غادة الشافعي
عائشة أم المؤمنين زوجة سيد آل البيت
الصديقة الطيبة حبيبة حبيب الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم
أكثَرَ المُرْجِفون والمبْطِلون في كلِّ زمن- وفي زمننا خاصَّة- على أمِّ المؤمنين عائشةَ بنتِ أبي بكر- رضي الله عنهما- الصِّدِّيقة بنت الصِّدِّيق، الطَّاهرة الطَّيِّبة، حبيبة رسول الله- صلَّى الله عليه وسلَّم- إمَّا لحِقْدٍ في أنفسهم على النبيِّ وعلى آل البيت- صلى الله عليه وعلى آله وسلَّم- وإمَّا طمَعًا في صرف الناس عن الحقِّ المبين.
وما ضرَّ عائشةَ- رضي الله عنها- افتراءاتهُم، وقد قدمَتْ على فَرطِ صِدْق[1]، زوجِها خاتم الأنبياء والمرسلين، وسَيِّد ولد آدم- صلَّى الله عليه وسلَّم- وأبيها إمام الهُدى أبي بكر الصدِّيق، الخليفة الرَّاشد- رضي الله تعالى عنه.
فاللهم صلِّ وسلِّم وبارك على محمد النبيِّ، وأزواجِه أُمَّهات المؤمنين، وذُرِّيته وآل بيته أجمعين، ومن اتَّبعهم بإحسان إلى يوم الدِّين، آمين.
وبعد:
فعن ابن عباس في تفسير قوله- تعالى-: ﴿ الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّؤُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ﴾ [النور: 26].
قال: الخبيثات من القول للخبيثين من الرِّجال، والخبيثون من الرِّجال للخبيثات من القول، والطيِّبات من القول للطيِّبين من الرِّجال، والطيِّبون من الرجال للطيِّبات من القول.
قال: ونَزلت في عائشة وأهل الإفْك.
وهكذا رُوي عن مُجاهد، وعطاء، وسعيد بن جُبَير، والشَّعبي، والحسَن بنِ أبي الحَسَن البصري، وحبيب بن أبي ثابت، والضَّحَّاك، واختاره ابنُ جرير، ووجَّهَهُ بأنَّ الكلام القبيح أولى بأهل القبح من الناس، والكلام الطيِّب أَولى بالطيِّبين من الناس، فما نسَبَه أهل النِّفاق إلى عائشة هم أَولى به، وهي أَولى بالبراءة والنَّزاهة منهم؛ ولهذا قال: ﴿ أُولَئِكَ مُبَرَّؤُونَ مِمَّا يَقُولُونَ ﴾ [النور: 26].
وقال عبدالرحمن بن زيد بن أسلم: الخبيثات من النساء للخبيثين من الرِّجال، والخبيثون من الرجال للخبيثات من النِّساء، والطيِّبات من النساء للطيبين من الرجال، والطيبون من الرجال للطيبات من النساء.
وهذا- أيضًا- يَرْجع إلى ما قاله أولئك باللاَّزم؛ أيْ: ما كان الله ليجعل عائشة زوجة لرسول الله- صلَّى الله عليه وسلَّم- إلاَّ وهي طيبة؛ لأنَّه أَطْيب من كلِّ طيِّب من البشر، ولو كانت خبيثة لما صَلحت له، لا شرعًا ولا قدَرًا؛ ولهذا قال: ﴿ أُولَئِكَ مُبَرَّؤُونَ مِمَّا يَقُولُونَ ﴾ [النور: 26]؛ أيْ: هم بُعَداء عمَّا يقوله أهل الإفك والعدوان، ﴿ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ ﴾؛ أيْ: بسبب ما قيل فيهم من الكَذِب، ﴿ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ﴾؛ أيْ: عند الله في جنَّات النعيم، وفيه وعْدٌ بأن تكون زوجةَ النبيِّ- صلَّى الله عليه وسلَّم- في الجنة.
- بل ولقد قال النبيُّ- صلَّى الله عليه وسلَّم- لأُمِّ المؤمنين عائشة- رضي الله عنها-: ((أُريتُكِ قبل أن أتزوَّجك مرَّتين؛ رأيتُ الملَكَ يَحمِلُك في سَرَقة من حرير، فقلتُ له: اكْشِف، فكَشَف فإذا هي أنتِ، فقلتُ: إن يكن هذا من عند الله يُمْضِه، ثم أُرِيتُك يحملك في سَرَقة من حرير، فقلتُ: اكشف، فكشَف، فإذا هي أنت، فقلت: إن يَكُ هذا من عند الله يُمْضِه))؛ "صحيح البخاري".
- ولم يَكُن شرَفُ الزَّواج برسول الله- صلَّى الله عليه وسلَّم- بالأمر الذي تناله أيُّ امرأة، وإنما كان مما لا تَطْمح إليه ذواتُ الدِّين والنَّسب والجمال والمال، إلاَّ أن يَمُنَّ الله- تعالى- عليهنَّ بمحض فضْلِه وكرمه سبحانه، ويَظهر ذلك واضحًا من خلال روايات حديث زواج أمَّهات المؤمنين:
فعن أُمِّ المؤمنين عائشة بنت أبي بكر قالت: "لمَّا تُوفِّيت خديجة، قالت خَوْلةُ بنتُ حكيمِ بنِ الأوقص امرأةُ عثمانَ بنِ مظعون، وذلك بمكَّة: يا رسول الله، ألاَ تزَوَّجُ؟ قال: ((مَن؟)) قالت: إنْ شِئتَ بِكرًا، وإن شِئتَ ثَيِّبًا، قال: ((فمَن البِكْر؟)) قالت: ابنةُ أحَبِّ خلق الله إليك، عائشة بنت أبي بكر، قال: ((فمَن الثَّيِّب؟))، قالت: سَوْدة بنت زَمْعة، آمنَت بك، واتَّبَعتْك على ما أنت عليه، قال: ((فاذهبي، فاذْكُريها علَيَّ))، فجاءَتْ، فدخلَتْ بيت أبي بكر، فوجَدَت أُمَّ رومان أُمَّ عائشة، فقالت: يا أمَّ رومان، ماذا أَدخَل اللهُ عليكم من الخير والبرَكة؟! أرسَلَني رسولُ الله- صلَّى الله عليه وسلَّم – أَخْطُب عليه عائشة، قالَتْ: وَدِدتُ، انتَظِري أبا بكر؛ فإنَّه آتٍ، فجاء أبو بكر، فقالت: يا أبا بكر، ماذا أَدخل الله عليكم من الخير والبركة؟! أرسلني رسولُ الله- صلَّى الله عليه وسلَّم- أَخْطب عليه عائشة"[2].
ثم خرَجَت، فدخَلَتْ على سَوْدة بنت زمعة، فقالت: ماذا أدخل الله عليكِ من الخير والبركة؟! قالت: وما ذاك؟ قالت: أرسَلَني رسول الله- صلَّى الله عليه وسلَّم- أخطبك عليه، قالت: وَدِدتُ، ادخلي إلى أبي، فاذكُرِي ذلك له، وكان شيخًا كبيرًا، قد أدرَكَه السِّنُّ، قد تخَلَّف عن الحج، فدخَلَتْ عليه، فحيَّتْه بتحيَّة الجاهلية، فقال: مَن هذه؟ قالت: خَوْلة بنت حكيم، قال: فما شأنُك؟ قالت: أرسَلَني محمَّد بن عبدالله؛ أخطب عليه سودة، فقال: كفءٌ كريم".
