هبة حلمي الجابري
الداعي إلى الله تعالى الذي يتصدَّى للدعوة، ويحمل لواء الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، له صفات يجب أن يتحلَّى بها؛ ليكون نموذجًا عمليًّا لدعوته وقدوةً حسنةً لمن يتصدَّى لدعوتهم، وهذه الصفات هي:
1- قوة الصلة بالله.
2- قوة الصلة بالناس.
3- سعة الأفق.
4- المعرفة بالمدعوين.
5- الحلم والعفو.
6- مطابقة القول الفعل.
7- الاستقامة.
8- التواضع.
9- الشجاعة والثبات على الحق.
10- الإخلاص.
11- الصبر.
12- العناية بالمظهر.
♦ ♦ ♦
1- قوة الصلة بالله:
على الداعي أن يكون قوي الصلة بالله تعالى، دائم الخوف منه، يراقبه في كل صغيرة وكبيرة، متصلًا به ليلَ نهارَ، يعبده كأنه يراه، شعاره تقوى الله، والبُعْد عن كل حرام ومكروه، واجتناب الشبهات، فيترك الحلال أحيانًا مخافة أن يقع في الحرام.
إذا تهاون الناس في أمر دينهم وسَمَّوا الحرام بغير مُسمَّاه؛ نجده ما زال ثابتًا على الدين وقيمه ومبادئه، أمور كثيرة قد تكون بسيطةً في أعين الناس هي عند الله عظيمة؛ كالرشوة باسم الإكرامية، والانصراف من العمل قبل مواعيده الرسمية أو الحضور بعدها، أو أن يثبت حضور مَنْ لم يأتِ للعمل، أو استخدام أدوات العمل في أعمال شخصية، وغيرها كثير من مُحرَّمات انتشرت بين الناس، وأوجدوا لها مُبرِّرات أو سمَّوها بغير مسمياتها، فيتجنَّب ما يغضب الله حتى لو شاع بين الناس، فرِضا الله عنده هو الأساس، لا يُزعزع صلته بالله إحساسه بالغربة ولا كلام الناس.
وإذا كان الإيمان العميق ضروريًّا لكل مسلم، فهو للداعي أشدُّ ضرورة، ومع اعتماد الداعي على الله في كل أموره، فإنه يثق في ربِّه ثقةً كاملةً بأنه يحفظه وينصره، ويدفع الشرور عنه؛ قال تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا ﴾ [الحج: 38]، وقال: ﴿ وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ * وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ ﴾ [الصافات: 171- 173]، وما دام الداعي ينصر الله؛ أي: ينصر دينه بالدعوة إليه، فإن الله تعالى ناصره؛ يقول تعالى: ﴿ وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ﴾ [الحج: 40]، فعلى الداعي أن يتيقَّن ذلك، ولا يشك فيه أبدًا.
والداعي لا ييئس أبدًا؛ لأن اليأس حرامٌ أن يتسرَّب إلى القلوب الموصولة بالله؛ وإنما يدخل قلوب الكافرين المنقطعة صلتهم بالله؛ قال عز من قائل: ﴿ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ ﴾ [يوسف: 87].
وعلى الداعية أن يتفكَّر في خَلق الله تعالى، ويتأمَّل ويتدبَّر في آيات الله المبثوثة في نفسه وفي الكون، والقرآن الكريم عندما يلفت أنظار الداعية إلى هذه الآيات المنتشرة في الكون يدعوه لعقيدة التوحيد الخالص.
وهذا الإيمان الراسخ من الداعية يؤدي حتمًا إلى التوكُّل الدائم على الله والاستسلام له بلا تردُّد؛ لأنه ما دام قد ثبت في نفسه ثُبوتًا جازمًا أنه لا فاعل إلا الله، واعتقد فيه تمام الاعتقاد والعلم والقدرة على كفاية العباد، ثم تمام العناية والرحمة بجملة العباد وآحادهم، فإنه مُتَّكِل لا محالة على الله؛ لأن الله معه في كل آنٍ وحالٍ، فيتوكَّل على الله ويعتمد عليه في كل أموره، ويكون على يقين وثقة أن الله معه، فلا يخاف من أحد سواه، ولا يعتمد على أحد إلا إيَّاه.
