فأما اليتيم

ناصر بن محمد الأحمد

2011-02-20 - 1432/03/17
التصنيفات: أخلاق وحقوق
عناصر الخطبة
1/ الإسلام يأمر بالتكافل ويعطي عليه الأجر الوفير 2/ توبيخ من لم يكرم اليتيم 3/ البركة الحاصلة بتربية اليتامى 4/ كفالة النبي صلى الله عليه وسلم لليتامى 5/ حفظ الله تعالى لليتامى 6/ نماذج من يتامى العلماء والصالحين 7/ واجبات على الأوصياء 8/ يتم التربية قد يكون أقسى من يتم الأبوة
اهداف الخطبة

اقتباس

اليتيم فرد من أفراد الأمة، ولبنة من لبناتها، غير اليتيم يرعاه أبواه، يعيش في كنفهما تظلله روح الجماعة، يفيض عليه والداه من حنانهما، ويمنحانه من عطفهما، ما يجعله بإذن الله بشرًا سويًا، وينشأ فيه إنشاءً متوازنًا، أما اليتيم فقد فَقَدَ هذا الراعي، ومال إلى الانزواء، ينشد عطف الأبوة الحانية، ويرنو إلى من يمسح رأسه، ويخفف بؤسه، يتطلع إلى من ينسيه ..

 

 

 

 

إن الحمد لله...

أما بعد:

أيها المسلمون: أمر الإسلام بالتكافل، ورتب على ذلك أجورًا عظيمة، من ذلك كفالة الأيتام. إن إعانة اليتيم وكفالته سعادة ونعمة، واليتيم ضعيف لكنه قويّ؛ إذ يقودك إلى الجنة صبي ضعيف، فـافرح بإحسانك إلى اليتامى والحنو عليهم، وقضاء حاجاتهم، واحذر احتقارهم، فبحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، ومن فقد رعاية والده بغير يُتمٍ وجب على المجتمع الإحسان إليه وإحاطته بالرعاية والتربية، فكيف بيتيم الأب، والراحمون يرحمهم الرحمن.

أيها المسلمون: لقد وبّخ -جل وعلا- من لم يكرم يتيمًا: (كَلاَّ بَل لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ) [الفجر: 17]. وقَرَن دعّه -وهو قهرُه وظلمه- قرن ذلك بالتكذيب بيوم الدين: (أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ * فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ) [الماعون: 1، 2]، ونهى الله صفوة خلقه -عليه الصلاة والسلام- أن يقهر أحدًا منهم: (فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ) [الضحى: 9]، أي لا تذله ولا تنهره ولا تهنه، ولكن أحسن إليه وتلطف به. ونهى عن قرب مال اليتيم إلا بالحسنى: (وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) [الأنعام: 152].

ولا يتولى أموالهم إلا القوي الأمين. ونهى -عليه الصلاة والسلام- الضعيف من صحابته أن يتولى على شيء من أموالهم فقال: "يا أبا ذر: إني أراك ضعيفًا وإني أحب لك ما أحب لنفسي، لا تأمرنّ على اثنين ولا تولينّ مال اليتيم". رواه مسلم. وأَكْلُ ماله من السبع المهلكات؛ قال -عليه الصلاة والسلام-: "اجتنبوا السبع الموبقات"، وذكر منهنّ: "وأكل مال اليتيم". متفق عليه. ومن أكل ماله بغير حق أجج في بطنه نارًا: (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً) [النساء: 10]. وإذا رَشَدَ أُعطي ماله وافيًا من غير بخس أو إخفاءٍ لشيء منه: (فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَنْ يَكْبَرُوا) [النساء: 6].

أيها المسلمون: اليتيم يأتي إلى الدار بالخيرات، وتتنـزل بحلوله البركات، ويلين به القلب من الزلات، سأل رجل الإمام أحمد -رحمه الله-: كيف يرق قلبي، قال: "ادخل المقبرة وامسح رأس اليتيم". وأطيب المال ما أعطي منه اليتيم، قال -عليه الصلاة والسلام-: "إن هذا المال خضرة حلوة، فنعم صاحب المال المسلم ما أُعطي منه المسكين واليتيم وابن السبيل". متفق عليه. الإحسان إليهم يفرّج كُرب الآخرة: (فَوَقَاهُمْ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً) [الإنسان: 11]. وإطعامهم سبب لدخول الجنة: (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً) [الإنسان: 8].

وقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- قدوة في كفالة الأيتام، فاتخذ -عليه الصلاة والسلام- أكثر من عشرة أيتام يحوطهم برعايته وعنايته، فكان لهم أبًا رحيمًا مشفقًا محبًّا لهم. ومن كفل يتيمًا كان معه في الجنة، قال -عليه الصلاة والسلام-: "أنا وكافل اليتيم في الجنة كهاتين". متفق عليه. قال ابن بطال -رحمه الله-: "حق على كل من سمع هذا الحديث أن يعمل به، ليكون رفيق النبي -صلى الله عليه وسلم- في الجنة، ولا منـزلة في الآخرةِ أفضل من ذلك".

واقتفى الصحابة -رضي الله عنهم- أثر النبي -صلى الله عليه وسلم-، فكان تحت الخلفاء الراشدين أيتامٌ في بيوتهم، وكفل نساؤهم أيتامًا من البنات في بيوتهنّ، كأم المؤمنين عائشة وميمونة وزوجة ابن مسعود -رضي الله عنهنّ-، وكان ابن عمر -رضي الله عنه- إذا رأى يتيمًا مسح رأسه وأعطاه شيئًا. وقال أبو الدرداء -رضي الله عنه-: ارحم اليتيم، وأدنه منك، وأطعمه من طعامك.

أيها المسلمون: اليتيم محفوظ بحفظ الله: (وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ) [الكهف: 82]. والله -عز وجل- لا يغلق عن عبده بابًا إلا ويفتح له برحمته وفضله أبوابًا غيره، واليتيم قد يكون طريقًا للعلو والشموخ، فقد كان في الأمة من فقدوا آباءهم فأصبحوا فيها عظماء، لقد حفِل التاريخ بأناس عاشوا اليتم، ولكنهم ملؤوا الدنيا علمًا وجهادًا ودعوةً وعبادةً.

نشأ أبو هريرة -رضي الله عنه- يتيمًا، وكان يرعى لقومه الغنم، ثم لازم النبي -صلى الله عليه وسلم- فكان راوية الإسلام، يخبر عن نفسه فيقول: نشأت يتيمًا، وهاجرت مسكينًا، وكنت أجيرًا لابنة غزوان بطعام بطني وعُقبة رجلي، أحدو بهم إذا ركِبوا، وأحتطب إذا نزَلوا، فالحمد لله الذي جعل الدين قِوامًا، وجعل أبا هريرة إمامًا.

والإمام البخاري -رحمه الله- صاحب الصحيح يتيم، وقرأ على ألف شيخ، فصنّف أصح كتاب في الحديث، فكان هذا اليتيم نعمة على هذه الأمة.

والإمام الشافعي -رحمه الله- فَقَدَ أباه وهو دون العامين، فنشأ في حِجر أمه في قلة من العيش وضيق من الحال، فحفظ القرآن وجالس في صباه العلماء فساد أهل زمانه. قال الحميدي: سمعت الشافعي يقول: كنت يتيمًا في حِجر أمي، ولم يكن عندها ما تعطي المعلِّم، وكان المعلم قد رضي مني أن أقوم على الصبيان إذا غاب، وأخفف عنه. فأي شيء كان الشافعي بعد ذلك؟! قال الإمام أحمد: كان الشافعي كالشمس للدنيا، وكالعافية للناس.

والإمام ابن الجوزي -رحمه الله- نشأ يتيمًا على العفاف والصلاح في حضن عمته، فحملته إلى العلماء، فصنف ووعظ، قال -رحمه الله- عن نفسه: أسلم على يدي أكثر من مائتي ألف. قال شيخ الإسلام -رحمه الله-: ولا أعلم أحدًا صنف في الإسلام أكثر من تصانيفه.

