عناصر الخطبة
1/ عودة الأمة للقيادة منوطة بسيرها على الهدي النبوي 2/ تاريخ الخلفاء الراشدين مليء بالدروس والعبر 3/ التعريف بالخليفة الثالث عثمان بن عفان 4/ جانب من سيرته وفضائله 5/ بذله المال في سبيل الله تعالى 6/ رحمته وحياؤهاهداف الخطبة
اقتباس
حديثنا اليوم سيكون عن الخليفة الراشد عثمان بن عفان -رضي الله عنه-، الذي قال فيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "وأصدقها حياءً عثمان"، وقال فيه في غزوة تبوك بعد تقديمه النفقة العظيمة: "ما ضَرَّ عثمانَ ما عَمِلَ بعدَ اليومِ، ما ضَرَّ عثمانَ ما عَمِلَ بعدَ اليومِ". رواه الترمذي. وقد بشّره النبي -صلى الله عليه وسلم- بالجنة على بلوى تصيبه، وحثّ الناس عند وقوع الفتنة أن يكونوا مع عثمان وأصحابه...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله...
أما بعد:
أيها المسلمون: إن عودة الأمة لما كانت عليه في قيادتها للبشرية منوطة بسيرها على هدى النبي -صلى الله عليه وسلم- وخلفائه الراشدين، فقد أخبر الحبيب المصطفى -صلى الله عليه وسلم- عن المراحل التاريخية التي تمر بها الأمة في مسيرتها في الحياة، فقال -عليه الصلاة والسلام-: "تكونُ النبوةُ فيكم ما شاء اللهُ أن تكونَ ثم يرفعُها إذا شاء أن يرفعَها، ثم تكونُ خلافةٌ على منهاجِ النبوةِ فتكونُ ما شاء اللهُ أن تكونَ ثم يرفعُها إذا شاء أن يرفعَها، ثم تكونُ مُلكًا عاضًّا، فتكونُ ما شاء اللهُ أن تكونَ ثم يرفعُها إذا شاء أن يرفعَها، ثم تكونُ خلافةٌ على منهاجِ النبوةِ، ثم سكت". رواه الهيثمي في مجمع الزوائد، وهو صحيح.
إن معرفة عهد الخلافة الراشدة ومنهاج النبوة خطوة لا بد منها في تحقيق الأهداف التي تسعى الأمة لتحقيقها في هذه الحياة، فقد قال -صلى الله عليه وسلم-: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسَّكوا بها وعضّوا عليها بالنواجذِ".
إن تاريخ عصر الخلفاء الراشدين تاريخ مليء بالدروس والعبر، وتاريخنا الإسلامي أصبح غرضاً ومرمى لسهام أعداء الإسلام على مختلف مذاهبهم وعقائدهم، ويحاولون أن يوجدوا فجوة في الإسلام وتاريخه الزاهر حتى يتسنى لهم عزل الأجيال عن الإسلام وعقيدته وشريعته وقيمه وتراثه العلمي، ولذلك يبذلون قصارى جهدهم لنفث السموم في المجتمع الإسلامي.
لقد حاول المستشرقون ومن قبلهم الروافض أن ينشروا كل رواية باطلة تُنقِص من شأن الصحابة الكرام، وتطعن في تاريخ الأمة المجيد، وتصوّر تاريخهم بأنه صراع على السلطة والسيادة والنفوذ، ولذلك يجب الحذر من كل رافضي كاذب، ومستشرق حاقد، وعلماني جاهل، وكل من سار على نهجهم، ولا بد من الدفاع المستميت عن تاريخنا الخالد والهجوم الشجاع على مناهج الكذّابين والمنحرفين، ويكون هذا الهجوم المبارك بقذائف الحق العلمية المملوءة بالحقائق الساطعة والأدلة القاطعة والبراهين الدامغة.