وعن أم سلمة- رضي الله تعالى عنها- قالت: "أتاني أبو سلمة يومًا من عند رسول الله- صلَّى الله عليه وسلَّم- فقال: لقد سَمِعتُ من رسول الله- صلَّى الله عليه وسلَّم- قولاً سُرِرتُ به، قال: ((لا يُصيب أحدًا من المُسْلِمين مصيبةٌ فيسترجع عند مصيبته، ثم يقول: اللَّهم أْجُرْنِي في مصيبتي، واخلُفْ لي خيرًا منها، إلاَّ فُعِل ذلك به)).
قالت أمُّ سلمة: فحفظتُ ذلك منه، فلما تُوفِّي أبو سلمة استرجعتُ، وقلتُ: اللهم أْجُرْني في مصيبتي، واخلف لي خيرًا منه، ثم رجَعْتُ إلى نفسي، فقلتُ: مِن أين لي خيرٌ من أبي سلمة؟ فقالت أمُّ سلمة بعدُ: أبدَلَني الله بأبي سلمة خيرًا منه، رسولَ الله- صلَّى الله عليه وسلَّم"؛ صحيح.
وعن أُمِّ حبيبة بنت أبي سفيان سيِّد قريش، قالت: "ما شَعرت وأنا بأرض الحبَشة إلاَّ برسول النَّجاشي، جارية يقال لها: أبرهة، كانت تقوم على ثيابه ودهْنِه، فاستأذنَتْ علَيَّ، فأذِنتُ لها، فقالَتْ: إنَّ المَلِك يقول لك: إنَّ رسول الله- صلَّى الله عليه وسلَّم- كتب إلَيَّ أنْ أُزَوِّجَكِه، فقلتُ: بشَّرَك الله بالخير، وأعطيتُ أبرهة سوارين من فضة، وخدمتين من فضة كانتا علَيَّ، وخواتيمَ مِن فِضَّة كانت في كلِّ أصابع رجلي؛ سُرورًا بما بشَّرَتني به".
فلَمَّا علم أبو سفيان قال: "هو الفَحْل لا يُجْدَع أنفه".
وعن زينب بنت جحش- رضي الله تعالى عنها- أنها: "كانت تَفْخَر على أزواج النبي تقول: زَوَّجَكن أهاليكن، وزَوَّجني الله من فوق سبع سموات، وفي لفْظٍ: كانت تقول: إن الله أنكَحَني في السَّماء"؛ صحيح.
وعن ميمونة بنت الحارث- رضي الله تعالى عنها-: "أنه لما انتَهَت إليها خِطْبة رسول الله- صلَّى الله عليه وسلَّم- لها وهي راكبة بعيرًا، قالت: الجملُ وما عليه لرسول الله- صلَّى الله عليه وسلَّم".
- وبعد نُزول آية التَّخْيير لم تَبْق مع النبي- صلَّى الله عليه وسلَّم- من نِسائه إلاَّ مَن اختارت الله ورسوله والدَّار الآخِرةَ، وما رَضِيَتْ إحداهنَّ بالله ورسوله- صلَّى الله عليه وسلَّم- والدار الآخرة بدلاً.
فجاء في "تفسير ابن كثير" لقول الله- تعالى-: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلاً * وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب: 28- 29].
قال: "هذا أمْرٌ من الله لرسوله- صلوات الله وسلامه عليه- بأن يُخَيِّر نساءه بين أن يفارقهن، فيَذْهَبن إلى غيره ممن يَحصُل لهنَّ عنده الحياةُ الدُّنيا وزينتها، وبَيْن الصَّبر على ما عنده من ضيق الحال، ولهنَّ عند الله في ذلك الثواب الجزيل، فاختَرْنَ- رضي الله عنهنَّ وأرضاهن- الله ورسولَه والدَّار الآخرة، فجَمَع الله لهنَّ بعد ذلك بين خير الدنيا وسعادة الآخِرة".
ثم كان من فضائل عائشة- رضي الله تعالى عنها- أن أقرَأَها جبريلُ السَّلامَ؛ فعَن أمِّ المؤمنين عائشة: "أنَّ النبي- صلَّى الله عليه وسلَّم- قال لها: ((يا عائِشُ، هذا جبريل يُقرئك السَّلام))، فقلتُ: وعليه السَّلام ورحمة الله وبركاته، تَرى ما لا أرى؛ تريد رسولَ الله- صلَّى الله عليه وسلَّم"؛ "صحيح البخاري".
وإن كان النبي- صلَّى الله عليه وسلَّم- ليتعذَّر في مرضه: ((أين أنا اليوم؟ أين أنا غدًا؟))؛ استبطاءً ليومها- رضي الله تعالى عنها- حتىَّ كان يوم رحيله عن الدُّنيا- صلَّى الله عليه وسلَّم- فتقول أُمُّ المؤمنين عائشة: "إنَّ مِن نِعَم الله عليَّ: أنَّ رسول الله- صلَّى الله عليه وسلَّم- تُوفِّي في بيتي، وفي يومي، وبين سَحْري ونَحْري، وأنَّ الله جمَع بين رِيقِي ورِيقِه عند موته؛ دَخل عليَّ عبدالرحمن، وبيده السِّواك، وأنا مُسْنِدة رسولَ الله- صلَّى الله عليه وسلَّم- فرأيْتُه يَنظر إليه، وعرفتُ أنه يحبُّ السِّواك، فقلتُ: آخُذُه لك؟ فأشار برأسه أنْ نعَم، فتناولتُه، فاشتدَّ عليه، وقلتُ: أُليِّنُه لك؟ فأشار برأسه أنْ نَعم، فلَيَّنتُه، فأَمَرَّه، وبين يديه ركْوة أو علبة- يَشكُّ عُمر- فيها ماء، فجَعل يُدخِل يديه في الماء، فيمسح بهما وجهه، يقول: ((لا إله إلاَّ الله، إنَّ للموت سَكَرات))، ثم نصب يده، فجعل يقول: ((اللَّهم في الرَّفيق الأعلى))، حتى قُبِض ومالَتْ يدُه"؛ "صحيح البخاري".
وإنِّي إذْ أَضْرِب عمَّا يقوله المُرْجِفون والمبطلون صفْحًا، أسأل كلَّ مَن كان له ذَرَّة من إنصاف وعقل وضمير: هل يُمكن لمِثْل أمِّ المؤمنين أن يَغزو الحسَدُ قلبَها على آل بيت رسول الله- صلَّى الله عليه وسلَّم- وزوجها سيِّدهم، وهي أحبُّ الناس إليه، ولم يُدانِها في الفضل واحدةٌ من النساء، فضْلاً عن مكانة أبيها من النبي- صلَّى الله عليه وسلَّم؟!
وهل يُمكن لمِثْل أُمِّ المؤمنين أن يَغزو الحسدُ قلْبَها على آل البيت، وحالُها معهم كحَال أبيها الصِّدِّيق وهي البَضْعَة منه، فيما رواه عنه شُعبة قال: "لَمَّا مَرِضَت فاطمةُ أتاها أبو بكر الصدِّيق، فاستأذن عليها، فقال عليٌّ: يا فاطمة، هذا أبو بكر يستأذن عليك، فقالت: أتحبُّ أن آذن له؟ قال: نعَم، فأَذِنَت له، فدَخَل عليها يترَضَّاها، فقال: والله، ما ترَكْتُ الدَّار والمال، والأهلَ والعشيرة، إلاَّ ابتغاءَ مرضاة الله ومرضاة رسولِه، ومرضاتِكم أهْلَ البيت، ثم ترَضَّاها حتىَّ رَضِيَت"[3].
