د. فارس العزاوي
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة:
الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على الرسول الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، ومَن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أمَّا بعدُ:
فلا يخفى أنَّ من مقاصد الشرع تعبيدَ الناس لرب العالمين، قال الشاطبي: "المقصد الشرعي من وضع الشريعة إخراج المكلَّف من داعية هواه، حتى يكون عبدًا لله اختيارًا، كما هو عبد لله اضطرارًا"[1]، ومقتضى هذا المقصد التِزام الشرع المطهَّر في المعتقد، والعبادة، والمعاملة، والخُلُق، والأدب، ولا شكَّ أنَّ من أعظم وظائف الإنسان الخليفة ما نصَّ عليه المولى - سبحانه - في كتابه في قوله: ﴿ كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 151]، وقوله - سبحانه -: ﴿ لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ ﴾ [آل عمران: 164]، وقوله - سبحانه -: ﴿ رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [البقرة: 129]، وهي دالَّة على الارتِباط بين التعليم والتزكية كما هو ظاهر من منطوقها؛ لهذا كان من مقاصد الشرع تزكية النفوس، وعدَّه بعض أهل العلم من المقاصد الكليَّة العُليَا؛ فيكون أسوة بمقصد التوحيد، وإذا كانت التزكية والتربية بهذه المثابة، فإنَّ القيام على خلافها يُعتَبَر نشازًا وانحِرافًا عن الجادَّة والسبيل، ومن أفراد هذا الانحِراف ما شاع بين طلبة العلم في المدارس والثانويات من إخلال بأمانة التعليم، وخروجٍ عن سبيل التربية التي تُعَدُّ مقصدًا من مقاصد القائمين على مسالكها ومناشطها، ومن أعظم مظاهر الإخلال ما نلمَسُه من انتشار ظاهرة الغش بين طلابنا بصورة جليَّة، وممَّا زاد الأمر خطورةً أنَّ هناك مَن يُيسِّر ويُسهِّل للطلاب الوقوع في هذه الظاهرة الخطيرة، والتي تُعَدُّ كبيرةً من كبائر الذنوب كما سيظهر لنا من خِلال أدلَّة الشرع، وخاصةً من بعض القائمين على الجانب التربوي والتعليمي، سواء في ذلك المعلِّمون والإدارِيُّون، ولا يتوقَّف الأمر في انتشار الظاهرة السوء هذه على مدارس التربية والتعليم، بل شملت المؤسسات التعليميَّة الأخرى؛ كالجامعات والمعاهد العلمية والتقنية؛ وعليه لا بُدَّ من الوقوف في وجه هذه الظاهرة، وتكثيف الجهود من أجل القَضاء عليها، ولا شكَّ أنَّ من الوسائل المُعِينة إشاعةَ الثقافة الشرعيَّة في الأوساط التعليميَّة والتربويَّة بشتَّى صُوَرِها، وفي هذا المِحْوَر سنُحاوِل الوقوف على الرؤية الشرعية التي تُظهِر الحكمَ الشرعي لهذه الظاهرة، وقد جعلناها في جملة مطالب وفقًا لما يأتي:
المطلب الأول: في مفاهيم الدراسة وما يُقارِبها.
المطلب الثاني: حكم الغش وأنواعه.
المطلب الثالث: تحقيق المَناط في ظاهرة الغش في التعليم.
المطلب الأول: في مفاهيم الدِّراسة وما يُقارِبها:
يقتَضِي الحديثُ عن ظاهرة الغشِّ تسكينَها في إطارها المفاهيمي، وهُناك جملةٌ من المفاهيم التي تقتَرِب من الظاهرة معنى لا لفظًا ينبغي الوقوفُ عندها وإدراكُ مضمونها وفَحواها بغيةَ التعرُّف على المنظومة التي تشكِّل الإطار المفاهيمي الذي نحن بصدد جعْل بحثنا في حدوده المصطلحيَّة، وتحديد الإشكالات المنهجية والمجالية المحيطة به، وما يترتَّب عليها من آثار نفسية ومجتمعية خطيرة.