أيها المسلمون: كان هناك حديث عن الخليفة الراشد أبي بكر الصديق -رضي الله عنه-، ثم حديث عن الخليفة الراشد عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-، وحديثنا اليوم سيكون عن الخليفة الراشد عثمان بن عفان -رضي الله عنه-، الذي قال فيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "وأصدقها حياءً عثمان"، وقال فيه في غزوة تبوك بعد تقديمه النفقة العظيمة: "ما ضَرَّ عثمانَ ما عَمِلَ بعدَ اليومِ، ما ضَرَّ عثمانَ ما عَمِلَ بعدَ اليومِ". رواه الترمذي. وقد بشّره النبي -صلى الله عليه وسلم- بالجنة على بلوى تصيبه، وحثّ الناس عند وقوع الفتنة أن يكونوا مع عثمان وأصحابه، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: إني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إنكم تلقون بعدي فتنة واختلافًا"، فقال له قائل مِنَ الناس: فمن لنا يا رسول الله؟! قال: "عليكم بالأمين وأصحابه"، وهو يشير إلى عثمان. رواه الإمام أحمد في مسنده بسند صحيح.
وقد كان الصحابة -رضي الله عنهم- في زمن النبي -صلى الله عليه وسلم- لا يعدلون بأبي بكر أحداً، ثم عمر، ثم عثمان، فعن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: "كنا في زمن النبي -صلى الله عليه وسلم- لا نعدل بأبي بكر أحداً، ثم عمر، ثم عثمان، ثم نترك أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- لا نفاضل بينهم". رواه البخاري.
هو: عثمان بن عفان بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس، ويلتقي نسبه بنسب النبي -صلى الله عليه وسلم- في عبد مناف. وأمه أروى بنت كريز بن ربيعة، وقد أسلمت وماتت في خلافة ابنها عثمان، وكان ممن حملها إلى قبرها، وأما أبوه فهلك في الجاهلية.
كان يكنّى في الجاهلية أبا عمرو، فلما ولد له من رقية بنت رسول الله غلاماً سماه عبد الله، فكنّاه المسلمون أبا عبد الله. وكان يلقب بذي النورين؛ لأنه لم يجمع بين ابنتي نبي منذ خلق الله آدم إلى أن تقوم الساعة غير عثمان.
ولد في مكة بعد عام الفيل بست سنوات على الصحيح، فهو أصغر من النبي -صلى الله عليه وسلم- بنحو خمس سنوات، وتزوج عثمان -رضي الله عنه- ثماني زوجات كلهنّ بعد الإسلام.
كان -رضي الله عنه- في أيام الجاهلية من أفضل الناس في قومه، فهو عريض الجاه ثري، شديد الحياء، عذب الكلمات، فكان قومه يحبونه أشد الحب ويوقرونه. لم يسجد في الجاهلية لصنم قط، ولم يقترف فاحشة قط، فلم يشرب خمراً قبل الإسلام وكان يقول: إنها تُذْهب العقل، والعقل أسمى ما منحه الله للإنسان، وعلى الإنسان أن يسمو به، لا أن يصارعه. وفي الجاهلية كذلك لم تجذبه أغاني الشباب ولا حلقات اللهو، ثم إن عثمان كان يتعفف عن أن يرى عورة.
ويرحم الله عثمان -رضي الله عنه- فقد يسر لنا سبيل التعرف عليه، حيث قال: "ما تغنيت، ولا تمنيت، ولا مسست ذكري بيميني منذ بايعت بها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولا شربت خمراً في جاهلية ولا إسلام، ولا زنيت في جاهلية ولا في إسلام".
أيها المسلمون: كان عثمان قد ناهز الرابعة والثلاثين من عمره حين دعاه أبو بكر الصديق إلى الإسلام، ولم يُعرف عنه تكلؤ أو تلعثم، بل كان سبّاقاً أجاب على الفور دعوة الصدّيق، فكان بذلك من السابقين الأولين.
