د. أحمد إبراهيم خضر
(إن الدين عند الله الإسلام) حقيقة سهلة بسيطة قاطعة الوضوح لا لبس فيها، تعرف وتحدد ما هو الدين. لا سبيل لفهم الدين إلا في ضوئها، ولا تدرس الأديان الأخرى إلا كانحراف عنها. ولا سبيل لعلاج المشكلات النفسية والعصبية والعقلية إلا بها، ولا حل لمشكلات المجتمع وانهياره وتفككه وما يعانيه من أمراض الزنا والسرقة والإدمان والغش وغير ذلك إلا بتحكيمها، ولا طريق لإنهاء مشاكل العالم وحروبه وصراعاته إلا بالإعتراف والتسليم بها، ولا شريعة ولا قانون ينظم حياة الناس في الإقتصاد والإجتماع والسياسة والتربية إلا الشريعة المنبثقة منها.
الإسلام هو شهادة أن لا إله إلا الله، والإقرار بما جاء من عند الله من عقيدة وتشريع أنزلهما علي رسوله محمد صلي الله عليه وسلم. هو الإخلاص لله وحده وعبادته وحده لا شريك له. هو دين الله الذي شرعه لنفسه ودل عليه عباده، لا يقبل غيره، ولا يجزي إلا به، ولم يبعث رسولاً إلا بالإسلام.
إذا أقدمت علي فهم الدين وأنت تحمل في عقلك وفي قلبك وبين جنبيك هذه الحقيقة، استوقفك علم الإجتماع وقال لك: إنك رجل (لاهوتي)، أو (رجل دين)، تعتمد في أحكامك علي أفكار مسبقة نابعة من وجهة نظرك المدافعة عن الإسلام. وإن هذه الحقيقة التي أتيت بها ليست في منهجها وتحليلها دراسة علمية للدين، وإنك بتبنيك هذه الحقيقة قد تعديت دورك - إذا كنت عالم اجتماع - لأنك تتحدث من داخل تراث فكري معين في حين أن متطلباتك الرئيسية تقتضي منك أن تضع نفسك في عقل المؤمن دون أن تنتمي إلي معتقده، وإنه يلزم عليك أن تتراجع عن هذا الإسلام لكي تفكر كعالم اجتماع.
• إذا قلت: إن هذه الحقيقة نص قرآني منزل لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
• أجابك عالم الإجتماع: نحن - في علم الإجتماع - لا نعبأ بالنص، وإنما بالوظيفة التي يؤديها النص في حياة الناس.
• إذا قلت: إن إستبعاد النص يعني استبعاد الإعتقاد، ويدعم فكرة هامشية الدين وعدم أهميته.
• أجابك عالم الإجتماع: هذا صحيح، نحن نستبعد الإعتقادات كقوي سببية في تفسير الفعل الإنساني، وننظر إلى الدين عبر أنظمته والسلوكيات القابلة للقياس فقط.
إذا قلت: (أفي الله شك؟)
• أجابك عالم الإجتماع: إن (الله) يقف حائلاً دون الدراسة والبحث في حقيقة الدين ومقارنته في مختلف صوره، وفي تعبيره عن حياة الجماعة وتطورها. ذلك لأن فكرة الألوهية تفترض وجود موجود يختلف عن غيره من الموجودات، وتتجه إليه كل الموجودات. هذه الفكرة تحول بيننا وبين البحث في حقيقة الدين.
إذا سألت: من هو (الله) في علم الإجتماع؟
• أجابك: (الله) عندنا مجرد (رمز). وبعضنا يراه قوة العقل الخلاقة في المادة. والآخر يتبني المفهوم الفرويدي الذي يري أن (الله) تطوير إسقاطي لاعتماد الطفل علي والديه وخاصة الأب؛ لأن من الوظائف الرئيسة للدين إعطاء الإنسان غطاء من الوهم ضد خوفه من الطبيعة والإحباطات التي يواجهها داخل المجتمع، وبتقدم العلوم سوف يصبح الجنس الإنساني أكثر عقلانية، ويتعلم كيف يخرج من تفكير التبعية الطفلية التي أخذت شكل الدين.
إذا سألت: إذ لم يكن (الله) حقيقة فماذا يعني إعتقاد الناس فيه؟
• أجابك عالم الإجتماع: إن الإعتقاد في وجود إله سام يعني الوعي بأن الناس يرتبطون فيما بينهم بمشاعر وقيم عليا فقط، ومن ثم لا يحتاج هذا المتسامي إلي وحي أو نبي أو غير ذلك.