وهكذا كان النبي صلى الله عليه وسلم كلما مرَرْنا بسيرته رأينا صدق اعتماده وتوكُّله على الله، وعظيم تضرُّعه والتجائه إلى مولاه؛ نتذكَّر موقفه وهو في طريق عودته من الطائف بعدما آذوه صلى الله عليه وسلم، ورموه بالحجارة، لمن لجأ؟ ولمن بثَّ شكواه؟ لجأ النبي صلى الله عليه وسلم إلى الله عز وجل، وناداه في تضرُّع وخشوع: ((اللهم إليك أشكو ضعف قوَّتي، وقلَّة حيلتي، وهواني على الناس، أنت ربُّ المستضعفين وأنت ربي، إلى مَنْ تَكِلُني؟ إلى بعيد يتجهَّمني أم إلى عدوٍّ ملَّكْته أمري؟ إن لم يكن بك عليَّ غضب فلا أبالي ولكن عافيتك هي أوسع لي...))، فينزاح الهمُّ والكرب، ويزول الحزن.
فعلى الداعية- بل وكل مسلم- اللجوء إلى الله سبحانه وتعالى، وأن يعلقوا به القلوب، وأن يخلصوا له التوجُّه والقصد، وأن يفرغوا قلوبهم وأنفسهم من كل اعتماد أو توكُّل على غيره.
2- قوة الصلة بالناس:
كما وثق الداعي صلته بالله تعالى، فعليه أن يوثق صلته بالناس؛ لأن دعوته إنما تكون معهم، ويرتفع شأنها ويعلو ذكرها بهم؛ فيترفَّق بهم ويحنو عليهم، فهو ابنٌ للكبير وأخٌ للصغير، يعاملهم معاملة حسنة، لا يرتفع عليهم بعلمه ومكانته، ولا يفرق بين سيِّدهم وخادمهم، ولا بين قويِّهم وضعيفهم، ولا بين غنيِّهم وفقيرهم، ولا بين كبيرهم وصغيرهم؛ بل الكل عنده سواء، لا فرق بينهم إلَّا بالتقوى.
وهذا الفهم عند الداعي يجعله لا يفرق بين إنسان ودعوته بسبب الحسب أو النسب، فلا يقتصر في دعوته على الأغنياء تاركًا الفقراء، أو يدعو الأقوياء ويترك الضعفاء؛ بل لا بد أن تشمل دعوته الجميع؛ لأنها دعوة عامة جاءت من أجل الجميع، وهو مكلف من قبل الله تعالى بنشرها بين الناس.
ولقد أعطى الله سبحانه وتعالى للدعاة درسًا عمليًّا في هذا الباب بما حدث من النبي صلى الله عليه وسلم مع عبدالله بن أُمِّ مكتوم في سورة عبس؛ فرغم أن عبدالله كان أعمى مما جعله لا يتحقَّق من عمل النبي صلى الله عليه وسلم في مجلسه، فدخل عليه طالبًا التعليم، في الوقت الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم مشغولًا فيه بتعليم غيره من صناديد قريش، وكونه أعمى يعطيه العذر في عدم تقدير الوقت المناسب للسؤال، وسبق القرشيين في الحضور يعطي النبي صلى الله عليه وسلم عذرًا في إمهال عبدالله؛ لأنه أسلم من قبل، والقرشيُّون لم يسلموا بعد، وفي إسلامهم إسلام غيرهم، ورغم ذلك فقد عُوتِب النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الموقف؛ حتى لا يُقال إنه أهمل عبدالله لفقره وعَماه، واهتمَّ بغيره لجاهه وغناه، وحتى لا يبقى هذا القول بعد ذلك بداية يهتمُّ فيها الدعاة بالأشياء الظاهرة، ويفرقون بين الخلق وبعضهم بما ليس لهم به سبب؛ فقال تعالى: ﴿ عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى * أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى * فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى * وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى * وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى * وَهُوَ يَخْشَى * فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى ﴾ [عبس: 1- 10].
وهذا يعطينا دليلًا على أن الإسلام يحرص دائمًا على كرامة الإنسان مطلقًا مهما كان وضعه الاجتماعي.