والزبير بن العوام -رضي الله عنه- الذي عده عمر -رضي الله عنه- بألف فارس، كان نتاج تربية أمه صفية -رضي الله عنها- بعد أن مات أبوه وهو صغير، وكانت أمه صفية تضربه ضربًا شديدًا وهو يتيم، فقيل لها: قتلتِه، أهلكتِه! قالت:

إنما أضربه لكي يدبّ *** ويَجُرَّ الجيش ذا الجلب

فماذا كان بعد؟! قال الثوري: هؤلاء الثلاثة أحد نجدة الصحابة: حمزة، وعلي، والزبير. وعن عروة قال: كان في الزبير ثلاث ضربات بالسيف: إحداهن في عاتقه، إن كنتُ لأُدخل إصبعي فيها، ضُرب اثنتين يوم بدر، وواحدة يوم اليرموك. ولا تنسَ أنه اليتيم الذي كانت أمه تضربه!

خلق الله للحروب رجالاً *** ورجالاً لقصعةٍ وثريدِ!

والإمام الأوزاعي -رحمه الله- مات والده وهو صغير، فربّته أمه. نقل الذهبي في ترجمته عن العباس بن الوليد قال: ما رأيت أبي يتعجب من شيء تعجُّبَه من الأوزاعي، فكان يقول: سبحانك تفعل ما تشاء! كان الأوزاعي يتيمًا فقيرًا في حِجر أمه تنقله من بلد إلى بلد، وقد جرى حلمك فيه أن بلَّغته حيث رأيتُه. يا بَني! عجزت الملوك أن تؤدب نفسها وأولادها، وأدب الأوزاعي نفسَه!

وغير هؤلاء كثير، كانوا أيتامًا، كالسيوطي وابن حجر والثوري والقاسم بن محمد، وغيرهم من السلف عاشوا اليُتم، لكنهم أناروا الدنيا بالعلم والفهم، ولم يكن اليُتم عائقًا لهم عن النهوض، بل ربما كان دافعًا لهم.

وإذا أردت أمثلة حاضرةً قريبةً فهي غير قليلة أيضًا، أمثال: صِدِّيق حسن خان، وعبد الرحمن السعدي، وعبد الله القرعاوي، ومحمد الأمين الشنقيطي، وعبد العزيز بن باز -رحمهم الله-.

وسيد الأيتام نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-، توفي والده وأمه حامل به، ثم تقلّب في أحضان متوالية من أمه إلى جده إلى عمه: (أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى) [الضحى: 6].

قالوا: (اليتيم) فماجَ عطرُ قصيدتي *** وتلفتت كلماتُها تعظيمًا
وسمعتَ مـنها حكـمةً أزليةً *** أهدت إلـيّ كتابَها المرقـوما
حسْبُ اليتيمِ سعادةً أن الذي *** نَشَرَ الهدى في الناس عاش يتيمًا!

صلى الله عليه وسلم.

أيها المسلمون: وإذا فقد اليتيم أباه تضاعف واجب الأم نحوه؛ فأم موسى رعت ابنها موسى -عليه السلام- واصطفاه الله نبيًا: (هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ (12) فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ) [القصص: 12، 13]، وزكريا -عليه السلام- كفل مريم: (وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا) [آل عمران: 37]، ومريم أحسنت تربيتها لابنها عيسى -عليه السلام-، واختاره الله رسولاً.

والإمام أحمد بن حنبل -رحمه الله- مات والده وهو حمل في بطن أمه، وعاش حياة فقر وفاقة، فحضنته أمه وأدبته وأحسنت تربيته، قال -رحمه الله-: كانت أمي توقظني قبل الفجر بوقت طويل وعمري عشر سنوات، وتُدفئ لي الماء في الشتاء، ثم نصلي أنا وإياها ما شئنا من صلاة التهجد، ثم تنطلق بي إلى المسجد في طريق بعيد مظلم موحش لتصلي معي صلاة الفجر في المسجد، وتبقى معي حتى منتصف النهار تنتظر فراغي من طلب العلم وحفظ القرآن. بصبر هذه الأم على اليتيم أخرجت عالمًا من علماء المسلمين وأئمتهم.

ويجب على الأم والأوصياء والأولياء الإحسان إلى اليتيم في التربية والرحمة، وأن لا يقتصر على الشفقة والعطف والإنفاق فحسب، بل يكون بالتوجيه الحسن والتعليم النافع؛ قال الله تعالى: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ) [البقرة: 220].

