عناصر الخطبة
1/ظاهرة الإهمال وقلة الجودة 2/رداءة الإنتاج والتسيب والفساد 3/أسباب استحكام ظاهرة الرداءة في النفس والمجتمع 4/حث الإسلام على أعلى درجات الجودة والإتقان 5/أهمية التربية على القيم الخلقية 6/التفاؤل وعدم اليأس.اقتباس
مظاهرُ ومُفرداتُ الرّدَاءةِ لا تحتاجُ إلى جُهدٍ في الكشف: تأمّلِ الأداءَ والإنتاجَ الفَردِي اليومِي للشخصِ حتّى في عبادَتِه لله وصفةِ صلاته وأوقاتِها وقراءته للقرآن الكريم تجِدُهُ يفتقِدُ للجَودَةِ والإتقانِ يتّصِفُ بالرّدَاءَةِ والقصورِ والتسيّب! تأمّلِ...
الخُطْبَة الأُولَى:
الحمدُ لله الذي خلق كلَّ شيءٍ فقدَّرَهُ تقديرًا، أحمدُهُ -سبحانه- وأشكُرُه وأؤمن به وأتوكل عليه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهدُ أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان وسلم تسليماً.
ثم أما بعد: حديثُنا اليوم رصدٌ وتحليلٌ لظاهرةٍ عمّت وتوسّعَت بشكلٍ رهيب، يوشِكُ إن استفحَلت أن تأكُلَ الأخضَرَ واليابِس، حيثُما نظَرتَ وأرجَعتَ البصَرَ إلاّ ويثبُتُ لديكَ إصابَةُ الغالِبِ الأعَمِّ بهذا الوَبَاءِ الآثِم، والمعصومُ من عصمَهُ الله.. إنّهَا "ظاهِرَةُ الرّدَاءَةِ وفُقدَانُ الجَودَةِ في كلّ شيء".
ظاهرةٌ عمّت وتغلّبت في تفكيرِ وأدَاءِ وإنتاج المسلمين حتّى اعتبرَها البعضُ قرينَةَ الإسلامِ للهِ ربّ العالمِين.. وهذا بهتانٌ فاحِش، والصّوابُ أنه اجتمعت أسبابٌ وعَوامِلُ في واقع المسلمين أفرادًا ومؤسساتٍ عمِلت وِفقَ سُنّةِ الله التي لا تُحابِي ولا تضطَهِد في تكريسِ الرّدَاءَةِ والسلبيّةِ في كُلّ شيء..!
معشر المؤمنين: مظاهرُ ومُفرداتُ الرّدَاءةِ لا تحتاجُ إلى جُهدٍ في الكشف: تأمّلِ الأداءَ والإنتاجَ الفَردِي اليومِي للشخصِ حتّى في عبادَتِه لله وصفةِ صلاته وأوقاتِها وقراءته للقرآن الكريم تجِدُهُ يفتقِدُ للجَودَةِ والإتقانِ يتّصِفُ بالرّدَاءَةِ والقصورِ والتسيّب!
تأمّلِ الأداءَ والإنتاجَ، تأمّلِ الأداءَ في القراءة وتحصيل العلم.. الإنتاجَ الزّواجِي والأُسَرِي.. التعليمي التربوي.. البحثِي الأكاديمي.. الصحّي العلاجِي.. في الشوارع والأحياء.. الإداري العام.. وغيرها من مجالات النشاط تجِدِ العنوان العام هوَ: الرّدَاءةَ والقصُورَ والإهمالَ والتسيّبَ والغِش والخديعةَ وفقدانَ الحِس النّوعي في المنتوجِ.. نسأل اللهَ السلامة والعافية.
معشر المؤمنين: أين نحنُ ذاهِبُونَ بهذه العقليّة والثقافة؟!، وما هي الأسبابُ التي تصنعُ في النفوسِ والمجتمعات "ثقافةَ الرّداءة" لنتجنّبَها وننجُوَ منها؟
أقول: نقفُ اليومَ مع ثلاثةٍ منها أساسية؛ سائلين اللهَ -تعالى- أن يُجنّبَنَا الآفات والمنكرات.
أيها الأحباب: السببُ الأساسي في استحكَامِ ظاهرة الرّدَاءَةِ في النفسِ والمجتمع: عدمُ تقديسِ المبادئِ والقيَم. نعم؛ النفوسُ والمجتمعاتُ التي تنطلِقُ في تفكيرِها وتدبيرِها وإنجازِها وإنتاجِها من الإيمانِ بالمبادئِ والقِيَمِ الرّاسِخة المُقدّسة تُعطِي وتُنجِزُ أكثَر من تِلكَ التي لا مبادئ لها، أو تلك التي مبادِئها وقِيمُها ضعيفةٌ مُهَلهَلة، وهذه سُنّةٌ ثابتَةٌ من سُنَنِ الحياة لا تبحَث لها عن بديلٍ أبدًا.
أقولُ: كيفَ وإسلامُنا يطلبُ منَّا أن نكونَ على أعلى درجاتِ الجودَةِ والإتقانِ واحترامِ المقاييس لوجه اللهِ لا ننتظِرُ شُكرَ أحد.. أيُّ قيمَةٍ هي أعلى من هذه القيمَةِ وأجْوَد؟!
ربّنا -سبحانه- الذي نعبُدُهُ أتقنَ كلّ شيءٍ في هذا الوجود وسوّاهُ وجعله على أتمّ مواصفاتِ الجودَة، واقرأ قوله -تعالى-: (صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ)[النمل: 88]، وقال -تعالى-: (مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ)[الملك: 3]. فسبحانَ من خلقَ كلَّ شيءٍ فقدّرَهُ تقديرًا!