وهل ما زال هُناك مجال للخوض في عَلاقة المسلمين الأُوَل بآل البيت- رضوان الله عليهم جميعًا- وهم الذين نزَل القرآنُ على رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - بينهم فصدَّقُوه ونَصَروه، وحمَلوا الدِّين بعده إلى الدُّنيا على أرواحهم ومهجات قلوبهم؟!
وهل مِثْلُ أُمِّ المؤمنين عائشة- رضي الله تعالى عنها- بالتي تُرمَى بالافتراءات دون دليل مِن نَقْل، أو حُجَّة من عقل، بعد أن بَرَّأها الله من فوق سبع سموات؟!
أم أنَّه الحِقْد على الإسلام ورسوله، وكُلِّ مَن أحبَّه- صلَّى الله عليه وسلَّم- بدءًا من زَوْجِه وأحَبِّ الناس إليه، ثم أحبِّ الناس إليه من الرِّجال؛ صاحِبَيْه أبي بكر وعُمر، مرورًا بأبي هريرة الذي لازم النَّبي- صلَّى الله عليه وسلَّم- ونقل سُنَّته ووَهَب لها حياته، بل وحتى آل النبي- صلَّى الله عليه وسلَّم- وذريته لم يَسْلَموا من الافتراءات- رضوان الله عليهم أجمعين- فضْلاً عمَّا في ذلك من قَدْح في النبيِّ ذاتِه- صلَّى الله عليه وسلَّم.
- حبيبةُ حبيبِ الله- صلَّى الله عليه وسلَّم-:
ولم تكن أُمُّ المؤمنين عائشة- رضي الله تعالى عنها- زوجةَ النبي- صلَّى الله عليه وسلَّم- وحَسْب، وإنما كانت حبيبتَه الطَّاهرة التي افتَرى عليها الأفَّاكون- بلا ذَنْب جنَتْه- لِعِلْمهم بِمَكانها من رسول الله- صلَّى الله عليه وسلَّم- فأرادوا أن يَطْعنوا النبي- صلَّى الله عليه وسلَّم- ودعوتَه في مَقْتَل، ويُشعلوا نار الفتنة في قَلْب المجتمع المسلم النَّقيِّ، فَبرَّأها الله- تعالى- من فوق سبع سموات.
وكانت تلميذتَه النَّجيبة التي شَهِد الله- تعالى- لها، كما شهد لسائر نساء النبي- صلَّى الله عليه وسلَّم- بالعدالة؛ إذْ أمَرَهن بذِكْر ما يُتلى عليهن في بيوتهن من آيات الله والحكمة، فوَفَّتْ وكَفَت، وما عرَفَتْ طعم الرَّاحة في نَقْل سُنَّته، والبلاغ عنه- صلَّى الله عليه وسلَّم- حتى لَقِيت رَبَّها- عزَّ وجلَّ.
- فلو كان لِذي قَلْب يعقل أن يَصِف أُمَّ المؤمنين عائشة- رضي الله تعالى عنها- لَوَصَفها بالوَرَع والتَّواضع، مع ما منحها الله- عزَّ وجلَّ- من نِعَم، لو قُدِّر أن أُعطِيَت إحدى النساء بَعضَها، لكان لها أن تتباهى وتفخر ما شاءت أن تتَباهى وتفخر على النساء.
ولِمَ لا؟ وآلُ البيت زوجُها- صلى الله عليه وعلى آله وسلَّم- سيِّدُهم، ومكانها عنده أنها أحَبُّ الناس إليه.
وأبوها أنسَبُ قريش لقريش، الَّذي عُرِف بمروءته في الجاهلية، فلمَّا أسلم كان ثانِيَ اثنين في الغار، وأحَبَّ الرِّجال إلى رسول الله- صلَّى الله عليه وسلَّم.
ولِمَ لا؟ والنبيُّ- صلَّى الله عليه وسلَّم- يُعلِن مكانهَا في قلبه على المَلأ، وهو القائد الأعلى لجيوش المسلمين وقْتَ أنْ دانَتْ له العرب، حين يَسأله عمرو بن العاص أحدُ قادة جيشه، عن أحبِّ الناس إليه، فيقول: ((عائشة))، فيقول له: ((مِن الرِّجال؟)) فيقول: ((أبوها))؛ "صحيح البخاري".
فلم يُنَحِّها- صلَّى الله عليه وسلَّم- عن حديث الحبِّ في جوابه الثاني، فيَذكُرَ اسمَ أبي بكر مجرَّدًا؛ وإنما ذكَرَه بِنَسبه إليها- رضي الله عنهما.
ولِمَ لا، وهي الكُفْءُ للثَّناء بِذاتها، مع شُيوع تفَرُّدها بمكانها في قَلْب رسول الله- صلَّى الله عليه وسلَّم- بين الناس، وإقرار النبي- صلَّى الله عليه وسلَّم- بذلك، حتى رُوي عن عمر- رضي الله عنه- في حديث اعتزال النبي- صلَّى الله عليه وسلَّم- لنسائه شهرًا: أنه دخَل على حفصة، فقال: "يا بُنيَّة، لا يَغرَّنك هذه التي أعجَبَها حُسنُها، وحُبُّ رسول الله- صلَّى الله عليه وسلَّم- إيَّاها"؛ يريد عائشة، قال: "فقصَصْتُ على رسول الله- صلَّى الله عليه وسلَّم- فتبَسَّم"؛ "صحيح البخاري".
"... فلمَّا مضَتْ تسعٌ وعشرون، دخَل على عائشة فبدأ بها، فقالت له عائشةُ: إنَّك أقسَمتَ ألاَّ تدخل علينا شهرًا، وإنا أَصبَحنا لِتِسع وعشرين ليلة، أَعُدُّها عدًّا، فقال النبي- صلَّى الله عليه وسلَّم-: ((الشهر تسع وعشرون))، وكان ذلك الشهر تسعًا وعشرين، قالت عائشة: فأُنزِلَت آية التَّخيير، فبدأ بي أوَّلَ امرأة، فقال: ((إنِّي ذاكِرٌ لكِ أمْرًا، ولا عليك ألاَّ تَعْجلي حتى تستأمري أبوَيْكِ)) قالت: قد أعلم أن أبوَيَّ لم يكونا يأمراني بِفِراقك، ثم قال: ((إن الله قال: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ ﴾ [الأحزاب: 28]، إلى قوله: ﴿ عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب: 29]))، قلتُ: أَفِي هذا أستأمر أبويَّ؟! فإنِّي أُريد الله ورسولَه والدَّار الآخِرَة، ثم خَيَّر نساءه، فقُلْن مِثل ما قالت عائشة"؛ "صحيح البخاري".
