عناصر الخطبة
1/أثر مواعظ القرآن على القلوب 2/بيان لأركان الفلاح من سورة آل عمران 3/بيان معنى الفلاح.اقتباس
ثُمَّ يَأْتِي الطَّرِيقُ الثَّانِي الْمُوصِلُ إِلَى فَلاَحِ الْعَبْدِ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَهُوَ: لُزُومُ الْمُصَابَرَةِ؛ كَمَا قَالَ -تَعَالَى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا)؛ وَالْمُصَابَرَةُ هِيَ: مُلاَزَمَةُ الصَّبْرِ وَالاِسْتِمْرَارِ عَلَيْهِ فِي جَمِيعِ الأَوْقَاتِ وَالأَحْوَالِ وَالأَعْمَالِ...
الخطبة الأولى:
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيِكَ لهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُـحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ)[آل عمران: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء: 1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب: 70 – 71 ].
أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيِثِ كِتَابُ اللهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَشَرَّ الأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلالَةٌ، وَكُلَّ ضَلاَلَةٍ فِي النَّارِ.
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: مِنْ أَجَلِّ النِّعَمِ وَأَكْرَمِهَا وَأَنْفَسِهَا بَعْدَ نِعْمَةِ الإِسْلاَمِ نِعْمَةُ هَذَا الْكِتَابِ الَّذِي بَيْنَ أَيْدِينَا، وَالَّذِي قَالَ اللهُ عَنْهُ: (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا)[الإسراء: 9].
كِتَابُ اللهِ -تَعَالَى- أَعْظَمُ وَاعِظٍ، وَأَقْوَى مَنْ يَقْرَعُ الْقُلُوبَ، وَأَبْلَغُ مَنْ يُؤَثِّرُ فِيهَا، لاَ سِيَّمَا وَنَحْنُ فِي هَذَا الزَّمَانِ الَّذِي كَثُرَتْ فِيهِ الْحِكَمُ وَالأَمْثَالُ، وَالْوَصَايَا وَالنَّصَائِحُ الَّتِي لاَ يُعْرَفُ صِحَّتُهَا، وَلاَ مُنَاسَبَتُهَا، فَضْلاً عَنِ الْمُرَادِ مِنْهَا.
وَمِنْ مَوَاعِظِ الْقُرْآنِ الْكَثِيرَةِ: آيَةٌ فِي آخِرِ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ، يَقُولُ اللهُ فِيهَا: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)[آل عمران: 200]؛ فَاللهُ -تَعَالَى- يُنَادِي الْمُؤْمِنِينَ بِاسْمِ الإِيمَانِ، وَقَدْ قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: "إِذَا سَمِعْتَ اللهَ يَقُولُ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) فَأَرْعِهَا سَمْعَكَ؛ فَإِمَّا خَيْرٌ تُؤْمَرُ بِهِ، وَإِمَّا شَرٌّ تُنْهَى عَنْهُ".
فَاللهُ -تَعَالَى- يُنَادِي عِبَادَهُ بِاسْمِ الإِيمَانِ، وَيُبَيِّنُ لَهُمُ الطُّرُقَ الْمُوصِلَةَ إِلَى الْفَلاَحِ، وَالْفَوْزِ وَالسَّعَادَةِ وَالنَّجَاحِ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَهِيَ طُرُقٌ أَرْبَعَةٌ؛ كَمَا جَاءَتْ فِي الآيَةِ الْكَرِيمَةِ.
فَأَوَّلُ هَذِهِ الطُّرُقِ: لُزُومُ الصَّبْرِ؛ كَمَا قَالَ -تَعَالَى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا), قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: "أُمِرُوا أَنْ يَصْبِرُوا عَلَى دِينِهِمُ الَّذِي ارْتَضَاهُ اللهُ لَهُمْ، وَهُوَ الإِسْلاَمُ، فَلاَ يَدْعُوهُ لِسَرَّاءَ وَلاَ لِضَرَّاءَ, وَلاَ لِشِدَّةٍ وَلاَ لِرَخَاءٍ؛ حَتَّى يَمُوتُوا مُسْلِمِينَ".
وَالصَّبْرُ هُوَ: حَبْسُ النَّفْسِ عَنْ مَحَارِمِ اللهِ، وَحَبْسُهَا عَلَى فَرَائِضِهِ، وَحَبْسُهَا عَنِ التَّسَخُّطِ وَالشِّكَايَةِ لأَقْدَارِهِ, قَالَ -تَعَالَى-: (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ)[الزمر:10], وَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "وَمَا أُعْطِيَ أَحَدٌ عَطَاءً خَيْرًا وَأَوْسَعَ مِنَ الصَّبْرِ"(رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ).