فرح المسلمون بإسلام عثمان فرحاً شديداً، وتوثقت بينه وبينهم عرى المحبة وأخوة الإيمان، وأكرمه الله تعالى بالزواج من بنت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رقية، وقصة ذلك أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان قد زوّجها من عتبة بن أبي لهب، وزوج أختها أم كلثوم عتيبة بن أبي لهب، فلما نزلت سورة المسد: (تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ * سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ * وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ * فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَد). قال لهما أبو لهب وأمهما أم جميل بنت حرب بن أمية: فارقا ابنتي محمد، ففارقاهما قبل أن يدخلا بهما كرامة من الله تعالى لهما، وهواناً لابني أبي لهب، وما كاد عثمان بن عفان -رضي الله عنه- يسمع بخبر طلاق رقية حتى استطار فرحاً، وبادر فخطبها من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فزوّجها الرسول الكريم منه، وزفته أم المؤمنين خديجة بنت خويلد، وقد كان عثمان من أبهى قريش طلعة، وكانت هي تضاهيه قسامة وصباحة، فكان يقال لها حين زُفت إليه:
أحسن زوجين رآهما إنسانُ *** رقية، وزوجها عثمانُ
عن عبد الرحمن بن عثمان القرشي: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- دخل على ابنته يوماً وهي تغسل رأس عثمان، فقال: "يا بنية: أحسني إلى أبي عبد الله، فإنه أشبه أصحابي بي خُلُقًا". رواه الهيثمي في مجمع الزوائد.
أيها المسلمون: أوذي عثمان -رضي الله عنه- وعُذب في سبيل الله تعالى على يد عمه الحكم بن أبي العاص بن أمية الذي أخذه فأوثقه رباطاً وقال: أترغب عن ملة آبائك إلى دينٍ مُحدَث؟! والله لا أحلُّك أبداً حتى تدع ما أنت عليه من هذا الدين، فقال عثمان -رضي الله عنه-: والله لا أدعه أبداً ولا أفارقه، فلما رأى الحكم صلابته في دينه تركه.
وكان ممن هاجر إلى أرض الحبشة الهجرة الأولى والهجرة الثانية ومعه فيهما امرأته رقية بنت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وقد تحدّث القرآن الكريم عن هجرة المسلمين الأوائل إلى أرض الحبشة، قال الله تعالى: (وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلأَجْرُ الآَخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُون).
وله -رضي الله عنه- كلام يكتب بماء الذهب، فمن أقواله -رضي الله عنه- أنه كان يقول: "أربعة ظاهرهنّ فضيلة وباطنهنّ فريضة: مخالطة الصالحين فضيلة والاقتداء بهم فريضة، وتلاوة القرآن فضيلة والعمل به فريضة، وزيارة القبور فضيلة والاستعداد للموت فريضة، وعيادة المريض فضيلة واتخاذ الوصية منه فريضة". وقال -رضي الله عنه-: "أضيع الأشياء عشرة: عالم لا يُسْأل عنه، وعلم لا يعمل به، ورأي صواب لا يقبل، وسلاح لا يستعمل، ومسجد لا يصلى فيه، ومصحف لا يقرأ فيه، ومال لا ينفق منه، وخيل لا تُرْكب، وعلم الزهد في بطن من يريد الدنيا، وعمر طويل لا يتزود صاحبه فيه لسفره".
أيها المسلمون: لما خرج المسلمون لغزوة بدر كانت زوجة عثمان السيدة رقية بنت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مريضة بمرض الحصبة ولزمت الفراش، في الوقت الذي دعا فيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- للخروج لملاقاة القافلة، وسارع عثمان -رضي الله عنه- للخروج مع النبي -صلى الله عليه وسلم-، إلا أنه تلقى أمراً بالبقاء إلى جانب رقية -رضي الله عنها- لتمريضها، وامتثل لهذا الأمر بنفس راضية وبقي إلى جوار زوجته الصابرة الطاهرة رقية ابنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ إذ اشتد بها المرض، وطاف بها شبح الموت.
