عناصر الخطبة
1/ عظم الأمانة وذم الخيانة 2/ صور مشرقة لأمانة نبينا الكريم وأصحابه والسلف الصالح 3/ الأمانة وحفظ المال العاماهداف الخطبة
اقتباس
انظروا إلى النزاهةِ والأمانة الْعُمريَّة، الذي تُجبى إليه كنوز كسرى وقيصر، وتُنفَقُ على جميع المسلمين, وهو لم يأخذ درهماً واحداً لحجِّه وعمرته وأعماله الخاصة به، إنما يأخذ ما حُدِّد له من مُرتَّبٍ من الدولة، فإذا بقي طعامٌ زائدٌ عن حاجته ردَّه إلى بيت مال الْمسلمين؛ فأيُّ أمانةٍ وعدالةٍ هذه يا أمَّة الإسلام؟!
الخطبة الأولى:
الحمدُ للهِ الذي عظّمَ شأنَ الإخلاصِ والأمانةِ، وشنّعَ أمرَ النفاقِ والخيانةِ، وأشهدُ أنْ لا إله إلا اللهُ وحدَه لا شريك لهُ، أَمَرَ بكلِّ ما فيه السعادةُ والسلامة.
وأشهد أنّ محمدًا عبدُهُ ورسولُهُ؛ بلَّغَ الرسالةَ، وأدّى الأمانةَ، ونصحَ الأُمّةَ، وجاهد في الله حقّ جهاده، فصلواتُ اللهِ وسلامُهُ عليه، وعلى آله وصحبِهِ، والتابعينَ لهم بإحسانٍ إلى يومِ القيامة.
أما بعد: فاتقوا الله -أيها المسلمون-، واعلموا أنَّ مِن أجلّ مكارمِ الأخلاقِ، وأعظمِ الشِّيَمِ التي دعا إليها دينُ الإسلام - حِفْظَ الأمانةِ، وأداءَها إلى أصحابِها، قال الله -تبارك وتعالى-: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا) [النساء:58].
وأخبرنا نبيُّنا الأمينُ -عليه أفضلُ الصلاةِ وأتمُّ التسليمِ- أنَّ خيانةَ الأمانةِ إنما هيَ مِنْ صفاتِ المنافقينَ؛ فقال -صلى الله عليه وسلم-: "آيةُ المنافقِ ثلاثٌ: إذا حَدَّثَ كذَب، وإذا وَعَدَ أَخلَف، وإذا اؤْتُمِنَ خان" رواه البخاري ومسلم.
وتعالوا بنا - يا عباد الله- لِنتعلَّم الأمانة من أصحابها، ولْنَتَعرَّفْ على حقيقتها من أهلها.
فهذا رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-، تَضَوَّرَ ذَاتَ لَيْلَةٍ -أي تلوَّى وتقلَّب في فراشه من الهمّ والحزن-، فَقِيلَ لَهُ: مَا أَسْهَرَكَ؟ قَالَ: "إِنِّي وَجَدْتُ تَحْتَ جَنْبِي تَمْرَةً، فَأَكَلْتُهَا، وَكَانَ عِنْدَنَا تَمْرٌ مِنْ تَمْرِ الصَّدَقَةِ، فَخَشِيتُ أَنْ تَكُونَ مِنْهُ" رواه الإمام أحمد، والحاكم والذهبي وصححاه.
إنها تمرةٌ واحدةٌ، تُسهر أعظم رجلٍ في العالم، وأزهد وأتقى مَن وطِئَتْ قدمُه الأرض، ويتألَّم ويتقلَّب في فراشه؛ خوفاً ألا تكون حلالاً عليه؛ فكيف لا يتألم ويسهر مَن أكلَ أموال المشاريعِ التي ائْتمنه عليها وليُّ الأمر؟! كيف بِمَنْ سرق الملايين، التي هي مِلكٌ للمواطنين؟! كيف لا يتألم ويسهر مَن عمل المشاريع الوهمية أو الضعيفة، التي ما إنْ داهمتها السيولُ والأمطار حتى جعلتها هباءً منثوراً، فمات وجُرح الكثير من الناس بسببها، وتضرروا في معيشتهم، وتنكدوا في طرقاتهم وسيرهم؟!