ثُمَّ يَأْتِي الطَّرِيقُ الثَّانِي الْمُوصِلُ إِلَى فَلاَحِ الْعَبْدِ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَهُوَ: لُزُومُ الْمُصَابَرَةِ؛ كَمَا قَالَ -تَعَالَى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا)؛ وَالْمُصَابَرَةُ هِيَ: مُلاَزَمَةُ الصَّبْرِ وَالاِسْتِمْرَارِ عَلَيْهِ فِي جَمِيعِ الأَوْقَاتِ وَالأَحْوَالِ وَالأَعْمَالِ.
ثُمَّ يَأْتِي الطَّرِيقُ الثَّالِثُ وَهُوَ: لُزُومُ الْمُرَابَطَةِ؛ أَيْ: رَبْطُ الْقَلْبِ وَالْجَوَارِحِ عَلَى مُلاَزَمَةِ طَاعَةِ اللهِ -تَعَالَى-، وَالْمُدَاوَمَةِ عَلَيْهَا، وَالثَّبَاتِ فِيهَا, قَالَ -تَعَالَى-: (الَّذِينَ هُمْ عَلَىٰ صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ)[المعارج: 23].
تَقُولُ عَائِشَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا -كَمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ-: "كَانَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِذَا عَمِلَ عَمَلاً أَثْبَتَهُ"؛ أَيْ: أَتْقَنَهُ وَأَحْكَمَ عَمَلَهُ فِيهِ، وَدَاوَمَ عَلَيْهِ, وَتَقُولُ عَائِشَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-: سُئِلَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: أَيُّ الأَعْمَالِ أَحَبُّ إِلَى اللهِ؟ قَالَ: "أَدْوَمُهَا وَإِنْ قَلَّ"(رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ).
ثُمَّ ذِكْرُ اللهِ -تَعَالَى- جِمَاعُ الْخَيْرَاتِ، وَحُصُولُ الرَّحَمَاتِ، وَحُصُونُ الْبَرَكَاتِ تَقْوَى اللهِ -تَعَالَى-، وَهُوَ الطَّرِيقُ الرَّابِعُ الْمُوصِلُ لِلْفَلاَحِ؛ كَمَا قَالَ -تَعَالَى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ).
فَاللَّهُ يُحِبُّ أَهْلَ التَّقْوَى؛ كَمَا قَالَ -تَعَالَى-: (بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ)[آل عمران: 76]، وَهِيَ مِنْ أَعْظَمِ أَسْبَابِ الْعَوْنِ وَالنُّصْرَةِ وَالتَّأْيِيدِ لِلْعَبْدِ مِنْ رَبِّهِ؛ كَمَا قَالَ -تَعَالَى-: (إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ)[النحل: 128].
وَتَقْوَى اللَّهِ -تَعَالَى- هِيَ دَعْوَةُ الأَنْبِيَاءِ، وَشِعَارُ الأَوْلِيَاءِ، وَمَنْهَجُ الأَصْفِيَاءِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "اتَّقِ اللَّهَ حَيْثُمَا كُنْتَ، وَأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا، وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ"(رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَحَسَّنَهُ ابْنُ حَجَرٍ وَالأَلْبَانِيُّ).
اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا لِدَرْبِ الْمُفْلِحِينَ, وَاجْعَلْنَا مِنَ الْفَائِزِينَ بِجَنَّاتِكَ جَنَّاتِ النَّعِيمِ يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ, أَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ فَاسْتَغْفِرُوهُ؛ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:
الْحَمْدُ للهِ عَلَى إِحْسَانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوْفِيقِهِ وَامْتِنَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ؛ تَعْظِيمًا لِشَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الدَّاعِي إِلَى رِضْوَانِهِ, صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.
أَمَّا بَعْدُ:
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: اتَّقُوْا اللهَ -تَعَالَى-، وَاعْلَمُوا أَنَّ مِنْ أَسْبَابِ الْفَلاَحِ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ: تَحْقِيقَ هَذِهِ الأُمُورِ الأَرْبَعَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا اللهُ بِقَوْلِهِ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)[آل عمران: 200].
وَالْفَلاَحُ فِي أَدَقِّ عِبَارَةٍ وَأَرَقِّ إِشَارَةٍ هُوَ سَكِينَةُ النَّفْسِ، وَاطْمِئْنَانُ الْقَلْبِ، وَرَاحَةُ الْبَالِ، وَرِضًا بِالْحَالِ، وَشُعُورٌ بِسَعَةِ الصَّدْرِ وَانْشِرَاحِهِ، وَالْفَوْزُ بِرِضَا اللهِ وَالْجَنَّةِ, قَالَ -تَعَالَى-: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)[النحل: 97].
هَذَا، وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُم؛ كَمَا أَمَرَكُمْ بِذلِكَ رَبُّكُمْ فَقَالَ: (إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[ الأحزاب: 56 ]، وَقَالَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلاةً وَاحِدَةً؛ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا"(رَوَاهُ مُسْلِم).
التعليقات