فلماذَا يُرَى التفاوُتُ والضّعفُ والنّقصُ والخللُ في أداءِ وإنتاجِ المؤمنين حتى في شوارعهم وأحيائهم؟! لماذَا يُرى القصُور والإهمال والتسيّب والغش والخديعة في أداء وإنتاجِ المسلمين في إداراتهم وأسواقهم وأعمالهم؟!. إنّهُ انعدامُ التربية على القِيَم الخُلُقيّة وضعفُها إلى المستوى الذي لا تتمكّنُ فيه من تحريكِ الحياة.. نسأل الله العافية..
فالعودَةَ العودَةَ -معشر المؤمنين- لتربيةِ الأجيالِ الزّاحِفَة على احترامِ وتفعيلِ القِيَم الحياتيّةِ الإيجابيّة عسَى أن نتدارَكَ الفجوَةَ الحاصلةَ اليوم.
أيها الإخوة في الله: ومن أشدّ الأسبابِ تكريسًا لظاهرةِ الرّدَاءَةِ في النفسِ والمجتمع: انعِدامُ ثقافَةِ الاحتساب في الأداء: والاحتسابُ معناه اعتقادُ أنّ عملكَ وإنجازَكَ له مردودٌ محفوظٌ لا يضيع، هذا الأمَلُ وهذا الرّجاءُ يحملُ على عِشْقِ الجَودَة والإتقانِ في كلّ شيء.
كيفَ لا يكونُ المُسلمُ -فردًا أو جماعَةً أو مؤسّسَة- محتَسِبًا للمردُودِ واثِقًا فيه ودينُهُ الذي يؤمِنُ به علّمَهُ أنّ الخيرَ والعمل الصالحَ والعطاءَ الإيجابِي لا يضيعُ عند الله أبدًا، لا في الدّنيا ولا في الآخرة.
في صحيح البخاري عن أنس -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ما من مسلم يغرس غرساً أو يزرع زرعاً، فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة إلا كان له به صدقة". بل عمّمَ -سبحانه- وأطلقَ على جميع أنواع الخير والمعروف فقال -سبحانه-: (وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا)[المزمل: 20].
نسأل الله السلامة والعافية، أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب إنه غفور رحيم.
الخطبة الثانية:
أيها الإخوةُ في الله: ومن أشدّ الأسبابِ تكريسًا لظاهرةِ الرّداءَةِ في النفسِ والمجتمع: الأوضاعُ المحيطَةُ المتردّية: البيئَةُ المُحيطَةُ -ولو كانت مصلحةً من المصالح أو حيًّا من الأحياء السّكنيّة- حينمَا تكونُ مترَدّيَةً قاتِمَة، تنعَدِمُ بسببها الرؤيَة، وتستَحكِمُ الظُّلُماتُ في النفوسِ والعُقولِ والأوضَاع، وتحمِلُ النفوسَ الحيّةَ على الإحساسِ بالفشَلِ وفقدانِ الأمَل في التغيير، وقد رصَدَ هذه السُّنّةَ الاجتماعيّة العلاّمَةُ عبدُ الرحمنِ ابنُ خلدونٍ في المُقدّمة.. نسألُ اللهَ السلامَةَ والعافية.
ولكن -معشر المؤمنين- أمامَ هذا السبَبِ؛ حرّمَ اللهُ -تعالى- على المؤمنين اليأسَ والاستسلام للوضع القاتِمِ مهما كان، حرّمَ علينَا التوقّفَ عن العطاء الإيجابي مهما حصل، حرّم علينا اعتقاد فسادِ الحياة والناس وانتهاءَهُما لأنّها سلبيّة قاتمةٌ لا يكون عليها المؤمنُ أبدًا، قال -صلى الله عليه وسلم-: "من قال هلكَ النّاسُ فهوَ أهلكُهُم"(رواه مسلم).
ثم هل هناكَ وضعٌ أشدُّ من قيام الساعة ومع ذلكَ قال -صلى الله عليه وسلم-: "إن قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فإن استطاع أن لا تقوم حتى يغرسها فليغرسها"، كيف والحياةُ لا تزالُ بخيرٍ وفصولها ممتدّة وشمعَةٌ واحِدةٌ صغيرَةٌ تُضيءُ غُرفةً واسعةً كبيرَة؟
أقولُ هذا الكلامَ لكلّ الشّرفاء من المؤمنين: في الأسرة والتعليم والإدارة والصحّةِ والإعلام والاقتصاد والقضاء والأمن والدّفاع: لا يجوزُ للشّرفاءِ أن يستسلِمُوا للوضعِ العامّ المتردّي فإنّ المؤمنَ إيجابِي لا ينقطِعُ عن الخيرِ أبدًا.. الواجِبُ علينا المصابَرَةُ والاستمرارُ في العطاءِ الاستراتيجي بكلّ إيجابيّةٍ وبِنائِيّة.. وسوفَ يغيّرُ اللهُ من حالٍ إلى حال.. سُنّةَ اللهِ في العقول والنفوسِ والأوضَاع لا تبحَث لها عن بديلٍ أبدًا..
اللهم حبِّب إلينا الإيمان وزيِّنه في قلوبنا، وكرِّه إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين.
وصلى الله وسلم وبارك على محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
التعليقات