الأول: مفهوم الغش:
لو تأمَّلنا الكلمة في سياقها المعجمي، لظهر لنا أنَّ اللفظة متضمِّنةٌ جملةً من المعاني: إظهار خِلاف ما يُضمَر، عدم تمحُّض النصيحة، المشرب الكدر، الغل، الحقد، الكدر المشوب، الظلمة، الخلط[2].
والغش في الاصطِلاح تتعدَّد رسومُه التعريفيَّة بحسب تنوُّع التخصُّصات واختِلافها؛ فهو في الاصطِلاح الشرعي: ما يُخلَط من الرَّدِيء بالجيِّد، أو نشرُ السوء وبثُّه على حساب الخير، وفي الاصطِلاح التربوي: عمليَّةُ تزييف لنتائج التقويم، أو هو محاولة غير سويَّة لحصول الطالب على الإجابة من الأسئلة باستِخدام طريقةٍ غير مشروعة، وهو في اصطِلاح علم الاجتماع الإسلامي: ظاهرة اجتماعيَّة منحرفة؛ لخروجها عن المعايير والقِيَم الشرعية، ولما تتركه من آثار سلبيَّة تنعَكِس بصورة واضحة على مظاهر الحياة الاجتماعيَّة في المجتمع، وبالجملة: الغشُّ يُعتَبر سلوكًا غيرَ أخلاقي وغيرَ تربوي، ينمُّ عن شخصية غير سويَّة وليست ناضجة، وهي تعكس الخللَ التربوي وضعفَ الأثر الشرعي في نفسية صاحبه[3].
الثاني: مفهوم الخيانة:
مرجع المفهوم من حيث لفظُه إلى مادة (خون)، وهي دالة على جملة من المعاني، ومنها: النقص، التفريط في الأمانة، النفاق، مخالفة الحق، نقض العهد، الضعف، مسارقة العيون، إضمار شيء في النفس بخلاف ما يظهره[4].
أمَّا مفهوم الخيانة في إطارها المصطلحي، فإنَّ اللفظ قد استعمَلَه القرآن الكريم في معاني مختلفة كلها دائرة في مفهوم الخيانة، ومن تلكم المعاني:
أولاً: المعصية، وقد دلَّ عليه قوله - تعالى -: ﴿ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ ﴾ [البقرة: 187].
ثانيًا: نقض العهد، ومنه قوله - تعالى -: ﴿ وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ الْخَائِنِينَ ﴾ [الأنفال: 58].
ثالثًا: ترك الأمانة، كما في قوله - تعالى -: ﴿ وَلاَ تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا ﴾ [النساء: 105].
رابعًا: المخالفة في الدين، ودلَّ عليها قوله - تعالى -: ﴿ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا ﴾ [التحريم: 10].
خامسًا: الزنا، في قوله - تعالى -: ﴿ وَأَنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ ﴾ [يوسف: 52].
ولقد حاوَل البعض رسمَ الخيانة مصطلحيًّا[5]؛ فقال الجاحظ: "الخيانة: هي الاستِبداد بما يُؤتَمن الإنسانُ عليه من الأموال والأعراض والحُرُمِ، وتملكُ ما يُستودَع ومجاحدةُ مُودِعِه".
وقال المُناويُّ: "الخيانة: هي التفريط في الأمانة، وقيل: هي مخالفة الحق بنقض العهد في السر".
وقال ابن الجوزي: "الخيانة: التفريط فيما يُؤتَمن الإنسان عليه".
وقال القرطبي: "الخيانة الغدر وإخفاء الشيء".
