عناصر الخطبة
1/ وقفة مع قوله تعالى ( عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ ) 2/من تبحث عنهم الدنيا؟ 3/قارون والمغرورون به والدنيا 4/وقفة مع: (ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا) 5/التحذير من الدنيا وزخرفهااقتباس
وكم ترى من أناس يلهثون وراء الدنيا ويسعون بأيديهم وأرجلهم خلفها، ويجرون جرياً وراءها، ومع ذلك فهي معرضة عنهم وبعيدة منهم، كلما زادوا منها قرباً كلما ازدادت عنهم إدباراً وبعداً؛ لأن الله لم يشأ لهم أن يكونوا ممن شاء لهم أن يُؤتوا من حظوظها ويحصلوا من أمتعتها...
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي خلق للعباد دارين؛ دار عمل واكتساب ودار جزاء وثواب، فدارُ العمل والاكتساب هي الحياة الدنيا, جعلها الله عبورا للعباد ومزرعة يحصدون ما زرعوا فيها يوم القيامة, وحينئذ يتبين ربح التجارة من الكساد، وأما دار الجزاء والثواب فهي الدار الآخرة والحياة الباقية, إما في جنة وإما في نار.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وله العزة والاقتدار، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله المصطفى المختار, صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان آناء الليل والنهار وسلم تسليما.
أما بعد:
عباد الله: يقول الله -تبارك وتعالى- في كتابه العظيم: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا) [الإسراء : 18].
إن هذه الآية يخاطب الله -جل وعلا- فيها من كان طلبه الدنيا، وهمه مقتصر عليها، وسعيه خاص بها فلها يعمل، ومن أجل حطامها الزائل ومتاعها القليل يسعى، وإياها يبتغي، لا يوقن بمعاد، ولا يرجو ثواباً ولا يخشى عقاباً، ولا يطمع في جزاء أخروي على عمله. فهؤلاء يعجل الله لهم جزاءهم في الدنيا ويعطيهم منها.
لكن انتبهوا ليس للكل، ولا يعطى كل أحد من مريدي الدنيا وطلابها، وإنما فقط (مَا نَشَاءُ) و(لِمَنْ نُرِيدُ). تأملوا في قوله تعالى: (عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ) فلو آتاه الله منها فليعلم علم اليقين أنه لن يأتيه كل ما يشتهي، ولن يحصل على كل ما يريد، ولن يتحقق له كل ما يطلب، وإنما سيأتيه منها ما شاء الله له أن يأتيه.
سيأتيه منها ما يشاء الله له لا ما يشاء هو، وما يدريه فلعل الله أن يجعله من أهل الدنيا وممن يكون سعيه من أجل الدنيا, ولكن لا يأتيه منها بعد ذلك إلا القليل الذي لا يسمنه ولا يغنيه من جوع، فليس معه منها إلا الشقاء والهم والتعاسة.
يصبح ويمسي مهتماً بها، معلقاً قلبه فيها، يسعى بكل جهده وطاقاته وإمكانياته من أجلها، ثم لا يأتيه إلا الأقل، فيا للتعاسة والشقاء، يقول الله -سبحانه وتعالى- عن هؤلاء: (الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ) [إبراهيم : 3].
ثم تأملوا في قول الله:(لِمَنْ نُرِيدُ)، فلو كان العبد همه الدنيا وسعيه لها؛ فلا يدري هل سيعطى منها كثيراً أو قليلاً؟ وأيضاً فحتى هذا العطاء قليلا كان أو كثيراً لا يكون لكل أحد وإنما لمن نريد.
فلا يبسط الله الدنيا لكل من أرادها، ولا يعطيها كل من طلبها، وإنما يعطيها فقط لبعض مريديها ممن يريد الله -سبحانه وتعالى- أن يعطيهم منها وكتب لهم أن يحصلوا على ما شاء لهم أن يحصلوا عليه من شهواتها وملذاتها.
يقول الله -سبحانه وتعالى-: (اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ) [الرعد : 26]، ويقول: (إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا) [الإسراء : 30]، وقال: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) [الروم : 37]. فكل هذه الآيات تبين أن بسط الرزق لا يكون إلا لمن يشاء من عباده، ولا يبسط الرزق لكل أحد.
بل ربما يكون العبد قد طلق الدنيا وابتعد عنها، وهجر ملذاتها وترك متاعها، ومع ذلك تجد أن الرزق يأتيه، والدنيا هي التي تجري وراءه، وما ذلك إلا لأن الله -سبحانه وتعالى- قد كتبه ممن يشاء من عباده الذين تبسط عليهم الدنيا.
وكم ترى من أناس يلهثون وراء الدنيا ويسعون بأيديهم وأرجلهم خلفها، ويجرون جرياً وراءها، ومع ذلك فهي معرضة عنهم وبعيدة منهم، كلما زادوا منها قرباً كلما ازدادت عنهم إدباراً وبعداً؛ لأن الله لم يشأ لهم أن يكونوا ممن شاء لهم أن يُؤتوا من حظوظها ويحصلوا من أمتعتها.
وما دام الأمر كذلك -يا عباد الله- فالواجب علينا جميعاً قبل أن نسعى في البحث عن أسباب الرزق ووسائله علينا, أولاً: أن نتجه إلى الله ونتوكل عليه، ونطلب معونته، ونمد أكف الضراعة إليه، فالأمر كله بيديه، والخير إليه، وهو القادر وحده -سبحانه وتعالى- على أن يجعل الواحد منا ممن يشاء لهم أن تبسط له الدنيا أو تقتر عليه.