3- سعة الأفق:
للداعية دور مهم في مجتمعه، فعليه المناصحة والإرشاد، وهذا أمر يحتاج إلى جهد شديد، وبذل متواصل في التفصيل العلمي والبحث الموضوعي، فكيف يدعو إلى دين الله وهو لا يملك المعلومات التي تؤهِّله للدعوة؟ يحتاج أن يقرأ، وأن يتعلَّم، وأن يتزوَّد بالمعلومات في كل المجالات: تفسير وحديث وعقيدة وفقه وسيرة وغيرها، فالأفق الواسع يمكِّن الداعية من أداء مهمته؛ لأنه يُقدِّم له ملكة الفهم والحكم والقدرة على مواجهة كافة الاحتمالات بسبب العلوم التي أحاط بها وعلمها.
ودليل الداعية إلى ذلك كله هو كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فيجب على الداعية أن يحفظ من القرآن ما استطاع، ويحسن تلاوته، وأن يواظب على قراءة القرآن مع تدبُّر معانيه ومعرفة أحكامه، وأن يرجع إلى السنة النبوية الصحيحة، كما عليه أن يدرس سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وسيرة الخلفاء الراشدين والسلف الصالح والتابعين.
فكيف يدعو إلى الله وليس عنده ورد من القرآن ينهل منه؟! ولا يحفظ شيئًا من القرآن، ولو الآيات التي يستشهد بها في دعوته ولا يحفظ شيئًا من أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم؟
حفظ الداعية للقرآن الكريم ودراسته للسنة النبوية وسيرة السلف الصالح تجعل عنده المقدرة على التبليغ والإرشاد؛ ولذلك كان الرسول صلى الله عليه وسلم يختبر الدُّعاة إلى الله عن مدى تمسُّكهم وتفهُّمهم وإحاطتهم بالقرآن الكريم؛ فعندما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يبعث معاذًا إلى اليمن قال: ((كيف تقضي إذا عرض لك قضاء؟))، قال: أقضي بكتاب الله، قال: ((فإن لم تجد في كتاب الله؟))، قال: فبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ((فإن لم تجد في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟))، قال: أجتهد رأيي ولا آلو، فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم صدره، وقال: الحمد لله الذي وفَّقَ رسولَ رسولِ الله لما يُرضي رسولَ الله.
إن السيرة النبوية هي أكبر مدرسة دينية عملية يمكن أن نتعلَّم منها، إنها تطبيق عملي بمعنى الكلمة لأحكام القرآن، أليست أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها عندما سُئلت عن خُلُق النبي صلى الله عليه وسلم قالت: "كان خُلُقُه القرآن".
في السيرة نجد كل ما يخطر على بالنا، إذا أردت أن تعرف كيف تكون الحياة الزوجية الصحيحة، فستجدها في علاقة النبي صلى الله عليه وسلم بزوجاته، سنجد في السيرة الطريقة الصحيحة لتربية أبنائنا، وفي السيرة نعرف كيف نتعامل مع العصاة، كيف تتناقش وكيف تتعامل وتبيع وتشتري، كل ما تودُّ الحديث عنه، ستجده في السيرة تطبيقًا عمليًّا واضحًا.
4- المعرفة بالمدعوين:
مما يعين على النجاح الكبير للداعية في مجال الدعوة معرفة حال مَنْ تُوجَّه لهم الدعوة، من حيث نفسيَّاتهم وأخلاقهم، وعوائدهم، وتاريخهم، وموقعهم، ومللهم، وحضارتهم، ولغتهم، فيخاطبهم بما يُحقِّق الغرض، ويصل به إلى المطلوب من أيسر الطرق.
ومعرفة المدعوين تحتاج إلى دراسة العلوم التالية كما يقول الدكتور عبدالقادر سيد عبدالرؤوف:
علم التاريخ: ليعرف الفساد في العقائد والأخلاق والعادات، فيعرف كيف تنهض الحجة، ويبلغ الكلام غايته من التأثير، وكيف يمكن نقل هؤلاء المدعوين من حال إلى حال؛ ولهذا كان القرآن الحكيم مملوءًا بعِبَرِ التاريخ من قصص السابقين.