الثالث: مفهوم النِّفاق:
النِّفاق أظهر من أن نَسُوق معانِيَه ومَضامِينَه اللغوية والشرعية، والمعلوم أن النفاق مأخوذ من نافقاء اليربوع، وهو حيوان يجعل له عِدَّة مخارج يخدع بها مَن يُحاوِل اصطياده، فإذا أرادَه من أحد مَنافِذه هرب من إحدى المَخارِج التي أعدَّها لهذا الغرض، والمعنى الاصطِلاحي لا يخرج عن المعنى اللغوي، فالنِّفاق - كما يعرِّفه العلماء - هو إظهار الإسلام والخير، وإبطان الكفر والشر، وهو تعريفٌ جامعٌ لأنواع النِّفاق، فكما هو معلوم: النفاق عند أهل العلم نوعان؛ نفاق أكبر مُخرِج عن الملَّة، وقوامه إظهار الإسلام وإبطان الكفر، وهو الذي دلَّت عليه النصوص القرآنية في مواضع متفرِّقة من كتاب الله - تعالى - ومنها قوله - تعالى -: ﴿ إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ * اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ ﴾ [المنافقون: 1 - 3]، ونِفاق أصغر لا يُخرِج عن الملة، ويُعتَبر معصية كبيرة، وهو إظهار الخير وإبطان الشر، وقد دلَّت عليه نصوص السنَّة؛ كقوله - عليه الصلاة والسلام - من حديث أبي هريرة - رضِي الله عنه -: ((آية المنافق ثلاث: إذا حدَّث كذب، وإذا وعَد أخلف، وإذا اؤتُمِن خان))[6].
رابعًا: أكل الحرام:
الحرام عند العلماء - خاصَّة الأصوليين - مفهومه: ما نهى عنه الشارع على وجه الإلزام، وحكمه وضابطه يُثاب تارِكُه ويستحقُّ العقاب فاعلُه، أمَّا أكله فيَعنِي تناولَه، فيكون أكلُ الحرام اصطِلاحًا تناولَ الممنوع شرعًا، أو التلبُّسَ بالممنوع شرعًا؛ حتى يعمَّ التناوُلَ وغيرَه، بحكم أنَّ التناوُل يتعلَّق بالأكل دون غيره، فيكون القصد بالأكل في المفهوم أشمل ممَّا يدل عليه اللفظ، وقد جاءت في التحذير من أكل الحرام نصوصٌ متعدِّدة في كتاب الله - تعالى - وسنَّة النبي - صلَّىَّ الله عليْه وسلَّم - من ذلك قوله - تعالى -: ﴿ وَلاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ ﴾ [البقرة: 188]، وقوله: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ ﴾ [النساء: 29]، والمراد بالباطل: ما يُخالِف الشرعَ؛ كالرِّبا، والقمار، والبخس، والظلم، قال بعض المفسِّرين: "والمراد من الأكل: ما يعمُّ الأخذَ والاستِيلاءَ، والمراد بالباطل: الحرام"[7]، ومن الأدلَّة التي تدلُّ على أكل الحرام ما رواه البخاري في "صحيحه" من حديث أبي هريرة - رضِي الله عنه -: أن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((ليأتينَّ على الناس زمانٌ لا يُبالِي المرءُ بما أخذ المال، أمن الحلال أم من حرام))[8]، وما أخرجه مسلم في "صحيحه" من حديث أبي هريرة - رضِي الله عنه - كذلك: أنَّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((يا أيها الناس، إن الله طيب لا يَقبَل إلا طيبًا، وإن الله أمَر المؤمنين بما أمَر به المرسلين، فقال: ﴿ يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ﴾ [المؤمنون: 51]، وقال: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ ﴾ [البقرة: 172]))، ثم ذكَر الرجل يُطِيل السفر، أشعث أغبر، يمدُّ يديه إلى السماء، يارب، يارب، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغُذِيَ بالحرام، فأنَّى يُستَجاب لذلك[9].
والناظر في مفهوم الغش والمفاهيم الأخرى يُدرِك مَدَى تقارُبها من حيث معناها ومقتضاها؛ ولهذا فإنَّ هناك تقاربًا في المفاهيم يجعلها في منظومة مفاهيميَّة واحدة تَتقارَب مضامينها وإن لم تَتطابَق كليًّا؛ ولذلك نقرِّر فنقول تأسيسًا: إنَّ الغشَّ من حيث مفهومُه يتضمَّن الخيانة بحكم كون الغشِّ نقضًا للعهْد وتفريطًا في الأمانة، وهو يقتَرِب من النفاق العملي؛ لكون الغاشِّ يُضمِر خِلافَ ما يُظهِر، ويترتَّب على الغشِّ أكلُ المال الحرام؛ لأنَّه أكل أموال الناس بالباطل.