إذا سألت: ماذا يقول علم الإجتماع في الوحي؟
• أجابك عالم الإجتماع: ليس بحقيقة طبعاً. إن الدين يدعي التميز بهذا الوحي، ولهذا فإن هذا الأخير هو موضوع دراستنا وبحثنا.
إذا قلت: إذا لم يكن الدين وحياً من الله فممن يكون؟
• أجابك عالم الإجتماع: من المجتمع قطعاً. إن الجماعة الإجتماعية هي المسؤولة عن تكوين الدين، الدين خاص بجماعة معينة، وعندما تتغير الجماعة يتغير الدين، والأشياء المقدسة في أي دين هي في الحقيقة رموز للمجتمع الذي يمارس هذا الدين، فعندما يتجمع الناس في مناسبات يقوي بينهم الإحساس، وبتكرار هذا الإحساس في المناسبات يأخذ شكل الشعائر التي تأخذ في ذهن المشاركين فيها صورة القوي المقدسة. وهذه الأحاسيس التي يعبر عنها في شكل شعائر تنعكس علي الموضوعات التي تصبح ذات طبيعة خاصة في رأي الجماعة، وتضفي نوعاً من الخشوع الديني في مواجهة القوي الغامضة.
إذا قلت: أليس الدين هو الطريق الصحيح الذي يعطي صورة كلية عن الكون والحياة ويحميه من الخوف واللامعنى؟
• أجابك عالم الإجتماع: لا، إنه المجتمع هو الذي يعطي هذه الصورة المتكاملة، وهو الذي يجهز الأفراد بإطار مرجعي للتوقعات، ويحميهم من اللامعنى واللامعيارية والخوف وعدم الإستمرارية وإن أخذ شكل الدين.
إذا سألت: أليس الدين هو الذي يقدم ما يفيد الإنسان؟
• أجابك عالم الإجتماع: هناك تناقض في جوهر الدين. وقد يكون الدين مفيداً في بعض الأحيان لأنه يحمي الإنسان من الشذوذ، لكنه ضار أيضاً لأنه يعزل الإنسان عن العالم، وهو يعمل علي إعاقة التطور الإقتصادي في المجتمع؛ إذا لو أعطيت حرية التعبير كاملة فإن المصلحة الدينية قد تجعل الحياة الإقتصادية مستحيلة. إنه يقف ضد إقتصاد البنوك (الإقتصاد الربوي) كما يقف ضد إستخدام حبوب منع الحمل وضد التعليم العلماني، وكل هذه الأمور تغيرات مطلوبة للمجتمع الحديث يعوقها الدين. وكما استخدم الدين لإنارة الطريق في عالم مجهول وظهرت المثاليات باسم الدين، فإنه إستخدم أيضاً ليقيد الناس بعادات وتقاليد بالية.
وإذا سألت: وماذ يقول علم الإجتماع عن هؤلاء الذين يؤمنون بالدين في مختلف بقاع الأرض؟
• أجابك عالم الإجتماع: إن الإدعاءات المتنوعة للحقيقة الدينية تتصف بالعمومية والتناقض، وليس هناك دين يتسم بالكمال، ولهذا فإنها جميعاً خاطئة، ويجب الإستغناء عنها، ومع التقدم العلمي ستختفي هذه الخرافات، وسيتزايد الاتجاه نحو رفض الدين بإعتباره من بقايا العلم.
فإذا قلت: هل الدين كذب إذن؟
• أجابك عالم الإجتماع: نحن لا يعنينا صدق الدين أو كذبه أو حتي نفعه أو ضرره، كل الذي يعنينا هذا التفاعل بين الدين وبين ظواهر المجتمع ونظمه الأخري.
فإذا سألت: أيعني هذا أن الدين ظاهرة أو نظام إجتماعي؟
• أجابك عالم الإجتماع: هذا صحيح، بل علاوة علي ذلك هو حركة وتجربة، بمعني إنه من صنع الناس والجماعة والمجتمع.
وإذا سألت: وماذا تقولون في الرسالات السماوية؟
• أجابك عالم الإجتماع: إن الحقائق الدينية التي أخذت شكل رسالات سماوية أو وحي عن طريق رسل معينين تم التعبير عنها وترجمت بلغات إنسانية واللغة عندنا ما هي إلا رموز.