علم الأخلاق: الذي يبحث عن الفضائل النفسية وكيفية تربية المرء عليها، وهو لازم لرجال الدين وللدعاة ألزم؛ كي يستطيعوا معالجة النفوس وتهذيبها.
معرفة الملل والنحل ومذاهب الأمم فيها: ليتيسَّر للداعي بيان ما فيها من الباطل، فإن لم يتبيَّن له بطلان ما هو عليه لا يلتفت إلى الحق الذي عليه غيره، وإن دعاه إليه، ومن لم يقف على ما عند الناس من المذاهب والتقاليد الدينية لا يستطيع أن يخاطبهم على قدر عقولهم.
علم النفس: ليكون الداعية على معرفة بهوى النفس وميولها واتِّجاهاتها ومدى تأثيرها في المجتمع، وهو مهم؛ لأنه يُمكِّن الداعية من توجيه خطابه إلى النفس بما يثيرها ويُناسبها.
علم الاجتماع:الذي يبحث فيه عن أحوال الأمم في بداوتها وحضارتها، وأسباب ضعفها وقوَّتها وتأخيرها وتقدُّمها.
العلم بلغات الأمم المراد دعوتها إلى الإسلام: فعلى الداعية إلى الله تعالى أن يكون عارفًا بلغة القوم الذين يدعوهم إلى الإسلام، ((ومن تعلَّم لغة قوم أمن شرَّهم))، وذلك يُعطيه القدرة على مخاطبة أي قوم بلغتهم، وله في رسول الله صلى الله عليه وسلم الأسوة والقدوة، فقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر زيد بن ثابت بإجادة السريانية، قال زيد: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أتحسن السريانية؟ إنها تأتيني كتب بها))، قال قلت: لا، قال: ((تعلَّمها))، فتعلَّمْتها في سبعة عشر يومًا.
قد يقول قائل: هذه العلوم للمتخصصين؛ وإنما نحن مبتدئون!
إن تطبيق هذه العلوم على أرض الواقع ممكن وبكل بساطة؛ فمعرفة ميول وثقافة وتفكير وطبيعة من تدعوه مهم جدًّا.
يختلف حديثك إذا كنت تتكلم مع ملتزم وتريد نصحه أو تذكيره، عن حديثك مع مَنْ لا يعرف شيئًا عن الدين؛ فالملتزم قد يسمع الآية أو الحديث فتؤثر فيه أشدَّ التأثير.
يختلف حديثك مع المتبرِّجة عن حديثك مع من حجابها غير صحيح، وعن حديثك عمَّن كانت ترتدي الحجاب ثم فُتنت وتركته، ويختلف حديثك مع الصغير عن الكبير، وعن المتعلم مع غير المتعلم، وهكذا في كل الأمور.
مثال: قد يواجه الداعية من بلغ من الغفلة ألَّا تُحركه الآيات والأحاديث، أو من يُقدِّم العقل على النصوص؛ يريد أن تقنعه بالعقل، إذا قرؤوا أو سمِعوا موعظة تعتمد على ذكر الآيات أو الأحاديث فقط فلن يلتفتوا إليها، فكيف نتعامل مع أمثال هؤلاء؟
بما أن الاسلام دين الفطرة السوية فعلى الداعية أن يخاطب عقولهم، وأن يُقَبِّح الفعل الذي يصدر منهم، ويُحرِّك الفطرة السوية بداخلهم، وإذا كان يحثُّهم على عمل صالح، فعليه أن يستفزَّ ما بداخلهم من خير بطيب الكلام، فإذا نجحت في شدِّ انتباههم يمكنك عندها الاستشهاد بالآيات والأحاديث.
أيضًا لا بد أن ينتبه الداعية أن النفس تكره الهجوم والشدة في القول، فإذا هاجمت العاصي، وأغلظت له في القول فلن تقبل نفسه الكلام، وقد يأخذه الكبر حتى لو اقتنع بكلامك، فالكلمة الطيبة لها تأثير السحر في النفوس.