المطلب الثاني: حكم الغشِّ وأنواعه:
لا أحد يختلف يقينًا بعد التعرُّف على المفاهيم السابقة في حكم الغشِّ من حيث حرمته وذمه في الشرع، ولهذا جعل الباحث هذا المطلب محصورًا في بيان حكم الغش بصورة عامَّة، ثم يتبعه بذكر أنواعه كما دلَّت عليه النصوص الشرعية كتابًا وسنة:
أولاً: حكم الغش:
الذي يظهر من كلام أهل العلم عن الغش أنَّه من الكبائر، كما هو صنيع الذهبي[10]، وابنِ حجر الهيتمي[11]، والمُناوي[12]، وقد دلَّت على هذا الحكم عِدَّةُ نصوص بدلالاتها التصريحية والإيمائية، ومن ذلك:
• قوله - تعالى -: ﴿ إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا ﴾ [النساء: 58]، قال صاحب المنار: "والأمانة حقٌّ عند المكلف يتعلَّق به حقُّ غيره ويُودِعه لأجل أن يوصله إلى ذلك الغير؛ كالمال والعلم، سواء كان المودَع عنده ذلك الحق قد تَعاقَد مع المودِع على ذلك بعقد قولي خاص صرَّح فيه... أم لم يكن كذلك، فإن ما جرى عليه التعامُل بين الناس في الأمور العامَّة هو بمثابة ما يَتعاقَد عليه الأفراد في الأمور الخاصة"[13].
• قوله - تعالى -: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ [الأنفال: 27]، قال الثعالبي: "هذا خطابٌ لجميع المؤمنين إلى يوم القيامة، وهو يجمَع أنواع الخِيانات كلها، قليلها وكثيرها، والخيانة: التنقُّص للشيء باختِفاء، وهي مُستَعمَلة في أن يفعل الإنسان خلافَ ما ينبَغِي من حفظ أمرٍ ما، مالاً كان أو سرًّا أو غيرَ ذلك"[14].
• قوله - تعالى -: ﴿ وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ ﴾ [المطففين: 1]، والآية وإن كانت متعلِّقة بالتطفيف في جانِبِه المادي كما يدلُّ عليه سياقها، إلا أنَّ لفظها لا يمنع من الاستِدلال به لبيان الخلل الذي يُصِيب المجتمع جرَّاء اختِلال الميزان الشرعي فيه، فإنَّ هناك سننًا اجتماعيَّة لا بُدَّ من اعتِبارها عند توافُقِها مع الشريعة؛ حيث يُبنَي المجتمع على قواعد شرعية وأخلاقية تُحافِظ عليه، مرجِع هذه القواعد قاعدةٌ كبرى هي: قاعدة العدل وحفظ الحقوق، فإذا اختلَّتْ هذه القاعدة، فهذا معناه سيادةُ وانتِشار الظلم بين الناس، وقد قيل قديمًا: إنَّ الله يُقِيم الدولةَ العادِلة ولو كانت كافِرة، ولا يُقِيم الدولةَ الظالِمة ولو كانت مسلمة.
• حديث أبي هريرة - رضِي الله عنه -: أن رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - مرَّ على صبرة طعام فأدخل يده فيها فنالت أصابعه بللاً، فقال: ((ما هذا يا صاحب الطعام؟))، قال: أصابته السماء يا رسول الله، قال: ((أفلا جعلته فوق الطعام كي يراه الناس؟ مَن غشَّ فليس مِنِّي))[15]، قال العظيم آبادي في شرحه للحديث: "قال الخطابي: معناه ليس على سيرتنا ومذهبنا؛ يريد أنَّ مَن غشَّ أخاه وترَك مناصحته فإنه قد ترك اتِّباعي والتمسُّك بسنَّتي... والحديث دليلٌ على تحريم الغشِّ وهو مُجمَع عليه"[16].
