشر؛ مخافةَ أن يدركني. فقلت: يا رسول الله! إنا كنا في جاهلية وشر، فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير شر؟! قال : "نعم". فقلت: هل بعد ذلك الشر من خير؟! قال: "نعم، وفيه دخن". قلت: وما دخنه؟! قال: "قوم يستنون بغير سنتي، ويهدون بغير هديي، تعرف منهم وتنكر". فقلت: هل بعد ذلك الخير من شر؟! قال : "نعم، دعاة على أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها". فقلت: يا رسول الله! صفهم لنا؟! قال: "نعم! قوم من جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا"، قلت: يا رسول الله! فما ترى إن أدركني ذلك؟! قال: "تلزم جماعة المسلمين وإمامهم". فقلت: فإن لم تكن لهم جماعة ولا إمام؟! قال: "فاعتزل تلك الفرق كلها، ولو أن تعض على أصل شجرة، حتى يدركك الموت وأنت على ذلك".
ثانياً: الزم كتاب ربك، وحديث رسولك -صلى الله عليه وسلم-، فإن أشكل عليك شيء فابتغه عند أهل العلم الراسخين، واعلم أن سائر الأئمة من قبل يأمرون بعرض أقوالهم على الكتاب والسنة، فما وافقها فخذ به، وما خالفها فاردده، فكيف بهؤلاء ؟!.
ثالثاً: احذر غاية الحذر من الركون إلى هؤلاء! فوالله ما كتبوا الذي كتبوا حتى يقربوك من جنة، أو يبعدوك عن نار، أو يحثوك على خير تنال به رضا ربك، أو ينهوك عن شر يوقعك في غضب ربك! بل تجرؤوا على أعظم حرمات الله وهو القول على الله بلا علم: (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ) [الأعراف:33].
وأهمس في أذنيك بقول حذيفة -رضي الله عنه-: إذا أحب أحدكم أن يعلم أصابته الفتنة أم لا، فلينظر؛ فإن كان رأى حلالًا كان يراه حراماً، فقد أصابته الفتنة، وإن كان يرى حراماً كان يراه حلالًا، فقد أصابته الفتنة. و لمَّا سئل عن الفتن أيها أشد؟ قال: أن يعرض عليك الخير والشر، فلا تدري أيهما تركب.
رابعاً: لنكن على لزوم للاستعاذة بالله من هذه الفتن، وابتهال ضارع، وخوف شديد من تقحمها والافتتان بها، فقد كان الإمام المصطفى، والنبي المجتبى -صلى الله عليه وسلم- كثير الضراعة، دائم الاستعاذة بالله منها، فيكن لنا فيه قدوة، وأي قدوة؟!.
جنِّبْنَا اللهمَّ الفتن، ما ظهر منها وما بطن.
عباد الله: صلوا وسلموا على نبيّه وآله وصحبه ومن والاه، فقد أُمرتم بذلك في الذكر الحكيم، إذ قال ربّ العالمين : (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب:56]، اللهم صلّ وسلّم وبارك على عبدك ورسولك محمّد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
التعليقات