عناصر الخطبة
1/ صفة الحشر من الكتاب والسنة 2/ كيف يحشر الله الناس 3/ أول من يبعث وتنشق عنه الأرض يوم الحشر 4/ قدرة الله في حشر الخلائق أجمعين 5/ كل شخص يبعث على الحالة التي مات عليها 6/ حال المؤمن وحال الكافر يوم الحشر 7/ أول من يُكسى يوم الحشر 8/ الأرض التي يحشر الله العباد عليها 9/ هول موقف الحشر 10/ كيف ننجو من هول الحشراقتباس
وكما أن قدرة الله محيطة بعباده تأتي بهم حيثما كانوا، فكذلك علمه محيط بهم، فلا ينسى منهم أحد، ولا يضلُّ منهم أحد، ولا يشذُّ منهم أحد، لقد أحصاهم خالقهم -تبارك وتعالى-، وعَدَّهم عدًّا، وسيأتي بهم يوم القيامة فردًا فردًا: (إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا) [مريم: 93-95]، (وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا) [ الكهف: 47].
الخطبة الأولى:
الحمد لله جامع الناس ليوم لا ريب فيه، إن الله على كل شيء قدير، (مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) [لقمان: 28]، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وهو اللطيف الخبير.
الحمد لله (جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ) [آل عمران: 9]، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة نرجو بها النجاة يوم التناد.
وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أفضل الرسل وخلاصة العباد، الذي دعا أمته إلى الإيمان بالحشر وهداها إلى سبيل الرشاد، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان في الأقوال والأفعال والاعتقاد، وسلم تسليمًا كثيرًا.
عباد الله: لقد حدثنا ربنا -تبارك وتعالى- عن الحشر، ذلك المشهد العجيب الغريب الذي يخلع القلوب، ويوجل الأفئدة، ويأسر الألباب، فيقول -سبحانه وتعالى-: (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُم مِّنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ * قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ * إِن كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ) [يس: 51-53]، ويصف الله الحشر في سورة طه بصفات مرعبة فيقول: (يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا) -أي عميًا- (يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْرًا * نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْمًا * وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا * فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا لا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلا أَمْتًا * يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِي لا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتْ الأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلا تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْسًا * يَوْمَئِذٍ لا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا * وَعَنَتْ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا * وَمَنْ يَعْمَلْ مِنْ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخَافُ ظُلْمًا وَلا هَضْمًا) [طه: 102-112].
ثم يفصّل لنا رسولنا -صلى الله عليه وسلم- صفة الحشر فيقول -كما في حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ثم ينفخ في الصور، فلا يسمعه أحد إلا أصغى ليتًا ورفع ليتًا"، واللّيتُ: صفحة العنق، قال: "وأول من يسمعه رجل يلوط حوض إبله، فيصعق، ويصعق الناس، ثم يرسل الله -أو قال: ينزل الله- مطرًا كأنه الطَّل أو الظِّلُّ، فتنبت منه أجساد الناس، ثم ينفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون". مسلم (2940).
ويقول -سبحانه وتعالى-: (وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ) [ق: 19 - 22].
وها هو رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يجسد لنا معاني هذه الآيات، فيقول كما في الحديث الذي رواه أحمد بسند حسن؛ يقول -صلى الله عليه وسلم-: "يُحشر الناس يوم القيامة ثلاثة أصناف، صنف مشاة، وصنف ركبان، وصنف على وجوههم". أحمد (8647 ).
وفى الصحيحين من حديث أنس قال رجل: يا نبي الله: كيف يحشر الكافر على وجهه؟! فقال المصطفى -صلى الله عليه وسلم-: "أليس الذي أمشاه في الدنيا على رجلين قادر على أن يمشيه على وجهه يوم القيامة؟!". قال قتادة: بلى وعزة ربنا. البخاري (4760).
ويقول -عليه الصلاة والسلام-: "يحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذَّر في صور الرجال، يغشاهم الذل من كل مكان". الترمذي (2494).
وهذه الحالة المخزية تناسب ما كانوا فيه في الدنيا من تعاظم وغرور بأنفسهم؛ لأنهم كانوا يتصورون أنفسهم أعظم وأجل المخلوقات، فجعلهم الله في يوم الحشر أحقر المخلوقات وأصغرها.