• قوله - صلَّى الله عليه وسلَّم - من حديث معقل بن يسار - رضِي الله عنه - : ((ما من عبدٍ يستَرعِيه الله رعيَّة، يموت يوم يموت وهو غاشٌّ لرعيَّته إلا حرَّم الله عليه الجنة))[17]، قال النووي: "معناه: بَيِّن في التحذير من غشِّ المسلِمين لِمَن قلَّده الله - تعالى - شيئًا من أمرهم، واسترعاه عليهم، ونصبه لمصلحتهم في دينهم أو دنياهم، فإذا خانَ فيما اؤتُمِن عليه فلم ينصح فيما قلَّده، إمَّا بتضييعه تعريفَهم ما يلزمهم من دينهم وأخذهم به، وإمَّا بالقِيام بما يتعيَّن عليه من حفظ شرائعهم والذبِّ عنها... وقد نبَّه النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - على أنَّ ذلك من الكبائر الموبقة المبعدة من الجنة"[18].
• قوله - صلَّى الله عليه وسلَّم - من حديث أبي بكرة - رضِي الله عنه -: ((ألا أنبِّئكم بأكبر الكبائر؟ (ثلاثًا): الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، ألاَ وقول الزور وشهادة الزور))، وكان رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - متَّكِئًا فجلس، فما زال يكرِّرها حتى قلنا: ليته سكت[19]، وموضع الشاهد من هذا الحديث قوله - عليه الصلاة والسلام -: ((وقول الزور))، وعطف شهادة الزور عليه فيما يظهَر عطف الخاصِّ على العامِّ؛ بمعنى: أنَّ شهادة الزور من أفراد قول الزور، وإذا كان الأمر كذلك، فإن من أفراد قول الزور التلبسَ بالغش ومخادعةَ الناس وخيانتَهم، والزورُ - كما قال شُرَّاح الحديث - هو الكذب، وسُمِّي بذلك لميلانه عن جهة الحق[20]، والغشُّ لا يكون إلا كذلك.
• قوله - صلَّى الله عليه وسلَّم - من حديث أبي هريرة - رضِي الله عنه -: ((المؤمن غِرٌّ كريم، والفاجر خِبٌّ لئيم))[21]، قال الشيخ عبدالمحسن العبَّاد: "معنى قوله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((المؤمن غر))؛ أي: إنَّه لا يُشغِل نفسَه بتتبُّع الأمور التي يكون فيها مضرَّة، أو الأمور التي ليست حسنةً فيُشغِل نفسه بها، وقوله: ((كريم))؛ لأن كرمه هو الذي يدفعه إلى أنَّه لا يُشغِل نفسه بمثل هذه الأمور، بعكس الفاجر فإنه خَبٌّ أو خِبٌّ؛ بمعنى: أنه يُقدِم على أشياء فيها فساد وفيها مضرَّة"[22].
ووجه الاستِدلال بهذا الحديث على ظاهرة الغشِّ: أن الغش كما تبيَّن لنا من وسائل الإفساد في المجتمع، وهذا يستلزم الإضرارَ بالمجتمع المسلم، ولا شكَّ أنَّ الشريعة جاءت بتَحصِيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها.