وأول ما يوجه إليه اليتيم حفظ كتاب الله العظيم، فهو العاصم والحافظ والمخرج من الفتن، ثم طلب العلم الشرعي، وحفظ الحديث والفقه وغيرهما، ومجالسة العلماء ولزوم الصحبة الصالحة، مع صرفه عن أسباب الفتن.

وعلى من يرعى يتيمًا أن يراقب ربه في ذلك الضعيف، وأن يخلص في عمله مع الله، فالإخلاص ييسر العمل ويكسوه حلاوة، وعليه أن لا يبخل بابتسامة وأن يبذل له ويرحمه، ويقيل عثرته، ويحسن ولايته، قال قتادة -رحمه الله-: "كن لليتيم كالأب الرحيم".

أيها المسلمون: واليتيم طفل اليوم وهو رجل المستقبل، والله يكافئك على كل ما تعمله من تربيه وإحسان، ويجازيك على ذلك الجزاء الأوفى، (وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً) [النساء: 9].

كشيخٍ حائرٍ أبصرتُ يومـًا *** صغيرًا قد جفا الدنيا وناحا
تُغالب عينه العبراتِ حـرى *** يناغي الدمع قد نسي المراحا
فأبصرني وفي عينيـه بـرق *** فشق الهمّ قلبي واستباحا
فقلت ومقلتي سكبت دموعي *** رويدك يا صغير دع النواحا
فقال: أنا يتيم قلت: كـلا *** فعين اليُتم من فقد الصلاحا
فخالطت ابتسامته دموعـًا *** ظننت الحزن قد ولى وراحا
فقال وقد تلعثم في سـؤال: *** أيا عمّاه أرجوك السماحا
صغار الحي نادوني يتيمـًا *** وكل القوم قد عافوا امتداحا
أحقًّا لن يعود أبي، فمن ذا؟! *** يسليني، لمن أشكو الجراحا؟!
وهذا الهمّ شيبني صغيـرًا *** أناجي الدمع أرتشف الجراحا
وكل الأمنيات غدت سرابًا *** مع الأحلام تصطحب الرياحا
فقلت مغالبًا حزني، وقلبـي *** كواه الحزن ممتشقًا رماحًا
بُنَيَّ كفاك ألهبت الحنايـا *** بهم قد حوى حتى البطاحـا
بُنَيَّ بُنَيَّ لا تحـزن فإنـا *** لك الأحباب فلترج الفلاحا
لك الأصحاب فلنمضي سويًا *** نعيد المجد نرتقب الصباحا
فودعني يكشر عن ثنايـا *** وسِر النفس قد بانا ولاحا
وأطرق ماشيًا يدعو: إلهـي *** وودعني بدمع واستراحا

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني الله وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

 

 

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله...

أما بعد:

أيها المسلمون: الله -عز وجل- جابر كسر اليتيم، ورافـعٌ قدره، ومن كُتب عليه اليُتم وهو ضعيف، فالجنة مأوى المستضعفين من المؤمنين، قال -عليه الصلاة والسلام-: "ألا أخبركم بأهل الجنة؟! كل ضعيف مستضعف، لو أقسم على الله لأبره". متفق عليه.

اليتيم فرد من أفراد الأمة، ولبنة من لبناتها، غير اليتيم يرعاه أبواه، يعيش في كنفهما تظلله روح الجماعة، يفيض عليه والداه من حنانهما، ويمنحانه من عطفهما، ما يجعله بإذن الله بشرًا سويًا، وينشأ فيه إنشاءً متوازنًا، أما اليتيم فقد فَقَدَ هذا الراعي، ومال إلى الانزواء، ينشد عطف الأبوة الحانية، ويرنو إلى من يمسح رأسه، ويخفف بؤسه، يتطلع إلى من ينسيه مرارة اليتم وآلام الحرمان.

كم من أم لأيتام يحوم حولها صبيتها وعينهم شاخصة نحوها، لعلهم يجدون عندها إسعافًا.