ولِمَ لا؟ وقد "كان الناس يتَحرَّوْن بهداياهم يومَ عائشة، قالت عائشة: فاجتَمَع صواحِبي إلى أمِّ سلمة، فقُلْن: يا أمَّ سلمة، والله إنَّ الناس يتحَرَّون بهداياهم يومَ عائشة، وإنَّا نُريد الخير كما تريده عائشة، فمُرِي رسول الله- صلَّى الله عليه وسلَّم- أن يأمر الناس: أنْ يُهْدُوا إليه حيثما كان، أو حيثما دار، قالت: فذكَرَت ذلك أمُّ سلمة للنبي- صلَّى الله عليه وسلَّم- قالت: فأعْرَضَ عنِّي، فلمَّا عاد إلَيَّ ذكَرْتُ له ذلك، فأعرض عني، فلمَّا كان في الثالثة، ذكرتُ له، فقال: ((يا أمَّ سلمة، لا تُؤذيني في عائشة؛ فإنَّه واللهِ ما نَزَل علَيَّ الوحْيُ وأنا في لِحاف امرأة منكنَّ غيرَها))؛ "صحيح البخاري"
بل وقد رَوَت- رضي الله عنها- تقول: "أرسَلَ أزواج النبيِّ- صلَّى الله عليه وسلَّم- فاطمةَ بنتَ رسول الله- صلَّى الله عليه وسلَّم- إلى رسول الله- صلَّى الله عليه وسلَّم- فاستأذَنَت عليه وهو مضْطَجِع معي في مِرْطي، فأَذِن لها، فقالت: يا رسول الله، إنَّ أزواجك أرسَلْنَني إليك يَسْألنك العدل في ابنة أبي قُحافة، وأنا ساكتة، قالت: فقال لها رسول الله- صلَّى الله عليه وسلَّم-: ((أيْ بُنيَّة، ألسْتِ تُحبِّين ما أحب؟))، فقالت: بلَى، قال: ((فأَحبِّي هذه))، قالت: فقامت فاطمة حين سمِعَت ذلك من رسول الله- صلَّى الله عليه وسلَّم- فرجعَتْ إلى أزواج النبي- صلَّى الله عليه وسلَّم- فأخبرَتْهنَّ بالذي قالت، وبالذي قال لها رسول الله- صلَّى الله عليه وسلَّم- فقُلْن لها: ما نراك أغنيتِ عنَّا من شيء، فارجعي إلى رسول الله- صلَّى الله عليه وسلَّم- فقولي له: إنَّ أزواجك يَنْشُدنك العدل في ابنة أبي قحافة، فقالت فاطمة: والله، لا أكلِّمه فيها أبدًا"؛ "صحيح مسلم".
ولِمَ لا؟ وهي التي روَتْ لنا تقول: "كان رسول الله- صلَّى الله عليه وسلَّم- إذا أراد سفَرًا أقرع بين نسائه، فأيَّتهن خرج سهمُها خرج بها معه، وكان يَقْسم لكلِّ امرأة منهنَّ يومَها وليلتها، غير أنَّ سودة بنت زَمْعة وهَبَت يومها وليلتها لعائشة زوجِ النَّبي- صلَّى الله عليه وسلَّم- تَبْتغي بذلك رِضا رسولِ الله- صلَّى الله عليه وسلَّم –"؛ "صحيح البخاري".
فلم تكن أمُّ المؤمنين عائشة- رضي الله تعالى عنها- تجْهَل مكانتها عند حبيب الله- صلَّى الله عليه وسلَّم- بل وهي التي قالت: "تزوَّجَني رسولُ الله- صلَّى الله عليه وسلَّم- في شوَّال، وبَنى بي في شوَّال، فأَيُّ نساء رسول الله- صلَّى الله عليه وسلَّم- كان أحْظَى عندَه منِّي؟"؛ رواه مُسلم والتِّرمذي.
ولِمَ لا؟ وقد أبَى الله- عزَّ وجلَّ- في زمن حادثة الإفك أن تكون براءتها كبَراءة أيِّ امرأة يكثر عليها الحاقدون، وإنما أُنزِلَت براءتها بكلام تَكلَّمَه ربُّ العِزَّة، وقرآنٍ يُتلى إلى يوم القيامة؛ حتى تكون براءتها دِينًا يُدان به لله.
إذْ يقول الله- تعالى-: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ [النور: 11].
فإنْ كانت الحبيبةُ لا بُدَّ وأن تَغار، فلم تكن غَيْرة أُمِّ المؤمنين- رضي الله تعالى عنها- كغَيْرة النِّساء من النِّساء، وإنَّما كانت غَيرتها لِعِظَم قَدْر النبي- صلَّى الله عليه وسلَّم- عندها، ومكانته في قَلْبها، مع تواضُعِها- رضي الله تعالى عنها.
فعَن أُمِّ المؤمنين عائشة بنت أبي بكر الصِّدِّيق: "أنَّ رسول الله- صلَّى الله عليه وسلَّم- خرَج من عندها ليلاً، قالت: فغِرُت عليه، فجاء فرأى ما أصنع، فقال: ((ما لَكِ يا عائشة؟! أَغِرْتِ؟)) فقلت: وما لي لا يَغار مِثْلي على مثلك؟"؛ "صحيح مسلم".
وعنها- رضي الله تعالى عنها- تقول: "كان رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - إذا خرج، أَقرع بين نسائه، فطارَتِ القرعة على عائشة وحفصة، فخرَجَتا معه جميعًا، وكان رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - إذا كان بالليل، سار مع عائشة، يتحدَّث معها، فقالت حفصة لعائشة: ألاَ تَرْكبين اللَّيلة بعيري، وأركب بعيرك، فتنظرين وأنظر؟ قالت: بلى، فرَكِبَت عائشة على بعير حفصة، وركبت حفصة على بعير عائشة، فجاء رسول الله- صلَّى الله عليه وسلَّم- إلى جمل عائشة، وعليه حفصة، فسَلَّم ثم سار معها، حتى نزلوا، فافتَقَدتْه عائشة، فغارت، فلمَّا نزَلُوا جعلت تجعل رِجْلها بينَ الإِذْخِرِ، وتقول: يا ربِّ، سَلِّط عليَّ عقربًا أو حيَّة تلدغني، رسولُك، ولا أستطيع أن أقول له شيئًا!"؛ "صحيح مسلم".
فوالله إنَّ مَن يكره عائشة لَهُو المُكْثِر الحَسُود الحقود، الذي طالما أوذِيَت أمُّ المؤمنين- رضي الله تعالى عنها- مِنْه ومن أمثاله في حياة النبي- صلَّى الله عليه وسلَّم- وبعد مماته، وقد روَتْ لنا عائشة أمُّ المؤمنين في زمن حادثة الإفك تقول: "فقلتُ لأمي: يا أُمَّتاه، ماذا يتحَدَّث الناس؟ قالت: يا بُنيَّة، هَوِّني عليك، فوالله لقَلَّما كانت امرأة قطُّ وضيئة عند رجل يحبُّها، لها ضرائر، إلاَّ أكْثَرْن عليها، قالت: فقلتُ: سبحان الله! أو لَقَد تحَدَّث الناسُ بهذا؟ قالت: فبكَيْتُ تلك الليلةَ حتىَّ أصبَحْتُ، لا يَرْقَأ لي دمع، ولا أكتحل بِنَوم، ثم أصبحتُ أبكي"؛ "صحيح البخاري".
فلا بكَتْ عيْنٌ أحبَّتْكِ يا أُمَّاه إلاَّ من خشية الله، ولا رقأ الله لِمُبغضك دمعًا حتى تجف عيناه!
- • • •
فضل عائشة على النساء:
لقد جمَعَت السيِّدة عائشة- رضي الله تعالى عنها- من محاسن الهيئة والسِّمات والصِّفات الظاهرة والباطنة، ما قلَّ أن يَجتمع في امرأة واحدة، فكانت جديرة- ولا شكَّ- بثناء الصَّادق الذي لا ينطق عن الهوى؛ إذْ يقول: ((فضْلُ عائشة على النِّساء، كفَضْل الثَّريد على سائر الطعام))؛ "صحيح البخاري".
وهذا واضح في مختَلِف مواقف حياتِها، التي تُخبرنا بعُلوِّ خلُقِها، وطيبِ نَفْسها، وحُسْن حديثها- رضي الله تعالى عنها- حتى تكون أوَّل مَن تُفرَّج عندها الهموم، وترْضَى بها القلوب.
