عناصر الخطبة
1/ فضل علو الهمة 2/ سمات عالي الهمة 3/ صور من علو الهمة في حياة السلف الصالح 4/ طرق ووسائل علو الهمة.اهداف الخطبة
اقتباس
إنَّ عاليَ الهمة, يجود بالنفس والنفيس في سبيل تحصيل غايتِه النبيلة، وتحقيقِ بغيته الشريفة؛ لأنه يعلم أنَّ المكارم منوطةٌ بالمكاره، وأن المصالحَ والخيرات، واللذاتِ والكمالات كلَّها, لا تُنَالُ إلا بحظٍّ من المشقة، ولا يُعْبَرُ إليها إلا على جسرٍ من التعب.بَصُرتُ بالراحة الكبرى فلم أرها *** تُنال إلا على جسرٍ من التَّعَب عالي الهمةِ يُرى منطلقاً بثقةٍ وقوةٍ وإقْدام, نحو غايتِه التي حدَّدَها على بصيرةٍ وعِلْم، فيقتحم الأهوال، ويستهين الصعاب على كلّ الأحوال..
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي خلق فسوَّى، وقَدَّر فهدى، وجعلنا مِن أُمَّةِ عبدِه ورسوله المجتبى، صلى الله عليه وعلى أصحابِه أعلام الهدى، وعلى من تَبِعَ هديه مِنْ حُمَاةِ السُّنَّةِ وَلُيُوثِ الْعِدَا، من حين مبعثه وحتى يُحْشَرَ النَّاسُ غَدَا.
أما بعد, فاتقوا الله معاشر المسلمين, واعلموا أنَّ من أعظم ما يُوفَّقُ له الإنسان, الهِمَّةَ العاليةَ الشريفة, فبِها ينال مطلوبَه, ويُحقّق أُمنيتَه.
قال ابن القيم -رحمه الله-: "وكمالُ كلِّ إِنسانٍ, إنَّما يَتِمُّ بهذين النَّوعين، هِمَّةٌ تُرقِّيهِ، وعلمٌ يُبصِّرهُ ويَهديهِ؛ فإنّ مَراتَب السَّعادَةِ والفَلاحِ, إنَّما تفوتُ العَبدَ من هاتَين الجهتَين, أو مِن إحداهُما". ا.ه
والمقصودُ مِنْ علو الهمة, استصغارُ ما دون النهاية من معالي الأمور، وطلبُ المراتب السامية.
إنَّ عاليَ الهمة, يجود بالنفس والنفيس في سبيل تحصيل غايتِه النبيلة، وتحقيقِ بغيته الشريفة؛ لأنه يعلم أنَّ المكارم منوطةٌ بالمكاره، وأن المصالحَ والخيرات، واللذاتِ والكمالات كلَّها, لا تُنَالُ إلا بحظٍّ من المشقة، ولا يُعْبَرُ إليها إلا على جسرٍ من التعب.
بَصُرتُ بالراحة الكبرى فلم أرها *** تُنال إلا على جسرٍ من التَّعَب
عالي الهمةِ يُرى منطلقاً بثقةٍ وقوةٍ وإقْدام, نحو غايتِه التي حدَّدَها على بصيرةٍ وعِلْم، فيقتحم الأهوال، ويستهين الصعاب على كلّ الأحوال..
إذا غامَرْتَ في شَرَفٍ مَرُومِ *** فَلا تَقنَعْ بما دونَ النّجومِ
عالي الهمة له نظامٌ يسير عليه, وهدفٌ يصبوا إليه, ومنهجٌ لا يحيد عنه, ووقتٌ يَظِنُّ ويَبْخَلُ به, ونفسٌ لا تَسْعى إلَّا إلى تهذيبِها وكبحِ جماحِها, لا تنعِيْمِها وتلبيةِ رغباتِها.
والنَّفُسُ راغِبَةٌ إذا رَغَّبْتَها *** وإذا تُرَدُّ إلى قَلِيلٍ تَقْنَعُ
عالي الهمة تتقطّع نفسُه حسراتٍ على دقائق لم ينتفع بها, يرى أنّ وقتَه أغلى من إهدارِه بملاذّ الدنيا ومُتَعِها, ونفسُه أشرف من قناعتها بما دون الكمال.
له هممٌ لا منتهى لكبارها *** وهمَّتُه الصغرى أجل من الدهر
كبيــرُ الهمــة لا يَنْقُضُ عَزْمَه, ويجعل قول الله تعالى نُصب عينيه: (فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) [آل عمران: 159].