إن اليتيم إذا لم يجد من يستعيض به حنان الأب المشفق والراعي الرافق، فإنه سيخرج نافر الطبع، وسيعيش شارد الفكر، لا يحس برابطة، ولا يفيض بمودة، وقد ينظر نظر الخائف الحذر، بل قد ينظر نظر الحاقد المتربص، وقد يتحول في نظراته القاتمة إلى قوة هادمة.

أيها المسلمون: من خيار بيوت المسلمين بيت فيه يتيم يُحسَن إليه، إن خفض الجناح لليتامى والبائسين دليل الشهامة، وكمال المروءة، صنائع المعروف تقي مصارع السوء، وتحفظ من المحن والبلايا.

إن كنت تشكو قسوة في قلبك فأدْنِ منك اليتامى، وامسح على رؤوسهم، وأجلسهم على مائدتك، وألِن لهم جانبك، إذا رجوت أن تتقي لفح جهنم فارحم اليتامى وأحسن إليهم: (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لاَ نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلاَ شُكُوراً * إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً * فَوَقَـاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَومِ وَلَقَّـاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً) [الإنسان: 8-11].

لقد تحرّج الذين عندهم أيتام من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين سمعوا القوارع في مثل قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْولَ الْيَتَـامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِى بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً) [النساء: 10]، فعزلوا طعام الأيتام وشرابهم، فصاروا يأكلون منفردين، ويعيشون منعزلين، وامتنع آخرون من كفالة اليتيم تحرجًا وتعففًا، وكان هذا موضع حرج آخر، فسألوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فنزل القرآن مجيبًا لهم: (وَيَسْـأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَـامَى قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وَإِن تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْونُكُمْ وَللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاء اللَّهُ لاعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيم) [البقرة: 220].

وكم من نُظَّار على أوقاف، وأوصياء على أيتام انزلقوا في الشبهات، ثم ترقوا إلى المحرمات، فغلبتهم أطماعهم حتى أصبح واحدهم غنيًا من بعد فقر، قاسيًا من بعد لين، فويل لهم، ثم ويل لهم: (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْولَ الْيَتَمَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِى بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرا).

وفي الحديث: "أربع حق على الله أن لا يدخلهم الجنة ولا يذيقهم نعيمها: مدمن الخمر، وآكل ربا، وآكل مال اليتيم، والعاق لوالديه". وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أحرِّج مال الضعيفين: المرأة واليتيم". أي أوصيكم باجتنابهما.

أيها المسلمون: وهناك يُتم من نوع آخر، معه أبواه لكنه يعيش حياة الغفلة، وأعداد هؤلاء يتضاعف مع مرور الأيام وكثرة المشاغل والملهيات، فالأب مشغول في وظيفته أو تجارته أو سهرته أو سفرته، والأم كذلك قد تركت ولدها للخادمة، وأصبحت مشغولةً بين السوق والوظيفة، وبين الأزياء والموضة، وحين يكبر الولد وينتهي من رعاية الخادمة ويملك الخروج من المنـزل ولو مع صغر سنه، فإنه يلتقم ثدي الشارع، ويختاره سكنًا بدل البيت، ليقطع فيه جُل الوقت. هذا يسمى يتيم التربية!

ليس اليتيم من انتهى أبواه مِن *** همِّ الحياةِ وخلّفاه ذليلاً
فأصاب بالدنيا الحكيمةِ منهما *** وبحسن تربيةِ الزمان بديلاً
إن اليتيمَ هو الذي تلقى لـه *** أمًّا تخلّت، أو أبًا مشغولاً

إننا لا نطلب من الرجل ولا من المرأة أن يتركوا أشغالهم التي يطلبون منها لقمة العيش، لكننا نقول لهم: إن فترة الغياب الطويل عن الأولاد لها أثر كبير؛ ولذا كان من الضروري على الزوجين تخصيص أوقات كافية للجلوس مع أبنائهم، واصطحابهم، وحل مشكلاتهم، وإشراكهم معهم في الحياة.
 

  

  

المرفقات
فأما اليتيم.doc
التعليقات

© 2020 جميع الحقوق محفوظة لموقع ملتقى الخطباء Smart Life