فعن أنَسِ بن مالك- رضي الله عنه- قال: "بُنِي على النبي- صلَّى الله عليه وسلَّم- بزينب بنت جحش بِخُبز ولَحْم، فأرسلت على الطَّعام داعيًا، فيَجِيء قوم فيأكلون ويخرجون، ثم يجيء قوم فيأكلون ويخرجون، فدعوتُ حتى ما أجد أحدًا أَدْعو، فقلتُ: يا نبي الله، ما أجد أحدًا أدعوه، قال: ((ارفعوا طعامكم))، وبقي ثلاثةُ رَهْط يتحدَّثون في البيت، فخرج النبي- صلَّى الله عليه وسلَّم- فانطلق إلى حُجرة عائشة، فقال: ((السلام عليكم- أهلَ البيت- ورحمة الله))، فقالت: وعليكَ السَّلام ورحمة الله، كيف وجدتَ أهلك، بارك الله لك، فتقرَّى حُجَر نسائه كلهنَّ، يقول لهن كما يقول لعائشة، ويقلْنَ له كما قالت عائشة، ثم رجع النبي- صلَّى الله عليه وسلَّم- فإذا ثلاثة من رهط في البيت يتحدَّثون، وكان النبي- صلَّى الله عليه وسلَّم- شديد الحياء، فخرج منطلِقًا نحو حُجْرة عائشة، فما أدري؛ أخبرتُه أو أُخبر أنَّ القوم خرجوا، فرجع، حتى إذا وَضع رجله في أُسْكُفَّة الباب داخلة وأخرى خارجة، أرخى السِّتر بيني وبينه، وأُنزِلَت آية الحجاب"؛ "صحيح البخاري".
وعن عائشة، قالت: "دخل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- على صفيةَ في بيتي، فقالت لي: ترضي رسولَ الله- صلى الله عليه وسلم- عني، وأجعل يومي لك؟ فعمدتْ إلى خمارها مصبوغةً بالزعفران، فرشَّتْه بالماء ليفوح ريحها، ثم لبسته وقعدت إلى جنب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال: إليك يا عائشة، يا عائشة عني، فإنه ليس بيومك، فقالت: ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، فأخبرته الخبر فرضي عنها"[4].
وبعد:
فإنَّ أعظم ما يدهش المتأمِّل لما حبَاه الله لأُمِّ المؤمنين عائشة من نِعَم، هو شدَّة إنصافها، وزُهْدُها في الاستئثار بالثَّناء والتكريم وحْدَها، فكانت لا تألو سائر أُمَّهات المؤمنين- رضي الله تعالى عنهن- ثناءً وذِكْرًا لفضائلهن وفضلهن.
حتى إنَّها هي نَفْسها التي رَوَتْ لنا غَيْرتهَا من زوجة رسول الله- صلَّى الله عليه وسلَّم- وحبِّه الأول السيِّدة خديجة- رضي الله تعالى عنها- كما ذكرَتْ فضائلها ومكانتها عند رسول الله- صلَّى الله عليه وسلَّم- وأنَّه كان له منها ما لم يَكُن له مِن غيرها، بل وتَذْكر وفاءه لِعَهدها، وتعهُّدَه بالخير صديقاتِها، ورفيع مَنْزلتها عند الله- تعالى.
فعن السيدة عائشة- رضي الله تعالى عنها وأرضاها- قالت: "ما غِرْتُ على أحد من نساء النبي- صلَّى الله عليه وسلَّم- ما غرتُ على خديجة، وما رأيتُها، ولكن كان النبيُّ- صلَّى الله عليه وسلَّم- يُكثِر ذِكْرَها، وربَّما ذبح الشَّاة، ثم يقطعها أعضاء، ثم يبعثها في صدائق خديجة، فربَّما قُلتُ له: كأنَّه لم يكن في الدُّنيا امرأة إلاَّ خديجة، فيقول: ((إنَّها كانت، وكانت، وكان لي منها ولد))؛ "صحيح البخاري"
وفي رواية: "... وأمره ربُّه- عزَّ وجلَّ- أو جبريلُ- عليه السَّلام- أن يُبشِّرها ببيت في الجنة من قصَب"؛ "صحيح البخاري".
فأي قوة نفْسيَّة وإيمانية كانت لَدى أُمِّنا الطاهرة الطيِّبة، حتى تثني كلَّ هذا الثناء على ضرَّتها في مَعْرِض حديثها عن غيرتها منها، وما الذي يجعلها تُحدِّث بما يدور بينها وبين زوجها- صلَّى الله عليه وسلَّم- مما يرفع قَدْر ضرَّتها، ويُصبِح ترجمة خالدة لها يتَناقَلُها المسلمون في كلِّ زمن وجيل؟
إنه- ولا شكَّ- الامتثال لأمر الله- عزَّ وجلَّ- لها ولنساء النبي- صلَّى الله عليه وسلَّم- من أمهات المؤمنين؛ إذْ يَقول- تعالى-: ﴿ وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا ﴾ [الأحزاب: 34].
ولا يَخفى أنه في أمر الله- تعالى- لهنَّ بالرِّواية عن رسوله- صلَّى الله عليه وسلَّم- شهادةٌ مَن الله- عزَّ وجلَّ- بعدالتهنَّ وجَدارتهِنَّ بذلك، وأي شهادة كتلك الشهادة؟ وأي تشريف وأي تكريم يَحُوزه المرء بعد ذلك؟
وأمر آخَر أستطيع أن أستنبطه من خلال القراءة في شرائع دين الإسلام الحنيف، ومِن خلال القراءة في تاريخ أُمِّ المؤمنين الطيِّبة المتواضعة لله- عزَّ وجلَّ- عائشة- رضي الله تعالى عنها- ألاَ وهو حُبُّها للسيِّدة خديجة حُبَّ المؤمنة لأختها في الله، ورغبتها في التعريف بفضلها ومآثرها التي لم يَشْهَدها ولم يعرفها الكثيرُ من المسلمين، وقد ماتت السيِّدة خديجة- رضي الله تعالى عنها- قبل الهجرة.
وقبل ذلك كان حب المؤمنة لرسول الله- صلَّى الله عليه وسلَّم- أكثرَ من نَفْسِها، فكان حبُّها وإقرارها بالفضل لِمَن أحبَّ رسول الله- صلَّى الله عليه وسلَّم- وصدَّقه وواساه، مُتَعالية بذلك عن مشاعر النِّساء وخلجات نفوس البشر.
وقريب من ذلك ما رواه أنس بن مالك في قصة إسلام أبي قحافة، قال: "فلما مَدَّ يده يبايعه، بكى أبو بكْر، فقال النبي- صلَّى الله عليه وسلَّم-: ((ما يُبكيك؟)) قال: لأَنْ تكون يَدُ عمِّك مكان يَدِه ويُسْلِم ويُقِرّ الله عينك، أحبُّ إلَيَّ مِن أن يكون"؛ إسناده صحيح.
بل ولم تكن السيِّدة خديجة- رضي الله تعالى عنها- هي وحْدَها التي حَظِيَت بإنصاف السيِّدة عائشة وطِيب نَفْسها.
فلقد رُوي عن السيدة عائشة تُخبر عن السيِّدة زينب بنت جحش- رضي الله تعالى عنهما- تقول: "وهي التي كانت تُساميني منهنَّ في المَنْزلة عند رسول الله- صلَّى الله عليه وسلَّم- ولم أرَ امرأة قَطُّ خيرًا في الدِّين من زينب، وأتقى لله، وأصدَقَ حديثًا، وأوصل للرَّحِم، وأعظم صدقة، وأشدَّ ابتِذالاً لِنَفْسها في العمل الذي تصَدَّق به، وتقَرَّبُ به إلى الله تعالى، ما عدا سَوْرةً مِن حَدٍّ كانت فيها، تُسرِع منها الفَيْئة"؛ "صحيح مسلم".