• قوله - صلَّى الله عليه وسلَّم - من حديث أبي هريرة - رضِي الله عنه -: ((إذا ضُيِّعت الأمانة فانتَظِر الساعة))، قال: كيف إضاعتها يا رسول الله؟ قال: ((إذا أُسنِد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة))[23]، وجه ارتِباط الحديث بموضوع الدِّراسة من وجهته الدلاليَّة أن الحديث دالٌّ على أنَّ إسناد الأمر إلى غير أهله يُعتَبَر تضييعًا للأمانة؛ لذلك فهو ألصَق من هذه الجهة بالقائمين على العمليَّة التربويَّة والتعليميَّة، والمراد بالأمر - كما قال ابن حجر - جنس الأمور التي تتعلَّق بالدين؛ كالخِلافة والإمارة والقَضاء والإفتاء وغيرها[24]، ويدخُل فيها كلُّ ما يُقِيم مصالح الناس في دنياهم بلا شكٍّ؛ لأنَّ تحقيق مصالح الناس في مَعاشِهم من مَقاصِد الشرع؛ لهذا فإنَّ إسناد الأمر إلى غير أهله يخلُّ بهذا المقصد؛ لأن فيه تعطيلاً لمصالح الناس وخروجًا بها عن القصد، كون القائم على الأمر ليس كفؤًا له، وهذا يُفضِي بطبيعة الحال إلى فَساد وظلم عظيم وفوضى كبيرة، ومن قواعد الشرع العُليَا: درء المفاسد مُقدَّم على جلب المصالح، ولا شكَّ أنَّ قِيام الفاسد أو غيرِ الكفؤ على الأمر يُعتَبَر من الإفساد في الأرض؛ قال - تعالى -: ﴿ وَلاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا ﴾ [الأعراف: 56].
ثانيًا: أنواع الغش:
من خِلال استِقراء الأدلَّة التي تقدَّمت معنا، فإنَّ هناك عِدَّة أنواعٍ من الغشِّ يُمكِن بيانها في الآتي:
• الغشُّ في البيوع وغيرها من المعامَلات، وهو الذي دلالته فيما مضى، وقد أشار إليه المُناويُّ بقوله: "ما يُخلَط من الرَّديء بالجيِّد"[25]، وأشار إليه ابن حجر الهيتمي بقوله: "الغشُّ: أن يعلم ذو السلعة من نحو بائع أو مشترٍ فيها شيئًا لو اطَّلَع عليه مريدُ أخذِها ما أخذَهَا بذلك المقابل"[26].
• الغش في النصيحة، وقد دلَّ على هذا ما احتَمَله اللفظ من معنى لغوي، ومن ذلك عدم تمحُّض النصيحة، بالإضافة إلى دلالات النصوص من حيث تضييع الأمانة، والخيانة، ونقض العهد، وكلُّ ذلك يَتنافَى - ولا شك - مع مُقتَضَى النصيحة، الذي يَعكِس حرص المؤمن على أعراض الناس ومصالحهم، واستِقرار المجتمع المسلم.
• الغش للرعيَّة، وقد صرَّح به الذهبي في الكبيرة الثالثة عشرة، واستدلَّ له بعِدَّة أحاديث[27]، ومنها الحديث المتقدم معنا، وفيه يقول - عليه الصلاة والسلام -: ((ما من عبدٍ يستَرعِيه الله رعية، يموت يوم يموت وهو غاشٌّ لرعيَّته إلا حرَّم الله عليه الجنة)).
• الغشُّ في أداء الأمانة، وقد دلَّ عليه قوله - تعالى -: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ [الأنفال: 27].
• الغشُّ في الاختِبارات والامتِحانات، وهو محلُّ البحث وسنخصِّص له المطلب الثالث.
المطلب الثالث: تحقيق المناط في ظاهرة الغش في التعليم:
يرتبط هذا المطلب بتنزيل الحكم العام في حرمة الغش بمفهومه الشامل على قضيَّة الغش في التعليم، وبعد بيان المفهوم العام والخاص والوقوف على الأدلة الشرعية، فإنه لا خِلاف في حرمة الغشِّ في إطاره التربوي والتعليمي، وذلك من وجوه عديدة:
أولاً: كونه فردًا من أفراد الغش كما دلَّت عليه النصوص، وأظهرها قوله - عليه الصلاة والسلام -: ((مَن غشَّ فليس مِنِّي))، واللفظ هنا ورد عامًّا على سبب خاص، وهو الغش في الطعام، إلا أنَّ المعلوم من مسالك أهل العلم ومناهج الاستِدلال عندهم أنَّ ورود السبب الخاص لا يعني حصر اللفظ في مقتضى السبب بحيث يكون حاصرًا له من حيث المعنى، بل المراد أنَّ مقتضى السبب هو أحد أفراد اللفظ من حيث المعنى، ولذلك قعَّد العلماء قاعدةَ: العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، ويشهد لهذا الفهم أنَّ الحديث نفسه من حيث عبارته جاء عامًّا؛ كونه جاء بلفظ (مَن) الذي يفيد العموم.