هناك بعض المسائل الحساسة التي يُثير طرحها الخلاف- كحكم تهنئة النصارى بأعيادهم- وعندها لا بد أن يكون الداعية حريصًا على عدم إثارة من يخاطبهم؛ لكي يتقبَّلوا الحديث، فهناك من تشرَّبوا فتاوى جواز التهنئة، ومنهم من يرى أن التهنئة أو الاحتفال من وسائل البر والإحسان، ويعترض بشدَّة على تحريم الاحتفال أو التهنئة، ولا يقبل فيها نقاش ولا دليل، فهؤلاء يحتاجون إلى حوار العقل المصحوب بالأدلة وأقوال السلف، يحتاجون إلى تشكيكهم في صحة فكرتهم ورأيهم، وإذا كانت قناعتهم تستند إلى رأي مرجوح؛ أذكر الرأيين وأُفنِّدهما بالعقل، والأهمُّ بأسلوب ليس فيه هجوم حتى يتقبَّلُوا الحديث.
أغلب الناس تحب المواعظ الخفيفة واليسيرة، فالدروس أو الخطب أو المقالات والمنشورات الطويلة لا يقرؤونها، إلا لو كان الأسلوب مشوقًا ممتعًا يجذبهم ولا يشعرهم بالملل، قالت أمُّ المؤمنين عائشة لأحد الواعظين في مكة: "يا عبيد بن عمير إذا وعظت فأوجز؛ فإن كثير الكلام يُنسي بعضُه بعضًا".
5- الحلم والعفو:
الحلم والعفو من أهم الصفات التي يجب أن يتحلَّى بها الداعية؛ لأن الناس كثيرًا ما يصدر منهم ما يغضب النفوس، ويُثير القلوب، فإذا لم يكن متحلِّيًا بالحلم والعفو صدر عنه ما ينفر الناس منه، فلا يجتمع عليه أحد، ولا يستطيع النجاح في مهمته؛ ولهذا مدح الرسول صلى الله عليه وسلم أشجَّ عبد القيس لما فيه من الحلم والأناة، فقال: ((إنَّ فيكَ خَلَّتَيْنِ يُحِبُّهُما اللهُ: الحِلْمُ والأناةُ))؛ رواه أبو داود.
والداعي إلى الله يتعرَّض لطبقات مختلفة من الناس، منهم الخلوق المهذَّب، ومنهم الشرس العنيد، وبالحلم والعفو يستطيع الداعية أن يُفسح صدره للجميع، ويعامل كل واحد منهم بالقدر الذي ينفعه ويستفيد منه، فالداعية في مجتمعه بمثابة الطبيب الذي يعالج أمراضهم، ويصف لهم العلاج الناجح كل حسب مرضه، وهو الأب الحنون الذي يحنو عليهم، ويتحمَّل أذاهم، ويعفو عن إساءتهم.
وليكن قدوته في ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم الذي خاطبه ربُّه بقوله: ﴿ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ﴾ [آل عمران: 159]، وقد أمرنا الله سبحانه وتعالى بالعفو؛ فقال عز وجل: ﴿ خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ ﴾ [الأعراف: 199].
لقد بلغ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم غاية الحِلْم والعفو، والسُّنَّة النَّبويَّة حافلة بمواقف الرَّسول الكريم في الحِلْم، ومِن ذلك قصَّة الأعرابي الذي جبذ (يعني جذب أو شد) النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم بردائه جَبْذَةً شديدةً؛ فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "كنت أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعليه بردٌ نجرانيٌّ غليظ الحاشية، فأدركه أعرابيٌّ، فجبذه بردائه جبْذَةً شديدةً، حتى نظرت إلى صفحة عاتق رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أثَّرت بها حاشية البُرْد مِن شدَّة جَبْذَته، ثمَّ قال: يا محمَّد، مُرْ لي مِن مال الله الذي عندك، فالتفت إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثمَّ ضحك، ثمَّ أمر له بعطاء"؛ رواه البخاري.
بالله عليكم يا أحبابنا، لو كانت هذه المعاني مستحضرة في واقعنا وواقع تعامُلنا مع عباد الله عز وجل، كيف سيكون حال دعوتنا؟ كيف لو استحضر المُعَلِّم هذا المعنى مع طُلَّابه ورَّواد درسه؟ وكيف لو استحضرت المعلمة ذلك مع طالباتها؟ وكيف لو تأمَّل الداعية والمربِّي والشيخ والعالم في هذا الموقف من النبي صلى الله عليه وسلم، وتمثَّله أصحاب الرسالات والدعوات في حياتهم، كيف سيكون حال الناس؟
6- مطابقة القول للعمل:
نجاح الداعي في دعوته مرتبط بموافقة قوله عمله، وعمله قوله؛ فالإسلام علم وعمل، والداعي إلى الله لا ينبغي له أن يكون فعله مُكَذِّبًا لقوله؛ بل ما يعظ به يحرص على تحقيقه في نفسه وفي بيته، فالقدوة العملية تصيب من قلوب الناس أكثر مما تصيب الكلمة مهما كان تأثيرها.