ليس كحال الكثير مِنّا, يعزم على أمرٍ ويمضي فيه, ثم تدعوه نفسُه إلى التراجع والتّوقف فيُطاوعها.
عالي الهمة يعلم أنه إذا لم يزد شيئًا في الدنيا, فسوف يكون زائدا عليها.
إذا ما مضى يومٌ ولم أصطنع يدًا *** ولم أقتبس علمًا فما هو من عمري
وإليكم بعضَ الأمثلة على الهمم العالية:
كان الحافظُ الخطيب البغدادي -رحمه الله-, يمشي وفي يده جزءٌ يُطالعه.
وقال ابن حِبَّان -رحمه الله-: "لعلَّنا قد كتَبنا عن أكثرَ من ألفي شيخ".
قال الذهبي -رحمه الله-: "كذا فلتكن الهمم، هذا مع ما كانَ عليه من الفقهِ والعربيَّةِ، والفضائل الباهرة، وكثرةِ التصانيف".
وقال أبو حاتِمٍ الرازي -رحمه الله- لابنه عبدِ الرحمن: "يا بنيَّ، مَشَيْتُ على قدمي في طلب الحديث أكثر من ألف فرسخ".
والفرسخ يُعادل ستةَ كيلو مترات تقريبًا, أي أنه مشى على قدمَيه ما يُقارب ستة آلاف كيلو في طلب العلم.
الله أكبر, نحن لم نمشِ مثلها ولا أقلَّ منها على مراكبنا السريعة, في طلب معالي الأمور, وهو يمشي هذه المسافات على قدمَيه, ولكنها الهمم التي كالجبال.
وإذا كانت النفوسُ كِبارا *** تعبتْ في مُرادها الأجسامُ
خرج بعضُ السلف إلى البصرة, لِيَسأل عالِمًا عن آية يجهلُها, فلم يجد عنده فيها علما, فدلّه على عالمٍ من أهل الشام, فقدم إليه وسأله عنها.
قارنوا بين حالِه وحالنا, تفاسيرُ العلماء منتشرةٌ في كل مكان, في المساجد والبيوت والجوالات, ولم نُكلّف أنفُسنا الرجوعَ إليها, إذا أشكلت علينا آيةٌ.
صاحب الهمة العالية لا يقنع بما دون الجنة.
قال عمر بن عبد العزيز -رحمه الله-: "كانت لي نفسٌ تَوَّاقة, فكنت لا أنال منها شيئاً إلا تاقت إلى ما هو أعظم, فلما بَلَغَتْ نفسي الغاية, تاقت إلى الآخرة".
وقيل للعتّابيِّ -رحمه الله-: فلانٌ بعيدُ الهمة. قال: "إذن لا يكون له غايةٌ دون الجنة".
نسأل الله الفردوس الأعلى من الجنة, وأن يجمعنا بها مع أوليائه الصالحين, إنه سميعٌ قريبٌ مُجيب.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه والتابعين, وسلَّم تسليما كثيرا إلى يوم الدين..
أما بعد: أيها المسلمون: لِنَيْل الهمةِ العاليةِ أسبابٌ كثيرةٌ من أهمّها:
أولا: توفيقُ الله –تعالى- وإعانتُه, فاطلب الهِمَّةَ من الْمُعينِ الكريم, فلن تنال التوفيق إلا منه, ولن تبلغ المجمد إلا بعنايتِه سبحانه.
ثانيًا: التّفكرُ في شَرَفِ ما تَطْلُبُه وتَسْعى إليه.
قال بعضُ السلف: "من عرف ما يَطلب, هان عليه ما يَبذل".
ثالثًا: مُصاحبةُ أصحاب الهمم العالية, والنظر في سيرهم وأخبارِهم, والبعدُ عن أصحاب الهمم الدنيّة أو الْمُثبّطة. ولذلك قَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إِذَا نَظَرَ أَحَدُكُمْ إِلَى مَنْ فُضِّلَ عَلَيْهِ فِي المَالِ وَالخَلْقِ، فَلْيَنْظُرْ إِلَى مَنْ هُوَ أَسْفَلَ مِنْهُ"، ومفهومه: "إِذَا نَظَرَ أَحَدُكُمْ إِلَى مَنْ فُضِّلَ عَلَيْهِ فِي العلم والدينِ، فَلْيَنْظُرْ إِلَى مَنْ هُوَ أَعلا مِنْهُ".
فقد أوصانا إمامُنا وحبيبُنا -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بهذه الوصية العظيمة, التي لو عملنا بها, لَحصَّلْنا خيري الدنيا والآخرة, فإذا نظرنا إلى من هو أقل منَّا في أمور الدنيا, قَنِعْنَا بِمَا عندنا, وإذا نظرنا إلى من هو أعلا منَّا في الدين والأخلاق, علت همَّتُنا بأن نكون مثلهم أو أحسن منهم.