كانت رقية -رضي الله عنها- تجود بأنفاسها وهي تتلهف لرؤية أبيها الذي خرج إلى غزوة بدر، ورؤية أختها زينب في مكة، وجعل عثمان -رضي الله عنه- يرنو إليها من خلال دموعه، والحزن يعتصر قلبه، ودّعت نبض الحياة وهي تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ولحقت بالرفيق الأعلى، ولم ترَ أباها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حيث كان ببدر مع أصحابه الكرام، يُعلون كلمة الله، فلم يشهد دفنها -صلى الله عليه وسلم-، وجُهّزت رقية ثم حُمل جثمانها الطاهر على الأعناق، وقد سار خلفه زوجها وهو حزين، حتى إذا بلغت الجنازة البقيع، دفنت رقية هناك، وقد انهمرت دموع المشيعين، وسُوِّيَ التراب على قبر رقية بنت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
وفيما هم عائدون إذ بزيد بن حارثة قد أقبل على ناقة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يبشر بسلامة الرسول -صلى الله عليه وسلم- وقتل المشركين وأسر أبطالهم، وتلقى المسلمون في المدينة هذه الأنباء بوجوه مستبشرة بنصر الله لعباده المؤمنين، وكان من بين المستبشرين وجه عثمان الذي لم يستطع أن يُخفي آلامه لفقده رقية -رضي الله عنها-. وبعد عودة الرسول -صلى الله عليه وسلم- علم بوفاة رقية -رضي الله عنها-، فخرج إلى البقيع ووقف على قبر ابنته يدعو لها بالغفران.
أيها المسلمون: في العام التاسع الهجري وَلّى هرقل وجهه المتآمر صوب الجزيرة العربية متلمظاً برغبة شريرة في العدوان عليها والتهامها، وأمر قواته بالاستعداد وانتظار أمره بالزحف، وترامت الأنباء إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم- فنادى في أصحابه بالتهيؤ للجهاد وكان الصيف حاراً يصهر الجبال، وكانت البلاد تعاني الجدب والعُسرة، فإن قاوم المسلمون بإيمانهم وطأة الحر القاتل وخرجوا إلى الجهاد فوق الصحراء الملتهبة المتأججة فمن أين لهم العتاد والنفقات التي يتطلبها الجهاد؟! لقد حضّ الرسول -صلى الله عليه وسلم- على التبرع، فأعطى كلٌّ قدرَ وسعه، وسارعت النساء بالحلي يقدمنه إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يستعين به في إعداد الجيش، بيد أن التبرعات جميعها لم تكن لتغني كثيراً أمام المتطلبات للجيش الكبير، ونظر الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلى الصفوف الطويلة العريضة من الذين تهيؤوا للقتال وقال: "من يجهز هؤلاء ويغفر الله له؟!"، وما كاد عثمان يسمع نداء الرسول -صلى الله عليه وسلم- هذا حتى سارع إلى مغفرة من الله ورضوان، وهكذا وجدت العسرة الضاغطة عثمانها المعطاء، وقام -رضي الله عنه- بتجهيز الجيش حتى لم يتركه بحاجة إلى خطام أو عقال.
يقول ابن شهاب الزهري: قدّم عثمان لجيش العسرة في غزوة تبوك تسعمائة وأربعين بعيراً، وستين فرساً أتم بها الألف، وجاء عثمان إلى رسول الله في جيش العسرة بعشرة آلاف دينار صبها بين يديه، فجعل الرسول يقلبها بيده ويقول: "ما ضر عثمان ما عمل بعد اليوم، ما ضر عثمان ما عمل بعد اليوم".
كان عثمان -رضي الله عنه- من الأغنياء الذين أغناهم الله -عز وجل-، وكان صاحب تجارة وأموال طائلة، ولكنه استخدم هذه الأموال في طاعة الله -عز وجل- وابتغاء مرضاته وما عنده، وصار سبَّاقاً لكل خير، ينفق ولا يخشى الفقر.
عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قحط المطر على عهد أبي بكر الصديق، فاجتمع الناس إلى أبي بكر فقالوا: السماء لم تمطر، والأرض لم تنبت، والناس في شدة شديدة، فقال أبو بكر: انصرفوا واصبروا، فإنكم لا تمسون حتى يفرّج الله الكريم عنكم، قال: فما لبثنا أن جاء أُجراء عثمان من الشام، فجاءته مائة راحلة بُرّاً، فاجتمع الناس إلى باب عثمان، فقرعوا عليه الباب، فخرج إليهم عثمان في ملأ من الناس، فقال: ما تشاؤون؟! قالوا: الزمان قد قحط، السماء لا تمطر، والأرض لا تنبت، والناس في شدة شديدة، وقد بلغنا أن عندك طعاماً، فبعنا حتى نوسع على فقراء المسلمين، فقال عثمان: حبّاً وكرامة ادخلوا فاشتروا، فدخل التجار، فإذا الطعام موضوع في دار عثمان، فقال: يا معشر التجار: كم تُربحونني على شرائي من الشام؟! قالوا: للعشرة اثنا عشر، قال عثمان: قد زادني، قالوا: للعشرة خمسة عشر، قال عثمان: قد زادني، قال التجار: يا أبا عمرو: ما بقي بالمدينة تجار غيرنا، فمن زادك؟! قال: زادني الله -تبارك وتعالى- بكل درهم عشرة، أعندكم زيادة؟! قالوا: اللهم لا، قال: فإني أشهد الله أني قد جعلت هذا الطعام صدقة على فقراء المسلمين. قال ابن عباس: فرأيت من ليلتي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في المنام وهو على برذون أبلق عليه حُلَّة من نور، في رجليه نعلان من نور، وبيده قصبة من نور، وهو مستعجل، فقلت: يا رسول الله: قد اشتد شوقي إليك وإلى كلامك فأين تبادر؟! قال: "يا ابن عباس: إن عثمان قد تصدق بصدقة، وإن الله قد قبلها منه وزوجه عروساً في الجنة، وقد دُعينا إلى عرسه".
فهل يفتح الله تعالى آذان عُبَّاد المال، ومحتكري قوت العباد شحّاً وجشعاً إلى صوت هذه العظمة العثمانية حتى تدلف إلى قلوبهم فتهزها هزة الأريحية والعطف، وتوقظ فيها بواعث الرحمة والإحسان بالفقراء والمساكين والأرامل واليتامى وذوي الحاجات من أهل الفاقة والبؤس، الذين طحنتهم أزمة الحياة، واعتصرت دماءهم شراباً لذوي القلوب المتحجرة من الأثرياء؟! فما أحوج المسلمين في هذه المرحلة من حياتهم إلى نفحة عثمانية في إنفاق الأموال على الفقراء والمساكين والمحتاجين تسري بينهم تعاطفاً ومؤاساةً وبِرّاً وإحسانًا.
بارك الله لي ولكم...
الخطبة الثانية:
الحمد لله...
أما بعد:
أيها المسلمون: وبعد وفاة الفاروق عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أجمع أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وكذا من جاء بعدهم ممن سلك سبيلهم من أهل السنة والجماعة على أن عثمان بن عفان -رضي الله عنه- أحق الناس بخلافة النبوة بعد عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-، ولم يخالف أو يعارض في هذا أحد، بل الجميع سلّم له بذلك لكونه أفضل خلق الله على الإطلاق بعد الشيخين أبي بكر وعمر -رضي الله عنهما-.
أيها المسلمون: كان عثمان -رضي الله عنه- رجلاً هيناً ليناً مع الناس متواضعاً، فعن عمران بن عبد الله بن طلحة: أن عثمان بن عفان -رضي الله عنه- خرج لصلاة الغداة فدخل من الباب الذي كان يدخل منه، فزحمه الباب فقال: انظروا، فنظروا فإذا رجل معه خنجر أو سيف، فقال له عثمان -رضي الله عنه-: ما هذا؟! قال: أردت أن أقتلك، قال: سبحان الله! ويحك، علام تقتلني؟! قال: ظلمني عاملك باليمن، قال: أفلا رفعت ظلامتك إليَّ فإن لم أنصفك أو أعديك على عاملي أردت ذلك مني؟! فقال لمن حوله: ما تقولون؟! فقالوا: يا أمير المؤمنين: عدو أمكنك الله منه، فقال: عبد همَّ بذنب فكفه الله عني، ائتني بمن يكفل بك، لا تدخل المدينة ما وليت أمر المسلمين، فأتاه برجل من قومه فكفل به فخلى عنه.