وأكبر مثال عملي على تأثير العمل والتطبيق على قبول الناس للقول ما حدث بعد صلح الحديبية حين أمر الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه بالحلق والنحر.
فعن المسور بن مخرمة رضي الله عنه، قال: فلما فرغ من قضية الكتاب، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: ((قوموا فانحروا، ثم احلقوا))، قال: فوالله، ما قام منهم رجل، حتى قال ذلك ثلاث مرات، فلما لم يقم منهم أحد دخل على أُمِّ سلمة، فذكر لها ما لقي من الناس، فقالت أُمُّ سلمة: يا نبي الله، أتحبُّ ذلك؟ اخرج ثم لا تكلِّم أحدًا منهم كلمةً حتى تنحر بدنك، وتدعوَ حالقَك فيحلقك، فخرج فلم يكلِّم أحدًا منهم حتى فعل ذلك؛ نحر بدنه ودعا حالقه فحلقه، فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا، وجعل بعضهم يحلق بعضًا حتى كاد بعضهم يقتل بعضًا غمًّا"؛ رواه البخاري.
7- الاستقامة:
الاستقامة في الإسلام منهج متكامل جمع بين العقيدة والشريعة والدين والدنيا، إنها تعني المسيرة الحازمة المقيمة على نهج واضح ويقين ثابت، وهي من ألزم صفات الداعي.
إن الاستقامة تعني الإيمان الكامل بالله وحده والإذعان التام لمشيئته، والاحتكام في كل صغيرة وكبيرة إلى دينه، والتطبيق لشريعته والعيش وَفْق ما يأمر به وينهى عنه؛ ولهذا قال عز وجل في سورة الأحقاف: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [الأحقاف: 13، 14].
وقد حثَّ الرسول صلى الله عليه وسلم على الاستقامة، فقد أخرج الإمام مسلم في صحيحه عن سفيان بن عبدالله الثقفي قال: قلت يا رسول الله، قل لي في الإسلام قولًا لا أسأل عنه أحدًا بعدك، قال: ((قُلْ: آمَنْت بِاللَّهِ ثُمَّ اسْتَقِمْ)).
قال العلماء: الاستقامة هي لزوم طاعة الله عز وجل، وهي نظام الأمور، لا تنتظم الأمور إلا بالاستقامة، والاستقامة كما عرفها بعض السلف: هي لزوم سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالاستقامة إذًا هي الدين كله، ((قُلْ: آمَنْت بِاَللَّهِ ثُمَّ اسْتَقِمْ)).
إن الاستقامة تشمل العقيدة، والعبادات، وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، والسلوك، وكل شيء في حياتنا، بحيث نكون فيه بين الإفراط والتفريط، وبين التقصير والغلوِّ.
8- التواضع:
على الداعي أن يكون متواضعًا من غير مذلَّةٍ، أبِيًّا من غير تكبُّر، فالتواضع للناس من أعظم الوسائل التي ينشر بها دعوته بينهم، يجعل الداعية محبوبًا من مجتمعه؛ فيستمع إليه الناس ويتأثرون به، ويقتدون بفعله.
والتواضع هو خفض الجناح والتودُّد للمؤمنين؛ قال تعالى: ﴿ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [الشعراء: 215]، والتواضُع يجب أن يكون مع الناس جميعًا؛ الأبيض والأسود، الغني والفقير، القوي والضعيف، لا فرق في ذلك بين أحد من الناس؛ قال صلى الله عليه وسلم: ((ما نقصتْ صدقةٌ من مالٍ، وما زاد اللهُ عبدًا بعفوٍ إلَّا عزًّا، وما تواضَعَ أحدٌ للهِ إلَّا رفعه اللهُ))؛ رواه مسلم.