كما أخبر رسولنا -صلى الله عليه وسلم- أن في الإنسان عظمًا لا تأكله الأرض، منه خلق ومنه يعاد ويبعث، ذلك العظم هو "عجب الذنب"، وهو العظم الصلب المستدير الذي يكون في عجز الإنسان، يقول -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ فِي الإِنْسَانِ عَظْمًا لا تَأْكُلُهُ الأَرْضُ أَبَدًا، فِيهِ يُرَكَّبُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ"، قَالُوا: أَيُّ عَظْمٍ هُوَ يَا رَسُولَ اللهِ؟! قَالَ: "عَجْبُ الذَّنَبِ". مسلم (2955 ).
فكل شيء في ابن آدم يبلى ويأكله التراب إلا هذا العظم الذي منه يركب وينبت يوم القيامة؛ حيث ينزل الله من السماء ماءً فينبت الناس كما ينبت البقل، فتكون بداية الإعادة للإنسان وحشره من هذا العظم "عجب الذنب"، فتبارك الله (الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [الروم : 27].
وأول من يبعث وتنشق عنه الأرض يوم الحشر هو نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-؛ ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أنا سيد ولد آدم يوم القيامة، وأول من ينشق عنه القبر، وأول شافع وأول مشفع". مسلم (2278).
وفي حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: اسْتَبَّ رَجُلَانِ: رَجُلٌ مِنَ الْيَهُودِ وَرَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَقَالَ الْمُسْلِمُ: وَالَّذِي اصْطَفَى مُحَمَّدًا -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى الْعَالَمِينَ، وَقَالَ الْيَهُودِيُّ: وَالَّذِي اصْطَفَى مُوسَى -عَلَيْهِ السَّلامُ- عَلَى الْعَالَمِينَ، قَالَ: فَرَفَعَ الْمُسْلِمُ يَدَهُ عِنْدَ ذَلِكَ، فَلَطَمَ وَجْهَ الْيَهُودِيِّ، فَذَهَبَ الْيَهُودِيُّ إِلَى رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَأَخْبَرَهُ بِمَا كَانَ مِنْ أَمْرِهِ وَأَمْرِ الْمُسْلِمِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "لَا تُخَيِّرُونِي عَلَى مُوسَى، فَإِنَّ النَّاسَ يَصْعَقُونَ فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يُفِيقُ، فَإِذَا مُوسَى بَاطِشٌ بِجَانِبِ الْعَرْشِ، فَلا أَدْرِي أَكَانَ فِيمَنْ صَعِقَ فَأَفَاقَ قَبْلِي أَمْ كَانَ مِمَّنِ اسْتَثْنَى اللهُ". البخاري (3408)، ومسلم (2373).
وفي ذلك الموقف الرهيب يحشر الله الخلائق أجمعين، ولذلك سماه الله يوم الجمع؛ لأن الله يجمع فيه العباد جميعًا: (ذَلِكَ يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ) [هود: 103]، ويجتمع فيه الأولون والآخرون: (قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ * لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ) [الواقعة: 49-50].
فالله -سبحانه وتعالى- لا يعجزه شيء، وهو القادر على الإتيان بالخلائق أجمعين حيثما هلكوا، سواء هلكوا في أجواز الفضاء، أم غاروا في أعماق الأرض، أم أكلتهم الطيور الجارحة أو الحيوانات المفترسة، أو أسماك البحار، أم غيبوا في قبورهم في الأرض، كل ذلك عند الله سواء: (أَيْنَ مَا تَكُونُواْ يَأْتِ بِكُمُ اللهُ جَمِيعًا إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [البقرة: 148].
وكما أن قدرة الله محيطة بعباده تأتي بهم حيثما كانوا، فكذلك علمه محيط بهم، فلا ينسى منهم أحد، ولا يضلُّ منهم أحد، ولا يشذُّ منهم أحد، لقد أحصاهم خالقهم -تبارك وتعالى-، وعَدَّهم عدًّا، وسيأتي بهم يوم القيامة فردًا فردًا: (إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا) [مريم: 93-95]، (وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا) [ الكهف: 47].
وهذه النصوص بعمومها ومجملها تدل على حشر الخلق جميعًا الإنس والجن والملائكة، بل قال بعض أهل العلم: إن الحشر يتناول البهائم أيضًا.
أيها الناس: يحشر الله العباد يوم الحشر حفاة عراة غرلاً، أي: غير مختونين، فعن ابن عباس أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إِنَّكُمْ مَحْشُورُونَ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلاً، ثم قرأ (كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ)". البخاري (3349). [الأنبياء: 104].
