عناصر الخطبة
1/ ودنت ساعة الفراق 2/الصالحون وفراق رمضان 3/نداء للمخبتين العابدين 4/باب التوبة مفتوح للمسيئين 5/سعة رحمة الله وعفوه 6/كيف نختم رمضان؟اهداف الخطبة
اقتباس
يا من وفى رمضان على أحسن حال، لا تتغير بعده في شوال، يا من رأى العيد ووصل إليه، متى تشكر المنعم وتثني عليه، كم من صحيح هيأ طيب عيده، صار ذاك الطيب في تلحيده، سلبتهم والله أيدي المنون، فأنزلتهم قفرا ليس يمسكون، فهم في القبور بعد البيان خرسون...
الخطبة الأولى:
الحمد لله اللطيفِ الرؤوفِ العظيمِ المنان، الكبيرِ القَديرِ القَديمِ الديان، الغنيِ العليِ القويِ السلطان، الحليمِ الكريمِ الرحيمِ الرحمن، الأولِ فالسبقُ لسبقه، المنعمِ فما قام مخلوقٌ بحقه، جَلَ عن شريكٍ وولدٍ، وعز عن الاحتياجِ إلى أحدٍ، وتقدسَ عن نظيرٍ وانفرد، وعَلِمَ ما يكونُ وأوجدَ ما كان. أنشأ المخلوقاتِ بحكمَتِه وصنعها، وفرق الأشياء بقدرته وجمعها، أحمده على ما خصنا به فيه من الصيام والقيام، وأشكره على بلوغِ الآمالِ وسُبوغِ الإنعامِ، وأشهد أنه الذي لا تُحيطُ به العقولُ والأذهانُ، وأشهد أن محمدا أفضل خلقه وبريته، المقدم على الأنبياء ببقاء معجزته, صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه وسلم ما تعاقب القمران.
أما بعد: فأُوصيكم -أيها الصائمون- ونفسي بتقوى الله -عز وجل- فهي خلفكم في شهركم, وسكينتكم في خوفكم, ومسليتكم في وجدكم, (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران: 102].
أيها الصائمون: أيامُ الخيرٍ انقضتْ، ولحظاتُ الفراقِ والبيَنِ حلتْ، فإياك والدموعَ فقد طرقك طارق الفراق, وأحرَقكَ النصحُ الشاقُ, بأن الشهر حل وهو عن قريب ذاهبٌ, فما اجتهدت و قُدِم عملٌ واقبٌ, ذّكِرتْ بساعة البين فما وجدنا بينك وبين الشهر إصلاحا لذات البين, نُصحتْ فلم تستبين النصح إلا ضحى الغد.
سويعاتُ الرياحين أعلنت الفراق وانقطاعُ العِلاق, رمضانُ حلَ وأعلنَ البينَ، رمضان يَعرضُ علينا لحظات الْوَدَاع والفراق ومعه عبراتٌ تبْعَث الأسى وأنفاسٌ حارة, ودموعٌ داميةٌ, وَخَوفٌ أَلا يكون لِقَاءٌ حَيْثُ يفتضح المحب فِي يَوْم الرحيل, رمضان يقول عفوا إِن كنت أطلت وَأَرْجُو أَلا أكون قد أثقلت, رمضان رويدك, رمضان قف تمهل, رمضان لا يذوق طعم ألم الفراق ولا يُذِيِقُهُ المفرِطُون، وإنما يغتمسون في ليل، ويطفون في نهار، فيوشك شاهد الدنيا أن يغيب، وغائب الآخرة أن يشهد.
أيها المخبتون: طارق الفراق يقول كيف لا تجرى للمؤمن على فراق رمضان دموع, وهو لا يدري هل بقي له في عمره إليه رجوع؟.
طارق الفراق يقول: رمضان وما رمضان أين حرقُ المجتهدين في نهاره؟ أين قلقٌ المجتهدين في أسحاره؟ أين خلوفُ الصائمين في نهاره؟ أين بكاء القائمين في عشائه؟.