إن رسولنا -صلى الله عليه وسلم- أخبرنا متى تطلب الدنيا الواحدَ منا، وكيف تبحث عنه وتتقرب إليه، وذلك عندما لا يجعل لها في قلبه مكاناً، ولا يجعلها نصب عينيه ومبلغ همه ومنتهى آماله، وأن تكون في طرف يده لا في وسط قلبه، فإذا تعامل معها بهذه الطريقة أتته رغم أنفها وبحثت عنه بنفسها، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم- في الحديث الصحيح: "مَنْ كَانَتِ الدُّنْيَا هَمَّهُ، فَرَّقَ اللَّهُ عَلَيْهِ أَمْرَهُ، وَجَعَلَ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَلَمْ يَأْتِهِ مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا مَا كُتِبَ لَهُ، وَمَنْ كَانَتِ الْآخِرَةُ نِيَّتَهُ، جَمَعَ اللَّهُ لَهُ أَمْرَهُ، وَجَعَلَ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ، وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ " [ابن ماجة (4105)].
أيها الناس: قد يطلب الشخص الدنيا وتشاء مشيئة الله -سبحانه وتعالى- أن يجعله ممن أراد لهم أن يعطوا حظاً كبيراً وقسطاً عظيماً منها، ولكن هل يظن العبد بعد ذلك أن الأمر انتهى؟ .
كلا؛ إنه امتحان عظيم وبلاء كبير، فإما أن تستخدم الدنيا في طاعة الله وتجعلها جسراً لك إلى عبور الآخرة والفوز بها، وإما وهذا الغالب -إلا من رحم الله- تجرفك بزينتها، وتغريك بغرورها، وتلهيك عن الآخرة وحسابها، ولذلك يقول الله -سبحانه وتعالى-: (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا) [الكهف : 28].
إن قارون آتاه الله من الدنيا كنوزاً لا تعد وأموالاً لا تحصى، حتى أن مفاتيح خزائنه -وليس خزائنه نفسها- يؤتى لها بالرجال الأشداء ليحملوها، فنهاه الله عن الغرور، وحذره من التجبر والتكبر، ولكنه (قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي) [القصص : 78]، واغتر به مريدو الدنيا والجشعون لها الطامعون في حطامها وقالوا: (يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) [القصص : 79].
ولكن حينما جاءت النهاية وحل به العذاب ذهبت تلك الأماني، وتلاشت تلك الأمنيات، (وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ) [القصص : 82].
فالحذر الحذر من الدنيا وغرورها، فإن حياتها عناء، ونعيمها ابتلاء، وعيشها نكد وصفوها كدر، وليكن هم الواحد منا الآخرة، وسعيه لتلك الحياة السرمدية الباقية، (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) [القصص : 77].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا بما فيه من الآيات والعظات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، واستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه، وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله تعالى الرحيم الرحمن، الكريم المنَّان صاحب الفضل المبين، والصلاة والسلام على النبي الأمين، وعلى آله وأصحابه أعلام الدين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
أيها المسلمون: نكمل حديثنا حول الآية الكريمة التي يقول الله -سبحانه وتعالى- فيها: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا) [الإسراء : 18].
من كان يطلب الدنيا ويتجه إليها فلا يظن أنه سيعطى منها كل ما يريد، ولا يظن كل من جعل الدنيا همه أنها ستنفتح له وتمشي معه، وإنما كما بينّ الله (مَا نَشَاءُ)، و(لِمَنْ نُرِيدُ). هذا في الدنيا أما في الآخرة فكيف سيكون حاله؟ اسمعوا إلى حاله في الآخرة قال: (ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا).
وهذا معناه أن من يريد الله -سبحانه وتعالى- أن يعجل له الهلاك ويكتب عليه النكال والوبال فإنه ستعجل له الدنيا، ويعطى منها ما كتب له، ثم يأتيه العذاب الأبدي والعقاب السرمدي، حيث يدخله الله النار يصلاها أي يدخلها، ويباشر عذابها، حتى تغمره من جميع جوانبه حينما يؤاخذه الله على كل أعماله التي عملها في هذه الدنيا.
وياليته يدخل النار مجرد دخول، وإنما يدخلها وهو يذم على سوء صنيعه وشرور أفعاله فلا يمدح أبداً، ولذلك قال الله: (يَصْلَاهَا مَذْمُومًا). ولم يكتفِ بذمه وتقبيح فعله، وإنما فوق هذا كله (مَدْحُورًا) أي مطروداً من رحمة اللَّه، ورضاه فلا ينظر الله إليه ولا يكلمه، ويدحره في النار دحراً ويقصيه فيها. فهذه عقوبته في الآخرة، مع أنه لا ينال من الدنيا إلا ما قدره الله -سبحانه وتعالى- له.
ومادام الأمر كذلك فما على المرء إلا الحذر من الدنيا وزخارفها، ولتكن وجهته نحو الآخرة ونعيمها، فإن نعيمها هو النعيم الباقي الذي لا ينتهي ولا يحول ولا يزول، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "وَاللهِ مَا الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مِثْلُ مَا يَجْعَلُ أَحَدُكُمْ إِصْبَعَهُ هَذِهِ -السَّبَّابَةِ- فِي الْيَمِّ، فَلْيَنْظُرْ بِمَ تَرْجِعُ؟ ". [مسلم (2858)].
صلوا وسلموا وأكثروا من الصلاة والسلام على من أمركم ربكم -جل جلاله- بالصلاة والسلام عليه، فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب : 56].
اللهم صلي على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد.
اللهم لا تجعل الدنيا اكبر همنا ولا مبلغ علمنا ولا غاية رغبتنا.
اللهم ارزقنا الزهد في الدنيا والإقبال على الآخرة.
التعليقات