وعندما سمعت عائشة الرسول -صلى الله عليه وسلم- يقول: "يُحْشَرُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلاً". قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ: النِّسَاءُ وَالرِّجَالُ جَمِيعًا يَنْظُرُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ!! قَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "يَا عَائِشَةُ: الأَمْرُ أَشَدُّ مِنْ أَنْ يَنْظُرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ". مسلم (2859).
وكل شخص يبعث يوم الحشر على الحالة التي مات عليها، فمن مات ملبيًا بعث ملبيًا، والشهيد يبعث يوم القيامة وجرحه يثعب، اللون لون الدم والريح ريح المسك، ومن مات وهو ينطق بالشهادتين بعث وهو يرددها، ومن هنا فقد استحب تلقين الميت لا إله إلا الله، لعله يموت على التوحيد، ثم يبعث يوم القيامة ناطقًا بهذه الكلمة الطيبة، فقد ورد من حديث عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- قال: "إن رجلاً كان مع النبي -صلى الله عليه وسلم- فوقصته ناقته وهو محرم فمات، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "اغسلوه بماء وسدر، وكفنوه في ثوبيه، ولا تُمِسُّوه بطيب، ولا تخمروا رأسه، فإنه يبعث يوم القيامة ملبيًا". البخاري (1265)، ومسلم (1206).
وقال -صلى الله عليه وسلم-: "من كان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا الله؛ دخل الجنة". أحمد (22034).
عباد الله: هكذا يحشر الله الخلائق ويعيدهم يوم الحشر، ليقوموا للحساب بين يدي رب العالمين، فهناك يستيقن المكذبون بالحشر بوقوعه، ويعلموا أن (السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ) [الحج : 7]، فيجازيهم الله بالعذاب الشديد جزاء تكذيبهم بالحشر: (بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا) [الفرقان : 11]، (وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ) [الروم : 16]، وأما المؤمنون بالبعث فيفرحون أشد الفرح بلقاء الله وصدق وعده: (وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ * وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ) [الزمر 73: 74].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، قلت ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب وخطيئة، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانِه، والشكرُ له على توفيقِهِ وامتنانِه، وأشهد أن لا إلهَ إلا الله وحدَه لا شريكَ لَه تعظيمًا لشأنِه، وأشهَد أنَّ سيِّدَنا ونبيَّنا محمَّدًا عبده ورسوله الداعِي إلى رضوانه، صلَّى الله عليه وعلَى آله وصحبه وسلَّم تسليمًا كثيرا.
أيها المسلمون: ذكرنا فيما سبق أن الله يحشر العباد يوم القيامة حفاة عراة غرلاً، كما صحت بذلك الأحاديث، ثم يكسى العباد، فالصالحون يكسون الثياب الكريمة، والطالحون يسربلون بسرابيل القطران، ودروع الجرب، ونحوها من الملابس المنكرة الفظيعة.
وأول من يُكسى من عباد الله خليل الرحمن نبي الله إبراهيم -عليه الصلاة والسلام-؛ ففي صحيح البخاري عن ابن عباس -رضي الله عنهما- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن أول الخلائق يُكسى يوم القيامة إبراهيم الخليل". البخاري (4625)، ومسلم (2860).
وأخرج البيهقي من طريق ابن عباس نحوه وزاد: "وأول من يُكسى من الجنة إبراهيم، يكسى حلة من الجنة، ويؤتى بكرسي فيطرح عن يمين العرش، ثم يؤتى بي فأُكسى حلة من الجنة لا يقوم لها البشر". البيهقي في الأسماء والصفات (839).
أما الأرض التي يحشر الله العباد عليها يوم القيامة فهي أرض أخرى غير هذه الأرض، يقول الله -سبحانه وتعالى-: (يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُواْ للهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ) [إبراهيم: 48]، وقد أخبر رسولنا -صلى الله عليه وسلم- عن صفة هذه الأرض الجديدة التي يكون عليها الحشر فقال: "يحشر الناس يوم القيامة على أرض بيضاء عفراء كقرصة النقي"، قال سهل أو غيره: "ليس فيها معلم لأحد". البخاري (6521)، ومسلم (2790)، ومعنى عفراء أي بيضاء، "ليس فيها معلم لأحد"، المعْلم: هو العلامة التي يُهتدى بها في الطريق.
وبيّن الرسول -صلى الله عليه وسلم- أن الوقت الذي يتم فيه هذا التبديل -تبديل الأرض- هو وقت مرور الناس على الصراط أو قبل ذلك بقليل، فعن عائشة قالت: سألت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن قوله -عز وجل-: (يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ) [إبراهيم: 48] ، فأين يكون الناس يا رسول الله؟! فقال: "على الصراط". مسلم (2791).