طارق الفراق يقول: الصالحون يجزعون لفارق شهر القيام والصيام, ويفرقون من الفراق فإذا كان هذا جزع من ربح فيه, فكيف حال من خسر في أيامه ولياليه ماذا ينفع المفرط فيه بكاؤه وقد عظمت فيه مصيبته وجل عزاؤه ,كم نصح المسكين فما قبل النصح؟ كم دعي إلى المصالحة, فما أجاب إلى الصلح؟ كم شاهد الواصلين فيه وهو متباعد؟ كم مرت به زمر السائرين وهو قاعد؟ حتى إذا ضاق به الوقت وخاف المقت؛ ندم على التفريط حين لا ينفع الندم, وطلب الاستدراك في وقت العدم.
طارق الفراق يقول: يا شهر رمضان ترفق, دموع المحبين تدفق, قلوبهم من ألم الفراق تشقق, عسى وقفة للوداع تطفئ من نار الشوق ما أحرق, عسى ساعة توبة وإقلاع ترفو من الصيام كلما تخرق, عسى منقطع عن ركب المقبولين يلحق, عسى أسير الأوزار يطلق, عسى من استوجب النار يعتق.
أيها القائمون: ليالي الوصال والوئام انقضت وانقطع القيام, فمن قام والخلق نيام, فقد سَعُد بأغلى ليلة في العام، ومن خسر والغنائم عِظام, فمن يريد وصلاً بلا عمل فهو في ظلام, ومن حُرم فليعلم أن ربه لايضام, روي عن علي -رضي الله عنه- أنه كان ينادي في آخر ليلة من شهر رمضان: "يا ليت شعري من هذا المقبول فنهنيه, ومن هذا المحروم فنعزيه". وعن ابن مسعود أنه كان يقول: "من هذا المقبول منا فنهنيه, ومن هذا المحروم منا فنعزيه, أيها المقبول: هنيئا لك أيها المردود جبر الله مصيبتك".
يا من أعتقه مولاه من النار, إياك أن تعود بعد أن صرت حرا إلى رق الأوزار, أيبعدك مولاك من النار وتتقرب منها, وينقذك منها وأنت توقع نفسك فيها ولا تحيد عنها.
إن كانت الرحمة للمحسنين فالمسيء لا ييأس منها, وإن تكن المغفرة مكتوبة للمتقين فالظالم لنفسه غير محجوب عنها غيره.
إن كان لا يرجوك إلا محسن *** فبمن يلوذ ويستجير المجرم
طارق الفراق يقول: لمَ لا يُرجى العفو من ربنا وكيف لا يطمع في حلمه؟ وفي الصحيح: أنه بعبده أرحم من أمه: (قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) [الزمر: 53].
فيا أيها العاصي -وكلنا ذلك-: لا تقنط من رحمة الله بسوء أعمالك فكم يعتق من النار في هذه الأيام من أمثالك, فأحسن الظن بمولاك وتب إليه فإنه لا يهلك على الله هالك.
لقد ذهبت أيامه وما أطعتم, وكتبت عليكم فيه آثامه وما أضعتم, وكأنكم بالمشمرين فيه وقد وصلوا وانقطعتم, أترى ما هذا التوبيخ لكم أو ما سمعتم.
قال الحسن: "أكثروا من الاستغفار؛ فإنكم لا تدرُون متى تنزلُ الرَّحمةُ". والاستغفارُ: ختامُ الأعمال الصالحة كلِّها، فتختم به الصلاة والحج وقيامُ الليل، وتختم به المجالسُ.
طارق الفراق يقول: يا أخي, يا أخي! وما عسى أن أقول لك من كرم مولاك الجليل جل جلاله, لو أن الذنوب التي عملت في أيام طغيانك وعصيانك كانت مثل جبال الدنيا برمالها وبحارها وأنهارها وتبت توبة واحدة بصدق وحرقة وندامة؛ ليغفرها لك مولاك الكريم بكرمه وفضله ولا تسأل عنها يوم القيامة.
قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، -رضي الله عنهما- في قوله: (قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) [الزمر: 53] قال: "قد دعا الله إلى مغفرته من زعم أن المسيح هو الله، ومن زعم أن المسيح هو ابن الله، ومن زعم أن عزيرا ابن الله، ومن زعم أن الله فقير، ومن زعم أن يد الله مغلولة، ومن زعم أن الله ثالث ثلاثة، يقول الله تعالى لهؤلاء: (أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [المائدة: 74] ثم دعا إلى توبته من هو أعظم قولا من هؤلاء، من قال: (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى) [النازعات: 24], وقال (مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي) [القصص: 38]. قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "من آيس عباد الله من التوبة بعد هذا فقد جحد كتاب الله، ولكن لا يقدر العبد أن يتوب حتى يتوب الله عليه".
وأنت أنت دعاك علاّم الغيوب؛ لتتوبَ وتؤوبَ في لحظات الفراق والبين, لشهرٍ اكتحلت فيه العين, وحُطَ فيه الدين, ورُفع إلى الله منك الزين, فهل تعود وتقطع الهجر وتصلح ذات البين؟, أنت دعاك للتوبة فارفع اليدين وادعُ بملء الكفين واترك الشين, وابك على ذنوب مضين, وكن باكيا على مر القمرين. قال عمر بن الخطاب: "جالسوا التوابين فإنهم أرق شيء أفئدة".
وقال عمر بن عبد العزيز: قولوا كما قال أبوكم آدم -عليه السلام-: (قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ) [الأعراف: 23], و (وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ) [هود: 47]. و (رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي) [القصص: 16] وقولوا كما قال ذو النون: (لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) [الأنبياء: 87].
أقول ما سمعتم واستغفر الله ...
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين ..
طارق الفراق يقول: رمضان القوم دائم, وشوَّالهم كذلك صائم، وأعيادهم سرور القوم بالمحبوب، وأفراحهم بكمال التقى وترك الذنوب، إذا جن عليهم الليل عادت القلوب بالمناجاة جددا، وإذا جاء النهار سلكوا من الجد جددا، يجمعون هممهم فيما.
طارق الفراق يقول: لما كانت المغفرة والعتق كل منهما مرتب، على صيام رمضان وقيامه؛ أمر الله -سبحانه- عند إكمال العدة بتكبيره وشكره، فقال: (وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [البقرة: 185] فشكر من أنعم على عبده بتوفيقهم للصيام والقيام، وإعانتهم عليه، ومغفرته لهم وعتقهم من النار أن يذكروه ويشكروه، ويتقوه حق تقاته.
وكتب عمر بن عبد العزيز إلى الأمصار يأمرهم بختم رمضان بالاستغفار والصدقة -صدقة الفطر- فإن صدقة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث، والاستغفار يرقع ما تخرق من الصيام باللغو والرفث, فأخرجوا زكاة فطركم كما أمركم نبيكم صاعا من قوتكم قبل صلاة عيدكم.
طارق الفراق يقول: في آخر الشهر يعتق من النار من أوبقته الأوزار, واستوجب النار بالذنوب الكبار, فجدوا في آخر ليلة, وتمسكوا بالقيام والقنوت, فكم من محروم خسر ليالي رمضان, وتحسر على آخر ليلة فهي زبدة العام. في حديث ابن عباس المرفوع: "لله في كل ليلة من شهر رمضان عند الإفطار ألف ألف عتيق من النار كلهم قد استوجبوا النار فإذا كان آخر ليلة من شهر رمضان أعتق الله في ذلك اليوم بعدد ما أعتق من أول الشهر إلى آخره".
طارق الفراق يقول: يا من وفى رمضان على أحسن حال، لا تتغير بعده في شوال، يا من رأى العيد ووصل إليه، متى تشكر المنعم وتثني عليه، كم من صحيح هيأ طيب عيده، صار ذاك الطيب في تلحيده، سلبتهم والله أيدي المنون، فأنزلتهم قفرا ليس يمسكون، فهم في القبور بعد البيان خرسون، ومن نيل آمالهم أو بعضها آيسون، وهكذا أنتم عن قريب تكونون، وقد دلهم على صدق قولي ما تعملون، أما ترون الأتراب كيف يتقلبون، أترى ضلت الأفهام أم عميت العيون، (أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لَا تُبْصِرُونَ) [الطور: 15]. وإلى متى ترضون من العمل بالفاسد ومن السلع بالكاسد.
التعليقات