رابعًا: وضعُ خطةٍ تَسير عليها, وأهدافٍ واضحةٍ تتطلّع إليها, وتُحاسب نفسك على عدم التقيّد بها.
خامسًا: عدمُ الانصياع وراء النفس الأمارة بالسوء, فاحذر أنْ تُجيبها إلى الدّعة والراحة.
والنفسُ كالطفلِ إنْ تهملهُ شَبَّ على *** حُبِّ الرَّضاعِ وإنْ تَفْطِمْهُ يَنْفَطِم
وتأملوا في حال نبيِّ الله يوسفَ -عليه الصلاة والسلام-, هل يُمكن أنْ يصل إلى ما وصل إليه من المكانة والرفعة, وتخليدِ ذكره, لو وافق مرادَ امرأةِ العزيز, وهي تدعوه إلى مُواقعتها, وهي بكامل زينتها وشرف منصبِها؟
قال ابن الجوزي -رحمه الله-: "من تذكر حلاوة العاقبة نسي مرارة الصبر".
خامسا: المجاهدة والصبر: فجاهدْ نفسَك وألْزِمْها بلوغَ الغايات, وأعلى المقامات, وعدمَ الرضا بالدُّوْن، وكُلَّما جاهدتَّ نفسك في بلوغ القِمَمِ بَلَغْتَها بحول الله تعالى, وقد وعد الله تعالى ومن أصدق من الله قِيْلاَ, الهدايةَ لِمَنْ جاهد وصابر, (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) [العنكبوت: 69].
ومن أعظم المجاهدة: إلزامُ النفسِ تغييرَ طبعِها إلى ما هو أفضل, ولنْ تَشُمَّ رائحةَ الهمّةِ والتوفيقِ والمجد, وأنت مُسْتَسْلِمٌ لطبعك, أسيرُ عاداتك ونشأَتِك.
فكن رجلاً رِجْلُه في الثَّرى *** وهَامَةُ هِمَّتِه في الثُّرَيَّا
أمة الإسلام: عظيمُ الهمّةِ لا تمنعه عن الوصول إلى القمّة, إعاقةٌ ولا فقرٌ ولا كِبَر, فالكثير من العظماء بلغوا الغاية في الشرف والنُّبل, وهم مُبتَلَون بِإِحْدَى هذه الصفات أو كُلِّها.
بل إنّ عاليَ الهمة لا يقف عن طلب معالي الأمور, ولو كان على فراش الموت.
دخلوا على سفيان الثوري -رحمه الله- في مرضه الذي مات فيه, فحدثه رجلٌ بحديث فأعجبه, فأخرج ألواحاً له فكتب ذلك الحديث.
أين نصيبك من الهمة يا طالب العلم, كم أمضيتَ في العلم وأنت لا تزال تزحف فيه زحفًا, يومًا تنشغل بالسّفريّات, ويومًا تنشغل بالتقنيات, وأوقاتًا كثيرةً تُضيّعها بالقيل والقال مع الأصحاب والأقارب؟!
أين نصيبك من الهمة يا صاحب التجارة والمال, أين مشاريعك الخيريّةُ التي تنفع فيها أمتك وأهلَك؟!
أين نصيبك من الهمة يا صاحب الشهادات, هل وَقَفَتْ هِمّتُك عند تَوَسُّدِهَا والتفاخرِ بها؟ أين أنت من تزكية علمك, والأمةُ مُحتاجة إلى مثلك؟!
أيها الشاب, استفق من غفلتك, فبين جنبيك همّةٌ تُناطح الجبال, لكنّك أهملتها بانشغالك بسفاسف الأمور, وأضعتَها بين الاستراحة والسيارة والجوال.
وإنه والله من الدّناءَةِ والسّفاهة, أنْ تَرَىَ شَابًا يَافِعًا, يقف بسيّارته على الطريق, ويُلمعّها ويُجملها أمام المارة.
يا خادمَ الجسمِ كم تشقى بخدمتهِ *** لتطلبَ الربحَ في ما فيه خُسْرانُ
أقبلْ على النفسِ فاسْتَكْمِلْ فضائلها *** فأنتَ بالنفسِ لا بالجسمِ إِنسانُ
نسأل الله -تعالى- أنْ يرزقنا الهمّةَ العالية, وأنْ يجعلها في سبيل مرضاتِه, إنه على كلِّ شيءٍ قدير.
التعليقات