فإذا سألت: وماذا تقولون إذن في الإله والجنة والنار والملائكة والشياطين؟
• أجابك عالم الإجتماع: كلها رموز وليست بحقيقة، ذلك لأن للإنسان قدرة متميزة علي إبتكار واستعمال الرموز والقدرة علي إضفاء معان علي الأشياء والأصوات والكلمات والأفعال، وهذه المعاني ليست قائمة في الأشياء، ولكنها من خلق الإنسان نفسه، وبخلق الإجماع حول تلك المعاني تستطيع الجماعات أن تتصل وتكتسب المعرفة، وليست اللغة إلا عملية رمزية استطاع الإنسان أن يتعامل بها مع المفاهيم المجردة والمشاعر الإنسانية. ويحتوي السلوك الديني - بطريق مباشر أو غير مباشر - على أفعال رمزية، ولهذا فإن الله والجنة والنار والشياطين والملائكة ما هي إلا معان ومفاهيم لا تفسر إلا رمزياً، وتأخذ شكل رموز معينة.
فإذا سألت: وما معنى الرمز ومم يؤخذ؟
• أجابك عالم الإجتماع: الرمز صورة تساعد نفس العابد علي الإدراك والتعبير عن الله، وتستمد هذه الصورة من العالم (المادي) القريب كحواس الإنسان وظروف حياته، ومن نفسه ومن الآخرين ومن الإنفعالات والأفعال والإرادة والقيم. إن الناس لا يدركون في دينهم حقيقة خارج أنفسهم، ونظراً لأن بعض جوانب الوجود الإنساني غامضة، فإنهم يتخيلون وجود الله والقوى فوق الطبيعية، وبهذا يخضع تفكيرهم للنواحي الإنفعالية.
وإذا سألت: ماذا تقولون في شعائر الدين كالصلاة والصيام والحج؟
• أجابك عالم الإجتماع: إنها مجرد وسائل، إما أنها تلبي رغبة الإنسان في التحكم في الطبيعة وإزالة الخوف الذي ينتابه من القوى الطبيعية وخاصة عند الأمور غير المتوقعة التي تثير لديه الرعب والخوف، كعدم إمطار السماء وموت المحاصيل والرياح والعواصف التي تثير الخوف، فيقابلها الناس بشعائر جمعية يستخدمونها كوسائل للتحكم في العالم، وهم لا يتساءلون وهم يؤدون هذه الشعائر لماذا يؤدونها، المهم أنها تلبي رغبتهم في التحكم في الطبيعة، وتزيل عنهم القلق الذي ينتابهم. وإما إنها وسائل لحل مشكلة ما، ذلك لأن كل فعل إنساني هو شكل أو درجة من فعل أو ميكانيزم لحل مشكلة معينة سواء في الحاضر أو المستقبل، والسلوك الديني مثله مثل أي سلوك آخر يحاول حل مشكلة ما بالصلاة والذهاب إلي دور العبادة ومراعاة الحدود الدينية، كما تساهم كل الأنشطة الدينية الأخرى بطريقة معينة في حل مشكلة ما موجودة أو متوقعة، فالناس ينشغلون بالأنشطة الدينية علي إعتقاد منهم بأن هذا سوف يحل مشاكلهم. والركوع والسجود في الصلاة كالرقص واستخدام الموسيقي كلها تعبيرات عن الإتصال بالحقيقة العليا. ويعتمد أداء الشعائر بصفة عامة علي الحالة العقلية والإنفعالية التي يكونها أفراد المجتمع نحو الشعيرة، وعلي المحتوى الاجتماعي والثقافي الذي تمارس فيه هذه الشعيرة، وسلوك الإنسان سلوك عادي لكنه إذا مورس في مناسبة معينة أخذ شكلاً مقدساً.