فلم تَجِدِ السيِّدة عائشة في نَفْسها الزَّكية ما يمنعها من الإنصاف وذِكْرِ فضائل زوج النبي- صلَّى الله عليه وسلَّم- التي عاصرَتْها، وكانت في غاية الشَّباب والجمال والتَّقوى والدِّين، مع صلة نسَبِها برسول الله، ومَنْزلتها منه- عليه الصَّلاة والسَّلام.
بل وتُثني على أمٍّ أخرى من أُمَّهات المؤمنين، فتقول: "ما رأيتُ امرأة أَحبَّ إليَّ أنْ أَكُون في مِسْلاخها من سَوْدة بنت زمعة، من امرأة فيها حدَّة"؛ "صحيح مسلم".
وعن عائشة- رضي الله تعالى عنها- قالت: "كانت صفيَّة من الصَّفِي"[5]؛ صحيح.
وتقول- رضي الله تعالى عنها-: "ما رأيتُ صانعةَ طعامٍ مثل صفيَّة، أهدَتْ إلى النبي- صلَّى الله عليه وسلَّم- إناءً فيه طعام، فما ملَكْتُ نفسي أن كسرتُهُ، فقلتُ: يا رسول الله، ما كفَّارته؟ قال: ((إناءٌ كإناء، وطعامٌ كطعام))؛ إسناده حسَن.
فسبحان الله، ما أسرع أن تتوب إلى رَبِّها، وتعيد الأمور إلى سابق صفائها ونقائها!
ولا تزال أُمُّ المؤمنين عائشة تَذْكر بالفضل نساءَ النبي- صلَّى الله عليه وسلَّم- فتقول: "قسَم رسول الله- صلَّى الله عليه وسلَّم- سبايا بني المُصْطلق، فوقعت جُوَيرية بنت الحارث لثابت بن قَيْس بن شماس، أو لاِبْن عم له، كاتَبَتْه على نفسها، وكانت امرأةً حُلوةً مُلاَحَة، فأتتْ رسول الله- صلَّى الله عليه وسلَّم- وقالت: يا رسول الله، أنا جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار، سيِّد قومه، وقد أصابني من البلاء ما لم يَخْفَ عليك، وجئتُك أستعينك على كتابتي، فقال رسول الله- صلَّى الله عليه وسلَّم-: ((هل لَكِ في خير من ذلك؟))، قالت: وما هو يا رسول الله؟ قال: ((أقْضِي كتابَتَك وأتزوَّجك))، قالت: نعم يا رسول الله، قال: ((قد فعلت))، قالت: وخرَج الخبر إلى الناس أنَّ رسول الله- صلَّى الله عليه وسلَّم- تزوَّج جُويرية بنت الحارث، فأرْسَلوا ما بأيديهم، قالت: فقد عتقَ بتزوُّجِه إيَّاها مائة أهل بيت من بني المصطلق، وما أعلم امرأةً كانت أعظم بركة على قومها منها".
بل وهناك روايتان يتبيَّن لنا منهما، كيف كان عِلْم أُمِّ المؤمنين عائشة وعقلها ودينها وعدلها:
أُولاهما: قال القاسم بن سلام في كتاب "الأموال": حدثنا أحمد بن يونس، عن أبي خيثمة، حدثنا أبو إسحاق، عن مصعب بن سعد أن عمر أول ما فرض الأعطية فرض لأهل بدر من المهاجرين والأنصار ستة آلاف، ستة آلاف، وفرض لنساء النبي- صلَّى الله عليه وسلَّم- ففَضَّل عليهن عائشة، وفرض لها اثني عشر ألفًا، ولسائرهن عشرة آلاف، عشرة آلاف، غير جويرية وصفية، فرض لهما ستَّة آلاف، ستة آلاف، وفرض للمهاجرات الأُوَل: أسماء بنت عميس، وأسماء بنت أبي بكر، وأُمِّ عبدٍ أُمِّ عبدالله بن مسعود ألْفًا، ألفًا.
والثانية: عن ناشرة بن سميٍّ اليزَني قال: "سَمِعتُ عمر- رضي الله عنه- يقول يوم الجابية وهو يخطب: إنَّ الله جعلني خازِنَ هذا المال وقاسِمَه، ثم قال: بل الله قَسَمه، وأنا بادِئٌ بأهل النبي- صلَّى الله عليه وسلَّم- ثم أشرفهم، فقَسَم لأزواج النبي- صلَّى الله عليه وسلَّم- عشرة آلاف، إلا جويرية وصفية وميمونة ومارية، فقالت عائشة: إن رسول الله- صلَّى الله عليه وسلَّم- كان بيننا، فعَدَل عُمَر بينهنَّ، ثم فرض لأصحاب بدر المهاجرين خمسة آلاف، ولمن شَهِدها من غير المهاجرين أربعة آلاف، ولمن شهد أُحُدًا ثلاثة آلاف، وقال: من أبطأ في الهجرة أبطأ عنه العطاء، فلا يَلُومنَّ رجلٌ إلاَّ مناخ راحلته"[6]؛ إسناده جيد.
فكان لكلٍّ من أمير المؤمنين- رضي الله تعالى عنه- ولأم المؤمنين- رضي الله تعالى عنها- من الرَّأي وجهًا معتبَرًا.
- أمَّا خلاصة علاقة أُمَّهات المؤمنين ببعضهنَّ- رضوان الله عليهن- فالحُبُّ في الله، والحب لرسول الله- صلَّى الله عليه وسلَّم- ومَن يحب، فإذا ما وقع بينهن في بعضِ أحيانٍ قليلة ما يقع بين النساء كثيرًا، فإنَّهن التوَّابات الوَرِعات المتسامحات، وبيان ذلك ما يُروَى عن السيدة عائشة- رضي الله تعالى عنها- أنها قالت: "دعَتْني أمُّ حبيبة عند موتها، فقالت: قد يكون بيننا ما يكون بين الضَّرائر، فقلتُ: يَغفر الله لي ولك ما كان من ذلك كلِّه، وتجاوز وحلَّلك، فقالت: سررْتِني سرَّك الله، وأرسلت إلى أمِّ سلمة، فقالت لها مثل ذلك"[7].
أم المؤمنين الصِّدِّيقة الطيبة:
ولم يقتصر فَضْل أمِّ المؤمنين في أيِّ منْحًى من مناحي الحياة على جانب دون آخَر، فإنْ سأَلْتَ عن الزَّوجة الصالحة وجدْتَها، وإن سألت عن التَّقيَّة الوَرِعة ذكرت لك، وإن سألتَ عن جُودها وحنانها حدَّثتك، فعن السيدة عائشة- رضي الله تعالى عنها- قالت: "دخلَتِ امرأة معها ابنتان لها تسأل، فلم تجد عندي شيئًا غير تَمْرة، فأعطيتُها إيَّاها، فقسَمَتْها بين ابنتيها، ولم تأكل منها، ثم قامَتْ فخرَجَت، فدخل النبي- صلَّى الله عليه وسلَّم- علينا فأخبرته، فقال: ((مَن ابتُلِي من هذه البنات بشيء، كُنَّ له سِترًا من النار))؛ "صحيح البخاري".