وعن عبد الله الرومي قال: كان عثمان بن عفان يأخذ وضوءه لنفسه إذا قام من الليل، فقيل له: لو أمرت الخادم كفاك، قال: لا، الليل لهم يستريحون فيه. فهذا مثلٌ من اتصاف أمير المؤمنين عثمان -رضي الله عنه- بالرحمة، فهو مع كبر سنه وعلو منـزلته الاجتماعية يخدم نفسه في الليل ولا يوقظ الخدم، وإن وجود الخدم من تسخير الله تعالى للمخدومين، وإن مما ينبغي للمسلم الذي سخر الله تعالى له من يخدمه أن يتذكر أن الخادم إنسان مثله له طاقة محدودة في العمل، وله مشاعر وأحاسيس فينبغي له أن يراعي مشاعره، وأن ييسر له الراحة كاملة في النوم، وأن لا يشق عليه بعمل.
أيها المسلمون: الحياء من أشهر أخلاق عثمان -رضي الله عنه- وأحلاها، تلك الصفة النبيلة التي زيّنه الله بها، فكانت فيه منبع الخير والبركة، ومصدر العطف والرحمة، فقد كان -رضي الله عنه- من أشد الناس حياءً. إنه ليكون في البيت والباب عليه مغلق، فما يضع عنه ثوبه ليفيض عليه الماء يمنعه الحياء.
عن أبي سلمة بن عبد الرحمن أن عائشة قالت: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مضطجعاً في بيتي كاشفاً عن فخذيه أو ساقيه، فاستأذن أبو بكر فأذن له وهو على تلك الحال فتحدث، ثم استأذن عمر فأذن له وهو كذلك فتحدث، ثم استأذن عثمان فجلس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وسوى ثيابه فدخل فتحدث، فلما خرج قالت عائشة: دخل أبو بكر فلم تهتشَّ له ولم تُبَالِه، ثم دخل عمر فلم تهتش له ولم تباله، ثم دخل عثمان فجلست وسويت ثيابك، فقال: "ألا أستحي من رجل تستحي منه الملائكة؟!". رواه مسلم.
وعن أنس بن مالك قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أرحمُ أمتي أبو بكرٍ، وأشدُّهم في أمرِ اللهِ عمرُ، وأصدقُهم حياءً عثمانُ، وأفرضُهم زيدٌ، وأقرؤُهم أُبيٌّ، وأعلمُهم بالحلالِ والحرامِ معاذُ بنُ جبلٍ، ولِكلِّ أمةٍ أمينٌ، وأمينُ هذه الأمةِ أبو عُبيدةَ بنُ الجرَّاحِ". رواه البغوي في شرح السنة.
أيها المسلمون: إن معرفة صفات الخلفاء الراشدين ومحاولة الاقتداء بهم، خطوة صحيحة لمعرفة صفات القادة الربانيين الذين يستطيعون أن يقودوا الأمة نحو أهدافها المرسومة بخطوات ثابتة، فمن أسباب التمكين لهذا الدين العمل على إيجاد قادة ربانيين، جرى الإيمان في قلوبهم وعروقهم، وانعكست ثماره على جوارحهم، وتفجرت صفات التقوى في أعمالهم وسكناتهم وأحوالهم، فالقيادة الربانية الحكيمة هي التي تسعى لتحكيم شرع الله وتفجير طاقات الأمة وتوجيهها، وهي التي تحتضن الإسلام وتنهجه قلباً وقالباً، جوهراً ومنظراً، عقيدةً وشريعةً، ديناً ودولةً، وهي التي تصبح وتمسي وهمها عقيدتها وأمتها، وهي التي تسعى بكل ما تملك لحل المشاكل التي تواجهها، وتعمل بكل جهد وإخلاص للقضاء على عوائق التمكين الداخلية والخارجية.
وللحديث بقية...
اللهم أبرم لهذه الأمة قائداً ربانياً يحكم فيها بشرع الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-...
التعليقات