وهذا الصدِّيقُ -رضي الله عنه-، روى عنه ابنُ سعدٍ وابنُ الْمُنْذِرِ، بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ -كما قال ابن حجرٍ رحمه الله-، أنَّه عندما ولي الخلافة -وكان يشتغل بالتجارة قبل ذلك- قال: "لا والله! ما يُصلح أمرَ الناس التجارة، وما يَصلح لهم إلا التفرغ، والنظر في شأنهم".
فهو يُؤسِّس مبدأً ومنهجاً لمن ولي أمرَ المسلمين: أنَّ الإمارة والتجارة لا يجتمعان في أحد، إلا أفسدتْ إحداهُما الأخرى.
ثم قال -رضي الله عنه-: "وما بُدٌّ لعيالي ممّا يُصلحهم"، فترك التجارة، واسْتنفق من مال المسلمين ما يصلحه، ويصلح عياله يوماً بيوم، ويحج ويعتمر.
ثم بدأت الْمُشاورات بينه وبين رعيَّته حول الْمُرتَّب الذي يستحقُّه هو وعيالُه، ففرضوا له كلَّ سنةٍ ستةَ آلاف درهم.
خليفةُ الْمُسلمين، لا يتجاوزُ مُرتَّبه ستةُ آلاف درهمٍ في السنة كلِّها؛ فهل وصل الشرقُ والغرب، لمثل هذه الحضارة العظيمة، والسياسةِ العجيبة؟!
فأنفقَ -رضي الله عنه- في مُدَّةِ خلافته ثمانية آلاف درهم، فلما حضره الموت قال: إذا أنا متُّ، فخذوا من مالي ثمانية آلاف درهم، وردوها في بيت المال، فلما مات -رضي الله عنه، جاء الرسولُ إلى عمر بهذه الأموال، فبكى عمر وقال: "رحم الله أبا بكر! لقد أتعبَ مَن بعده".
وهذا عمرُ الفاروقُ -رضي الله عنه- حين وفاته، يُنادي ابنَه عَبْدَ اللَّهِ ويقول له: "يَا عَبْدَ الله بنَ عُمَرَ، انْظُرْ مَا عَلَيَّ مِنَ الدَّيْنِ"، فَحَسَبُوهُ فوَجَدُوهُ سِتَّةً وثَمَانِينَ ألْفاً أوْ نَحْوَهُ، قَالَ: فأدِّ عَنِّي هَذَا المال.
انظروا إلى النزاهةِ والأمانة الْعُمريَّة، الذي تُجبى إليه كنوز كسرى وقيصر، وتُنفَقُ على جميع المسلمين، وهو لم يأخذ درهماً واحداً لحجِّه وعمرته وأعماله الخاصة به، إنما يأخذ ما حُدِّد له من مُرتَّبٍ من الدولة، فإذا بقي طعامٌ زائدٌ عن حاجته ردَّه إلى بيت مال الْمسلمين؛ فأيُّ أمانةٍ وعدالةٍ هذه يا أمَّة الإسلام؟.
ومن أمانته وحرصه على بيت مال المسلمين: أنه وضع على بيت المال رجلاً أميناً، يُقال له معيقيب، فكنس بيت المال يوماً فوجد فيه درهماً، فدفعه إلى ابنٍ لعمر، قال معيقيب: فانصرفت إلى بيتي، فإذا رسولُ عمر قد جاءني يدعوني، فجئت، فإذا الدرهم في يده، فقال لي: "ويحك يا معيقيب! أردتَ أنْ تخاصمني أمةُ محمد -صلى الله عليه وسلم- في هذا الدرهم".
جوعُ الخليفةِ والدُّنيا بِقَبْضَتِهِ *** في الزُّهْدِ مَنْزِلَةٌ سُبحان مُوليها!