فإنْ نَعْجب من تلك المرأة التي أَعْطت لابنتيها التَّمرة ولم تأكل منها شيئًا، فعَجَبُنا أشدُّ من السيِّدة عائشة التي أعطت المرأة وابنتيها التمرة، ولم تُبْقِ ببيتها شيئًا؟
فلقد كانت السيِّدة عائشة- رضي الله تعالى عنها- خيرَ أمٍّ للمؤمنين وأبنائهم في حياة النبي- صلَّى الله عليه وسلَّم- وبعد وفاته؛ تُطعِم وتحمِل، وتَحْنو، وتعلِّم وتربِّي، وتزوِّج وتوجِّه، وليس بخير إلاَّ وحازَتْه، وكان لها فيه السَّبْق.
حتى رُوي عنها أنَّها قسَمَت مائة ألف بين أزواج النبي- صلَّى الله عليه وسلَّم- بل وقسَمت ما يقارب الثمانين ومائة ألف بين الناس، فأمْسَتْ وما عندها درهمٌ تَشترِي به ما تُفطِر عليه وقد أصبحت صائمة، فقالت لها أمُّ ذرة: أما استطعت مما قسَمْت اليوم أن تشتري لنا بدرهم لحمًا نفطر عليه؟ فقالت لها: لا تُعنِّفيني، لو كنتِ ذكَّرتِني لفَعَلتُ.
وعن عروة قال: لقد رأيتُ عائشة تقسم سبعين ألفًا، وهي تُرقِّع دِرْعها[8].
وهي مع فضائلها وفَضْلها، كانت من أشدِّ الناس خشية لله، حتى رُوي أنها حدثت: "أن عبدالله بن الزبير قال في بيع أو عطاء أعطَتْه عائشة: والله لتَنْتهينَّ عائشة، أو لأَحْجرنَّ عليها، فقالت: أهو قال هذا؟ قالوا: نعم، قالت: هو لله علَيَّ نذْر ألاَّ أكلِّم ابن الزُّبير أبدًا، فاستَشفع ابنُ الزُّبير إليها حين طالَت الهجرة، فقالت: لا والله، لا أشفع فيه أبدًا، ولا أتحنَّث إلى نَذْري، فلمَّا طال ذلك على ابنِ الزُّبير كلَّم المِسْوَر بن مَخْرمة وعبدالرحمن بن الأسود بن عبديغوث- وهما من بني زُهْرة- وقال لهما: أنشدكما بالله لمَا أَدْخلتُماني على عائشة؛ فإنَّها لا يحل أن تنذر قطيعتي، فأقبل به المسور وعبدالرحمن مُشْتَمِلين بأرديتهما حتىَّ استأذَنا على عائشة، فقالا: السَّلام عليك ورحمة الله وبركاته، أندخل؟ قالت عائشة: ادخلوا، قالوا: كلُّنا؟ قالت: نعم، ادخلوا كلُّكم، ولا تَعلَم أنَّ معهما ابْنَ الزُّبير، فلمَّا دخلوا دخل ابن الزبير الحِجَاب، فاعتنق عائشة وطَفِق يناشدها ويبكي، وطفق المسور وعبدالرحمن يُناشدانها إلاَّ ما كلَّمَتْه وقَبِلت منه، ويقولان لها: إنَّ النبي- صلَّى الله عليه وسلَّم- نهَى عمَّا قد عَلِمْت من الهجرة؛ فإنه لا يحلُّ لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليالٍ، فلما أكثَروا على عائشة من التَّذكِرة والتَّحريج، طَفِقت تذكِّرهما وتَبكي، وتقول: إني نذَرْتُ والنَّذر شديد، فلم يزالا بها حتىَّ كلَّمَت ابن الزبير، وأعتَقَت في نذرها ذلك أربعين رقبة، وكانت تَذْكر نَذْرَها بعد ذلك، فتبكي حتى تبلَّ بدموعها خمارها"؛ أخرجه البخاري.
وعن عروة عن أبيه أن عائشة- رضي الله عنها- كانت تَسْرد الصوم.
وعن القاسم أن عائشة كانت تصوم الدَّهر، ولا تفطر، إلاَّ يوم أضحى أو يوم فطر[9].
وعن القاسم قال: كنتُ إذا غدوت أبْدَأ ببيت عائشة أسلِّم عليها، فغدوت يومًا فإذا هي قائمة تسبِّح، وتقرأ: ﴿ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ ﴾ [الطور: 27]، وتدعو وتبكي وتردِّدها، فقُمتُ حتىَّ مَللْتُ القيام، فذهبت إلى السُّوق لحاجتي، ثم رجعتُ فإذا هي قائمة كما هي، تصلِّي وتبكي.
وعن عامر قال: كتبتْ عائشة إلى معاوية: "أمَّا بعد، فإن العبد إذا عَمِل بمعصيَّة الله- عزَّ وجلَّ- عاد حامِدُه من النَّاس ذامًّا".
وعن إبراهيم عن عائشة- رضي الله عنها- قالت: "إنَّكم لن تَلْقوا الله بشيء خيرٍ لكم من قَلَّة الذُّنوب، فمَن سرَّه أن يسبق الدَّائب المجتهد، فليكُفَّ نفسه عن كثرة الذنوب".
وقال عنها عروة: "ما رأيتُ أحدًا أعلم بفِقْه ولا طبٍّ ولا شِعْر، من عائشة".
وقال عطاء بن أبي رباح: "كانت عائشة أفقه الناس، وأعلم الناس، وأحسن الناس رأيًا في العامَّة".
وقال الزُّهري: لو جُمِع علم عائشة إلى عِلم جميع أزواج النبي- صلَّى الله عليه وسلَّم- وعِلْم جميع النساء لكان عِلْم عائشة أفضل.
وعن مسروق يقول: "رأيتُ مشيخة أصحابِ محمَّد الأكابر يَسألونها عن الفرائض".
- بل ولم يَكن في النِّساء أعلم من تِلميذاتها؛ عمرة بنت عبدالرحمن، وحفصة بنت سيرين، وعائشة بنت طلحة.
وكان مسروق إذا حدَّث عن عائشة قال: حدَّثَتني الصِّدِّيقة بنت الصِّدِّيق، حبيبةُ حبيبِ الله، المبرَّأةُ من فوق سبع سموات.
والحديث لا يَتَّسع لذِكْر جميع مناقب أُمِّ المؤمنين عائشة- رضي الله تعالى عنها- فلقد ظَلَّت طوال حياتها التي تجاوزت السِّتِّين عامًا، تبلِّغ عن رسول الله- صلَّى الله عليه وسلَّم- وتعلِّم الأُمَّة، وتَنصر الدِّين، ذَخيرتُها في ذلك بِضْع سنوات عاشَتْها مع رسول الله- صلَّى الله عليه وسلَّم- كانت وَقُود حياتها، ومَصْدَر عِلْمها.