وعن ثوبان أن حبرًا من أحبار اليهود سأل الرسول -صلى الله عليه وسلم- فقال: أين يكون الناس يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات؟! فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "هم في الظلمة دون الجسر". مسلم (315). والمراد بالجسر الصراط.
أيها المسلمون: في هذا المشهد -مشهد الحشر- في الحر الشديد، والزحام الرهيب!! وفي هذا التدافع في ذلك الموقف الذي ترتعد منه الفرائص، وتشيب له الرؤوس، ويهتز له الوجدان، فإن الأنبياء حينما يرون هول هذا الموقف لا يملكون إلا أن يقولوا: اللهم سلم سلم!! هذه دعوتهم وهذا كلامهم يومها!!
وفي موقف الحشر تذهل كل مرضعة عن رضيعها، وتضع كل ذات حمل حملها، وينتاب الناس الهلع، والرعب حتى تظنهم سكارى، وما هم بسكارى، ولكن عذاب الله شديد.
في موقف الحشر يفر المرء من أبيه، وأمه وأخيه، وزوجته التي أعطى لها كل عطفٍ وحنانٍ ورعايةٍ وصحبة جميلة! وينسى الابن أبويه اللذين ربياه وأشفقا عليه!!
في موقف الحشر ليس هناك روابط نسبية ولا مجاملات شخصية: (فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ * فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ) [المؤمنون : 101-103].
في موقف الحشر الكل له شأن يلهيه، وحاله يغنيه عن حال الآخرين: (فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ) [عبس:33-37].
عباد الله: في ذلك الموقف العظيم ينجي الله أناسًا حملوا صفات عظيمة، وقاموا بأعمال جليلة، ذكرها النبي -صلى الله عليه وسلم- في الحديث المشهور بحديث السبعة الذين يظلهم الله بظله يوم لا ظل إلا ظله، وقد وردت أحاديث أخرى تفيد أن هناك مَن يظلهم الله في ظله غير هؤلاء السبعة، يقول المصطفى -صلى الله عليه وسلم-: "سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل، وشاب نشأ في عبادة الله، ورجل قلبه معلق بالمساجد، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه، ورجل دعته امرأة ذات منصبٍ وجمال فقال: إني أخاف الله، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل ذكر الله خاليًا ففاضت عيناه". البخاري (660)، ومسلم (1031).
نسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يجعلنا وإياكم من هؤلاء السبعة، وأن يظلنا بظله يوم لا ظل إلا ظله في ذلك الموقف الشديد.
اللهم إنا نعوذ بك من الغفلة، اللهم أعنا على سكرات الموت، اللهم ارزقنا الأمن يوم الفزع الأكبر، اللهم اغفر لنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم ارحمنا، واغفر لنا ما قدمنا وما أخرنا، وما أعلنا وما أسررنا، وما أنت أعلم به منا، أنت المقدم وأنت المؤخر، لا إله إلا أنت، سبحانك إنا كنا من الظالمين.
اللهم حقّق لنا ما نرجو، وآمنا مما نخاف، ولا تخزنا يوم الحشر، واجعل لنا ذكرًا حسنًا في العالمين.
اللهم تقبل منا واغفر لنا وارحمنا، أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين.
اللهم اهد أمتنا للعمل بشرائع هذا الدين، واحفظنا جميعًا بما تحفظ به أولياءك الصالحين، واجعلنا يوم الفزع من الآمنين.
اللهم اختم لنا بخاتمة الصالحين التائبين، واجعلنا يوم الفزع آمنين، واجعلنا ممن يؤتون كتابهم باليمين، وممن يُرفع مقامُهم في عليين.
اللهم ثبتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، واجعلنا ممن يأخذون صحائف الأعمال باليمين.
نسألك -يا ربنا- النجاة يوم الخوف، نسألك أن تخفف عنا الحساب، وأن تعفو عنا وتجعلنا من الذين تتوفاهم وأنت راض عنهم.
اللهم إن تكلنا إلى أنفسنا تكلنا إلى ضعف وعورة وذنب وخطيئة، وإنا لا نثق إلا برحمتك، فاغفر لنا ذنوبنا كلها، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
نسألك -يا الله- أن توفقنا لما تحبه وترضاه، وأن تعيننا على أنفسنا بالخشية منك، وأن تقر أعيننا بالحشر مع نبينا وبرؤية وجهه الكريم في جنات عدن، ووالدينا وذرياتنا وأحبتنا والمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات.
وصلِّ اللهم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم أجمعين. والحمد لله رب العالمين.
التعليقات