لَمَّا اشْتَهتْ زوجُهُ الحلْوَى فقال لها *** مِن أين لي ثمنُ الحلوى فأشريها؟
حسبي وحسبُ القوافي حين أرويها *** أَنِّي إلى ساحةِ الفاروق أهديها
ولَمَّا فَتح سعدُ بن أبي وقاصٍ المدائن، سَنَةَ سِتَّ عَشْرَةَ من الهجرة، وجُمِعَتِ الْغَنَائِمُ، فإذا هي أموالٌ عظيمةٌ تزيدُ على الثمانين مِلْيوناً، في غزوةٍ واحدةٍ فقط، وحاكمُ الْمُسلمين الْعادل، يموت وعليه دينٌ يُساوي ثَمَانِينَ ألْفاً!.
ولَمَّا حُمِلَ إلَيه بعضٌ من هذا الْمَالِ، وحُملتْ إليه الكنوزُ والْمُجوهرات، قَالَ -مُتعجِّباً-: "إِنَّ قَوْمًا أَدَّوْا هَذَا لَأُمَنَاءُ!"، فَقَالَ لَهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ -رضي الله عنه-: "إِنَّكَ عَفَفْتَ فَعَفَّتْ رَعِيَّتُكَ، وَلَوْ رَتَعْتَ لَرَتَعَتْ".
هذا تاريخُنا -يا أمة الإسلام-، هذه قِيَمُنا وحضارتنا، فقارنوها مع قِيَم الغرب والشرقِ كلِّها، فلن تَزِنَ بِجَانِبِهَا جَنَاَحَ بَعَوضَةٍ.
قال ابن العربي -رحمه الله-، في قوله -تعالى- عن سليمان -عليه السلام-: (وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِي لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنْ الْغَائِبِينَ) [النمل:20].
قال: "قَالَ عُلَمَاؤُنَا: هَذَا يَدُلُّ مِنْ سَلِيمَانِ عَلَى تَفَقُّدِهِ أَحْوَالَ الرَّعِيَّةِ، وَالْمُحَافَظَةِ عَلَيْهِمْ، فَانْظُرُوا إلَى الْهُدْهُدِ وَإِلَى صِغَرِهِ، فَإِنَّهُ لَمْ يَغِبْ عَنْهُ حَالُهُ؛ فَكَيْفَ بِعَظَائِمِ الْمُلْكِ؟ وَيَرْحَمُ اللَّهُ عُمَرَ! فَإِنَّهُ كَانَ عَلَى سِيرَتِهِ، فقد قَالَ -رضي الله عنه-: "لَوْ أَنَّ سَخْلَةً بِشَاطِئِ الْفُرَاتِ أَخَذَهَا الذِّئْبُ لَيُسْأَلُ عَنْهَا عُمَرُ"، فَمَا ظَنُّك بِوَالٍ تَذْهَبُ عَلَى يَدَيْهِ الْبُلْدَانُ، وَتَضِيعُ الرَّعِيَّةُ، وَتَضِيعُ الرُّعْيَانُ" اهـ.
وكان عمر بن عبد العزيز -رحمه الله-، يقسم تفاح اَلْفيء، فتناول ابنٌ له صغيرٌ تفاحة، فانتزعها مِن فِيه فأوجعه، فسعى إلى أمه مستعْبراً، فأرسلت إلى السوق فاشترت له تفاحاً، فلمَّا رجع عمرُ وجَدَ ريح التفاح فقال: يا فاطمة! هل أتيتِ شيئاً من هذا الفيْء؟ قالت: لا، وقصّت عليه القصة، فقال: والله لقد انتزعتها من ابني، وكأنَّما نزعتها عن قلبي، ولكن كرهتُ أنْ أُضيِّع نصيبي من الله -عز وجل-، بتفاحةٍ من فيء المسلمين.
ينتزع تفاحةً من فم ولده؛ لأنها لا تحل له؛ فكيف بمن يملأ بطون أبنائه من أموال الدولة، وأموال الناس التي أخذها بالحرام؟ كيف بمن ملأ بطنه وبطون أهله بأموال المشاريع التي هي حقٌّ لجميع الناس؟.