وبرغم عِظَم ما مرَّ بها من أحداث ومواقف، وأنَّها كانت كالشَّمس تحيط بها أنظارُ المؤمنين وقلوبهُم، فإنَّها لم تَبْرح تَذْكُر النبيَّ- صلَّى الله عليه وسلَّم- فتُنشد تقول:
ذَهَبَ الَّذِينَ يُعَاشُ فِي أَكْنَافِهِمْ
وَبَقِيتُ فِي خَلَفٍ كَجِلْدِ الأَجْرَبِ
لقاء الأحبة:
عن ذَكْوان مولى عائشة: "أنَّه جاء عبدالله بن عبَّاس يستأذن على عائشة، فجِئْتُ وعند رأسِها ابنُ أخيها عبدالله بن عبدالرحمن، فقلتُ: هذا ابن عبَّاس يَستأذن، فأكَبَّ عليها ابنُ أخيها عبدالله، فقال: هذا عبدالله بن عبَّاس يَستأذن، وهي تموت، فقالت: دَعْني من ابن عبَّاس، فقال: يا أُمَّتاه، إنَّ ابن عبَّاس من صالحِي بَنِيك، ليسلِّم عليك ويودِّعك، فقالت: ائذن له إن شِئت، قال: فأدخَلتُه، فلمَّا جلس قال: أبْشِري، فقالت: أيضًا، فقال: ما بينك وبين أن تَلْقي محمَّدًا- صلَّى الله عليه وسلَّم- والأحبَّة إلاَّ أن تخرج الرُّوح من الجسد؛ كُنتِ أحَبَّ نساء رسول الله- صلَّى الله عليه وسلَّم- إلى رسول الله، ولم يكن رسول الله يحبُّ إلاَّ طيِّبًا، وسقطت قلادتك ليلة الأبواء، فأصبح رسول الله- صلَّى الله عليه وسلَّم- حتى يصبح في المنزل وأصبح الناس ليس معهم ماء، فأنزل الله- عزَّ وجلَّ-: ﴿ فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا ﴾ [النساء: 43]، فكان ذلك في سبَبِك، وما أنزل الله- عزَّ وجلَّ- لِهَذه الأُمَّة من الرُّخصة، وأنزل الله براءتك من فوق سبع سموات، جاء به الرُّوح الأمين، فأصبح ليس لله مَسْجدٌ من مساجد الله يُذْكَرُ اللهُ فيه، إلاَّ يُتلى فيه آناءَ الليل وآناء النهار، فقالت: دَعْني منك يا ابن عبَّاس، والذي نفسي بيده، لوَدِدتُ أنِّي كنتُ نسْيًا منسيًّا"؛ إسناده صحيح.
ويَكفيها- رضي الله تعالى عنها- من الناس، شهادة سَليل آل البيت عبدالله بن عبَّاس، حَبْر الأُمَّة، وترجمان القرآن، الذي دعا له النبيُّ- صلَّى الله عليه وسلَّم- أن يُعلِّمه الله- تعالى- التأويل والفِقْه في الدِّين.
وقد أوصَتْ- رضي الله تعالى عنها- عبدالله بن الزُّبير، فقالت له: "ادْفنِّي مع صواحبِي، ولا تدفنِّي مع النبي- صلَّى الله عليه وسلَّم- في البيت؛ فإني أَكره أن أُزكَّى"؛ "صحيح البخاري".
وتُوفِّيَت أُمُّ المؤمنين عائشة- رضي الله عنها- ليلة الثلاثاء لسبع عشرة من رمضان، سنة ثمانٍ وخمسين، وهي ابنة ستٍّ وستِّين سنة، وصلَّى عليها أبو هريرة، وكان خليفة مروان بالمدينة.
وعن هشام بن عروة قال: ماتَتْ عائشة سنَة سبع وخمسين.
وبينما ظلَّتْ أُمُّ المؤمنين المبرَّأةُ من السَّماء علَمًا خالِدًا من أعلام الإسلام المَجِيدة، بقي المُرْجِفون في غياهب ظُلمات نفوسهم، مدفونين في أحقادهم، يأكل أجسادَهم دودُ حسَدِهم لآل البيت وزوجةِ سيِّد الآل- صلَّى الله عليه وسلَّم.
وظلَّت آياتُ القرآن تَصْدع بالحقِّ قلوبًا قاسية، وعقولاً متحجِّرة، أمَّا المؤمنون الصادقون فيَفْتؤون يقرؤون من كلام ربِّهم: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ [النور: 11].
حتى إذا ما سَمِعوا من يُكذِّب الوحي المعصوم، ويتَطاول على مقام بيت النبوة، هَبُّوا كالجسد الواحد على قلب رجل واحد، يُنافِحون عن أمِّ المؤمنين المبرَّأة من فوق سبع سموات، ويَدْفعون عنها الإفك والبهتان.
ولعلَّها أن تكون الصَّحوة التي لا نومة بعدها، والوَحْدة التي لا فُرْقة بعدها، حتى يُعِزَّ الله المؤمنين في كلِّ بقاع الأرض، وينصر بهم الدِّين.
وكما قال أُسَيد بن حضير لأمِّ المؤمنين عائشة- رضي الله تعالى عنها- أقول: "جزاكِ الله خيرًا، فوالله ما نزل بكِ أمْرٌ قطُّ، إلاَّ جعل الله لك منه مخَرجًا، وجعل للمسلمين فيه بركة"؛ "صحيح البخاري".
- • • •
المراجع:
- موقع مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف- التفسير.
- الدُّرر السَّنية الموسوعة الحديثية وإسلام ويب.
- كتاب "البداية والنهاية" للحافظ ابن كثير- رحمه الله تعالى.
- مناقب عائشة- رضي الله تعالى عنها- كتاب "صِفَة الصَّفوة" للإمام ابن الجوزي- رحمه الله تعالى.
[1] عن القاسم بن محمد: "أن عائشة اشتَكَت، فجاء ابن عبَّاس فقال: يا أُمَّ المؤمنين، تَقْدَمِين على فَرطِ صِدْق، على رسول الله- صلَّى الله عليه وسلَّم- وعلى أبي بكر"؛ "صحيح البخاري".
[2] عن "الدُّرر السَّنية" (وقد أضفْتُ رابطه إلى النصِّ)، وهذا هو العزو:
الراوي: عائشة، المحدِّث: الهيثمي- المصدر: مجمع الزوائد- الصفحة أو الرقم: 9/228.
خلاصة حكم المُحدِّث: رجاله رجال الصَّحيح، غير محمد بن عمرو بن علقمة، وهو حسَنُ الحديث.
[3] عن "الدرر السَّنية" (وقد أضفت رابطه إلى النصِّ) وهذا هو العزو:
الراوي: الشَّعبي، المحدِّث: ابن كثير- المصدر: البداية والنهاية- الصفحة أو الرقم: 5/252
خلاصة حكم المحدث: إسناده جيد قوي، والظاهر أن الشعبي سمعه من علي، أو ممن سمعه من علي.
[4] الحكم المبدئي: إسناده ضعيف ويحسن إذا توبع، (عن "إسلام ويب"، وقد أضفت رابطه إلى النص).
[5] الصَّفِي؛ أيْ: مما اصطفاه رسول الله- صلَّى الله عليه وسلَّم- واختصَّ به؛ "إسلام ويب".
وعن الشعبي: "كان للنبيِّ- صلَّى الله عليه وسلَّم- سهمٌ يدعى الصَّفي، إن شاء عبدًا، وإن شاء أمَة، وإن شاء فرسًا، يختاره قبل الخمُس".
الراوي: الشعبي، المحدِّث: أبو داود- المصدر: سنن أبي داود- الصفحة أو الرقم: 2991
خلاصة حكم المحدِّث: سكت عنه [وقد قال في رسالته لأهل مكة: كلُّ ما سكَتُّ عنه فهو صالح]؛ عن "الدرر السنية".
[6] عن "الدرر السنية": (وقد أضفت رابطه إلى النص) وهذا هو العزو:
الراوي: ناشرة بن سمي اليزني، المحدث: ابن كثير- المصدر: مسند الفاروق- الصفحة أو الرقم: 2/477
خلاصة حكم المحدث: إسناده جيد.
[7] كتاب "البداية والنهاية"، لابن كثير، المجلَّد الرابع، الجزء الثاني، صفحة 16، ابن سعد (8/100) والواقدي: متروك.
[8] كتاب "صِفَة الصَّفوة" للإمام ابن الجوزي- رحمه الله تعالى.
[9] كتاب "صفة الصفوة" للإمام ابن الجوزي- رحمه الله تعالى.
التعليقات