وإذا سألت: هل توصل علم الإجتماع إلى تعريف محدد للدين؟
• أجابك عالم الإجتماع: الأمر الذي نتفق عليه في علم الإجتماع والأنثروبولوجيا هو أن الدين من صنع المجتمع والثقافة. وتكاد تجمع معظم العلوم الإجتماعية علي أن الدين نوع من التضليل الإجتماعي، أو نوع من الأفعال الرمزية التي أسئ فهمها ونسيت معانيها، وأنه نوع من الجهل أو الوهم أو الخطأ الإنساني، إنه أنين الكائن المضطهد، وقلب العالم عديم الرحمة، وحس الظروف القاسية. الدين أفيون الشعوب، والسحر مرحلة سابقة علي أي شكل من أشكال الدين، والإعتقاد في السحر دليل على ذكاء الإنسان في محاولته المستمرة التحكم في العالم، وإذا ما فشل السحر في إرغام الطبيعة على العطاء فإن الإبتهال الديني قد يحثها علي ذلك. الدين أسلوب من الأساليب البدائية في التفكير الذي لا يزال يميز بعض الثقافات الدنيا في سلسلة التطور، فكل متدين هو بدائي ينتمي إلي ثقافة دنيا لم تتطور بعد. الدين كان مناسباً لطفولة الإنسانية، أما الآن فإنه غير مناسب لها. الدين خطأ فكري، ستؤدي العقلانية إلي إضعافه وإخفاقه عند أفراد المجتمع ككل. والاهتمام بالدين لا يكون إلا من الناحية التاريخية فقط، لكنه لا يناسب المجتمع الحديث. خلاصة ذلك أن الدين بمعني أو بآخر غير حقيقي وغير عقلي في المجتمعات الحديثة.
هذه هي التعريفات العامة للدين في تراث العلوم الإجتماعية، أما في علم الإجتماع عندنا، فهناك إختلافات حتى الآن في تحديد معنى الدين، ولازالت المناقشات مستمرة لإيجاد تعريف له، وذلك حتى يمكن التمييز بينه وبين السحر من ناحية، وبينه وبين العلم والفلسفة والحماس الإجتماعي والسياسي من ناحية أخري. إذا ذهبت إلي (ماكس فيبر) وسألته ما هو الدين، قال لك: إنه سيحدده لك بعد أن ينتهي من دراساته عنه، ثم تجد أنه بعد أن أنهى هذه الدراسات أو بعد أن انتهى من جزء كبير منها لم يصل بنا إلي التعريف المرتقب. إذا تركت (فيبر) وذهبت تلاحق علماء الإجتماع في محاولاتهم لتحديد معنى الدين لا تصل إلي شئ محدد. البعض الأول منهم ممن يمثلون ثقافات مختلفة وإهتمامات متنوعة يعطون تعريفات تناقض بعضها بعضاً، إلي درجة أن زملاءهم قالوا عنهم إنهم لا هم لها إلا التلاعب بالألفاظ. البعض الثاني يعد بأنه سيصل إلي هذا التعريف بعد أن ينهى بحوثه الأمبيريقية. البعض الثالث يقول لك: كيف نبحث ونناقش شيئاً غير محدد؟ وإنه من الصعب تحليل شئ دون أن يكون لدينا معيار تعريفه. أما عن المحاولات الفعلية لتعريف الدين فهذا أحدهم يقول إن الدين هو طريق الخلاص الذي تعضده الجماعة. لكن زملاءه يقولون له الخلاص من ماذا؟ من اللامعنى؟ من المعاناة؟ إن الطب يشترك مع الدين في هذا المعنى وفي هذه الطريقة، وعلى الدين أن يسلم للطب بذلك، خاصة بعد أن نمت المعرفة الطبية واتسعت، وهذا ثان يقول لك إن الدين يعني رفض الإستسلام للموت، وهذا ثالث يقول إن أي هدف حماسي أو أي ولاء قوي تشارك فيه الجماعة هو دين. وهذا رابع يقول إن الدين ما هو إلا نسق رموز تحاول خلق حالة نفسية عامة ومستمرة ودوافع عند كل الناس عن طريق تكوين مفاهيم عن النظام العام للوجود، وتغليف هذه المفاهيم بحالة من القدسية حتي تبدو هذه الدوافع علي إنها واقعة متميزة، هذا خامس يدخل تحت مفهوم الدين الحركات الواقعية والفاشية والعلمية والإنسانية والشيوعية، هذا سادس يري أن الدين إعتقاد في كائنات روحية. هذا سابع يري أن الدين بشكل أو بآخر تعبير عن الإحساس بالإعتماد أو التبعية لقوي خارج الناس. أما (دور كايم) فقد ترك بصماته واضحة في علم الإجتماع في مسألة تعريف الدين فقال: إنه نسق موحد من الإعتقادات والممارسات المتصلة بالأشياء المقدسة، أي الأشياء التي تستبعد وتحرم وتتحدد في جماعة أخلاقية متفردة تسمي الكنيسة لكل المنتمين لها.
يتبع بإذن الله
التعليقات