ثانيًا: ما يترتَّب عليه من مفاسد عظيمة في المجتمع المسلم، أظهرها تولِّي الغاش أمرًا من أمور المسلمين وهو غير مُؤهَّل له قطعًا، فيُفضِي إلى التفريط بالواجب الشرعي والمجتمعي المتعلِّق بهذا الأمر، وتصوَّر لو أنَّ أمور المجتمع كلَّها أو أغلبَها موكولةٌ إلى هؤلاء وأمثالهم فما هو الأثر الذي ستتركه هذه المجموعة الفاسدة على المجتمع وأفراده، والتي أظهرت نفسها بأنها من حملة الشهادات، وحقيقتها مزوَّرة؟! كما لا يخفى ما يترتَّب عليه من أكل أموال الناس بالباطل، والظلم، وخيانة الأمانة، والخداع... إلخ.
ثالثًا: صدور كثيرٍ من الفتاوى المعضِّدة لمقتضى النصوص المحرِّمة لهذه الظاهرة، والمبيِّنة حكمَ الغش في التعليم على وجه الخصوص، وقد شاع مع الأسف عند كثيرٍ من طُلاَّبنا وبعض القائمين على الأمر في التربية والتعليم من المعلمين والإداريين - جوازُ الغش في بعض المواد خاصَّةً اللغةَ الإنجليزية وأمثالهَا من الموادِّ بحكم أنها موادُّ لا تمتُّ لثقافتنا الإسلامية بصلة، وهو مبرِّر لا أصلَ له من الشرع والعقل، وفيما يأتي بعضُ فتاوى العلماء الدالَّة على حرمة هذا الفعل وفسادِ مبرِّره، قال سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز: "الغش محرَّم في الاختِبارات، كما أنَّه محرَّم في المعاملات، فليس لأحدٍ أن يغشَّ في الاختِبارات في أيَّة مادَّة، وإذا رضي الأستاذ بذلك فهو شريكُه في الإثم والخيانة"[28]، وقال جوابًا على سؤالٍ، منطوقُه: ما قولُكم فيمَن يقول: إنَّ الغشَّ حرام فقط إذا كان في المواد والعلوم الشرعيَّة، ويكون مباحًا إذا كان في غيرها؛ كاللغة الإنجليزية أو التاريخ أو الرياضيات أو الهندسة أو نحوها؟ فقال - رحمه الله -: "الغش في جميع المواد حرام ومنكر؛ لعموم قوله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((مَن غشنا فليس مِنَّا))، وهذا لفظ عام يعمُّ الغش في المعاملات، وفي النصيحة والمشورة، وفي العلم بجميع مواده؛ الدينية والدنيوية، ولا يجوز للطالب ولا للمدرِّس فعل ذلك، ولا التساهُل فيه، ولا التغاضِي عنه؛ لعموم الحديث المذكور وما جاء في معناه، ولما يترتَّب على الغشِّ من المَفاسِد والأضرار والعَواقِب الوخيمة"[29]، وقال فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين: "لا يجوز للطالب أن يُساعِد زميله في الامتِحان أبدًا؛ لأن ذلك من خيانة الأمانة، فالجهات المسؤولة لا تَرضَى بذلك، وهو في الحقيقة ظلمٌ للطالب المُعان، وظلمٌ للطالب المُعِين، وجناية على الجهة المسؤولة التي هو تحت رعايتها، وجناية على الأمة جمعاء"[30].