وكان -رحمه الله تعالى- لا يحمل على البريد إلا في حاجة المسلمين، وكتب إلى عاملٍ له يشتري له عسلاً، وأمره ألا يركب دابَّةً وُضعت لمصالحِ الْمُسلمين؛ لأنه سيشتري شيئاً خاصًّا له، فما كان منه إلا أن ركب دابَّةً من دوابِّ البريد، فلما أتى قال: على أيِّ دابَّةٍ ركب؟ فقالوا: على البريد، فأمر بذلك العسلِ فبيع، وجعلَ ثمنه في بيت مال المسلمين وقال: أفسدت علينا عسلنا!.
رحمك يا عمرَ بن عبدِ العزيز! بهذه الأمانة لأموال الأمة، اغتنى شعبُك حتَّى قلَّ الفقراء، فبدأتَ بتزويجِ العزَّاب، فعمّ الأمن والرخاء، وزال عن الناسٍ الفقرُ والبلاء.
وينبغي أنْ يتنبَّه إلى ما فعله عمرُ -رحمه الله- أولئك الذين يستخدمون سياراتِ الدولةِ وأدواتِها، في مصالحهمْ وحاجاتهمُ الشخصية، بل ويُسافرون بسيارات وتذاكر الدولة، في أمورٍ لا تتعلَّق بِمَصالح الْمُواطنين.
كان سلفُنا الصالحُ -رحمهم الله- أُمَنَاءَ حتى البيع والشراء، عَرَضَ محمدُ بنُ واسعٍ -رحمه الله- دابةً له للبيع، فقال له رجل: أترضاه لي؟ فقال له: لو رضيتُه لك لم أبِعْه.
وجاءت امرأةٌ بقطعةِ قُماشٍ إلى يونسَ بنِ عبيدٍ -رحمه الله-، فقالت له: أتشتريها؟ فقال: بكم؟ قالت: بخمسمائة، قال: هي أكثرُ من ذلك، قالت: بستمائة، قال: هي أكثرُ من ذلك، فلم يزل يقول: هي أكثرُ من ذلك حتى بلغت ألفاً، وقد بذلَتْها في البداية بخمسمائةٍ فقط.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا) [الأحزاب:72].
نسأل الله تعالى، أنْ يزرع في قلوبنا الأمانة، وأنْ يُجنِّبنا الغشَّ والخيانة، إنه سميعٌ قريبٌ مجيب.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي فرض علينا أداء الأمانة، وحرم علينا الغدر والخيانة، وأشهد أنْ لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فأين نحن -معاشر المسلمين- من هذه النماذجِ الْمُشرقة، والْمواقف العظيمة، في أداء الأمانة على أكمل وجهها؟!
فحريٌ بنا -يا أمة الإسلام- أنْ نُؤدِّيَ الأمانةَ التي عَجَزَتْ عنْ حَمْلِها السموات والأرض، ولْنُعطي للنَّاسِ حقوقهَم كاملةً بلا تفريط.
فالحاكم والمسؤول يفتحَ بابه لجميع المواطنين والناصحين، وأنْ يستمع لشكاواهم وملاحظاتِهم، ويستعملَ العدل والصدق مع الناس جميعاً، وألا يحابيَ في ذلك قريباً ولا صديقاً، ولا قوياً ولا شريفاً.
والموظفُ بأنْ يقوم بوظيفته على حسب المطلوب منه، وأن لا يفرط في عمله، أو يتأخرَ أو يتشاغلَ عنه بلا عذر، أو يُهملَ ويُقصِّر في حقِّ الْمُراجعين.
والْمُواطن بأنْ ينصح الْمسؤولين برفقٍ وأدب، وأنْ يرفع لهم ما يحتاجه الناس، وما يراه من منكراتٍ وأخطاء.
والبائع بأنْ يصدق في بيعه وتجارته، وأنْ يُخبر عمَّا يعلمُه من عيبٍ في سلعته.
والوالد والوالدة بأنْ يتقوا الله في أولادهم، وأنْ يُجنبوهم ما يُفسدهم في دينهم ودُنياهم.
فاتقوا الله -عباد الله-، وأدوا الْمسؤولية التي على أعناقكم، والأمانةَ التي ائْتُمِنْتُم عليها؛ فإنكم مسؤولون عنها يوم القيامة.
اللهم أعنا على تحمُّل الأمانة، وسهِّلْ علينا القيام بها؛ إنك جوادٌ كريمٌ.
التعليقات