وخلاصة القول بعد هذا التطواف مع مفهوم الغشِّ وما يُقارِبه، والوقوف على الأدلَّة الشرعية والعقليَّة الدالَّة على حكمه، فإنه يُقطَع بحرمته في جميع صوره، وخاصَّة الغش في التربية والتعليم، كونه محلَّ بحثنا ودراستنا، وعلى مسؤولي التربية والتعليم واجب شرعي ومجتمعي من خلال الوقوف بجديَّة للقَضاء على هذه الظاهرة؛ لأنها بحقٍّ سوسٌ ينخر نِظام المجتمع والأمَّة، إلا أنَّه ينبغي التنبيه على أنَّ هذا الخلل يجب تسكينُه في إطارِ منظومته القيميَّة؛ ذلك أنَّه ليس بمَعزِل عن ظَواهِر الخلل الأخرى التي أُصِيبَ بها المجتمع، والقضاء على ظاهرة الغشِّ في مجتمعاتنا لا يتسنَّى إلا بمواجهة جوانِب الخلل الأخرى، وهذا يقتَضِي القيامَ على بِناء منظومة أخلاقية وقيمية مؤسَّسة على ثوابتنا الشرعية في الكتاب والسنَّة، وتنفيذها في إطار برامج ونظم تطبيقية في المجتمع، الأمر الذي يستدعي تعاونًا ومشاركة بين كلِّ الجهات المسؤولة والتنفيذية في المجتمع، وتجنيدَ كلِّ الطاقات للحيلولة دون انهِيار الأساس الأخلاقي للمجتمع ونظمِه بكلِّ صورها.
[1] "الموافقات"، ص310.
[2] "تاج العروس من جواهر القاموس"؛ محمد مرتضى الزبيدي، ج17 ص289.
[3] "ظاهرة الغش في المدارس"، بحث منشور في موقع "رجة"، تاريخ الاقتباس: 3/ 5/ 2010م.
[4] "تاج العروس من جواهر القاموس"؛ محمد مرتضى الزبيدي، ج34 ص499.
[5] انظر: "موسوعة نظرة النعيم في مكارم أخلاق الرسول الكريم - صلَّىَّ الله عليْه وسلَّم"؛ إشراف: صالح بن عبدالله بن حميد، وعبدالرحمن بن محمد الملوح، ج10 ص4483.
[6] أخرجه البخاري رقم 2682، ومسلم رقم 59.
[7] "المقتطف من عيون التفاسير"؛ مصطفى الحصن المنصوري، ج1 ص208.
[8] أخرجه البخاري رقم 2083.
[9] أخرجه مسلم رقم 1015.
[10] كتاب "الكبائر"، ص67.
[11] "الزواجر"، ص320.
[12] "موسوعة نضرة النعيم"، ج11 ص5069.
[13] تفسير المنار، محمد رشيد رضا، ج5ص170.
[14] تفسير الثعالبي المسمى "الجواهر الحسان في تفسير القرآن"؛ عبدالرحمن بن محمد الثعالبي، ج3 ص126.
[15] أخرجه مسلم، رقم 102.
[16] "عون المعبود شرح سنن أبي داود"؛ شمس الحق العظيم آبادي، ج9 ص230.
[17] أخرجه مسلم رقم 142.
[18] "المنهاج في شرح صحيح مسلم بن الحجاج"؛ يحيى بن شرف النووي، ج2 ص165.
[19] أخرجه مسلم رقم 87.
[20] "تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي"؛ المباركفوري، ج8 ص295.
[21] أخرجه الترمذي رقم 1964.
[22] "شرح سنن أبي داود"؛ عبدالمحسن العباد، ج27 ص409.
[23] أخرجه البخاري رقم 6131.
[24] "فتح الباري بشرح صحيح البخاري"، ج11 ص334.
[25] "موسوعة نضرة النعيم"، مرجع سابق، ج11 ص5069.
[26] "الزواجر"، مرجع سابق، ص323.
[27] "الكبائر"، مرجع سابق، ص67.
[28] "مجموع فتاوى ومقالات ابن باز"؛ سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز، ج6 ص398.
[29] المرجع السابق، ج24 ص62.
[30] "فتاوى نور على الدرب"؛ فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين، ج14.
التعليقات