ومن التواضُع عدم الافتخار بالآباء والأجداد، وعدم البغي والاعتداء؛ ولهذا يقول صلى الله عليه وسلم: ((إنَّ اللهَ أوحى إليَّ أن تواضَعوا حتى لا يبغيَ أحدٌ على أحدٍ، ولا يفخرَ أحدٌ على أحدٍ)؛ رواه أبو داود.
9- الشجاعة والثبات على الحق:
من صفات الداعية الشجاعة والثبات على الحق وعدم الخوف إلا من الله عز وجل، فلا يخاف في الله لومة لائم، وهذا بدوره يؤدي إلى نشر دعوته بين الناس؛ لأن المجتمع إذا رأى داعيته شجاعًا جريئًا ثابتًا على الحق، فإنهم يلتفتون حوله، ويُؤيِّدون دعوته، وبذلك يستطيع بشجاعته وثباته على الحق أن ينشر دعوته بين الناس.
عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: "بايعْنا رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ على السَّمْعِ والطاعةِ، في العُسْرِ واليُسْرِ، والمَنشطِ والمَكرهِ، وعلى أَثَرةٍ علينا، وعلى ألَّا ننازعَ الأمرَ أهلَه، وعلى أن نقولَ بالحقِّ أينما كنَّا، لا نخافُ في اللهِ لومةَ لائمٍ"؛ رواه مسلم.
وجاء في الترغيب والترهيب عن أبي سعيد الخُدْري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يحقِرنَّ أحدُكم نفسَه))، قالوا: يا رسولَ اللهِ، وكيف يحقرُ أحدُنا نفسَه؟ قال: ((يرَى أنَّ عليه مقالًا، ثمَّ لا يقولُ فيه، فيقولُ اللهُ عزَّ وجلَّ يومَ القيامةِ: ما منعك أن تقولَ كذا وكذا، فيقولُ: خشيةَ النَّاسِ، فيقولُ: فإيَّاي كنتَ أحقَّ أن تَخشَى))؛ والحديث ضعَّفَه الألباني في السلسلة الضعيفة.
وجاء في الصحيح عن أبي ذرٍّ الغفاري رضي الله عنه قال: ((أوصاني خليلي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بخِصالٍ من الخيرِ، أوصاني ألَّا أخافَ في اللهِ لومةَ لائمٍ، وأوصاني أن أقولَ الحقَّ وإن كان مُرًّا)).
فعلى الداعي ألَّا يُداهن ولا يمالئ أصحاب البدع، ولا يظهر الموافقة على ضلال؛ لأنه قدوة للناس في كل ما يقول ويفعل.
10- الإخلاص:
الإخلاص أساسٌ لنجاح الداعية، فالعمل بلا إخلاص؛ كالجسم الذي لا رُوح فيه، أما ما كان من القلب، فإنه ينفذ إلى القلوب؛ ولذلك قال تعالى: ﴿ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ﴾ [البينة: 5]، وقال عز وجل: ﴿ أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ ﴾ [الزمر: 3].
وحقيقة الإخلاص أن يعمل الإنسان العمل لا يريد به إلا وجه الله عز وجل، فلا ينتظر من أحد جزاءً أو شكورًا على هذا العمل، فإن الداعي يكون مقبول النصيحة إذا كان خاليًا من الأغراض الدنيوية، أما إذا كان عمله لشيء من هذه الأغراض، فلا أثر لقوله في قلوب الناس؛ بل عليه أن يعمل لوجه الله تعالى، وطلبًا لمرضاته وحسن مثوبته، ولا يرى لنفسه مِنَّة على من يرشدهم.
ومن قام بالدعوة إلى الله تعالى لشهوة من الشهوات النفسية، فذلك حظه من عمله، وكان عند الله مذمومًا؛ قال تعالى: ﴿ مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ ﴾ [الشورى: 20].
والإخلاص في الدعوة وللدعوة من أقوى الأسباب لالتفاف الناس حول الداعية، من يؤمن بفكرة ويحاول إيصالها للناس بكل جوارحه، تشعُر أن حديثه من القلب، فيصل كلامه لقلوب الناس.
11- الصبر:
الداعي إلى الله يحتاج إلى الصبر؛ لأنه الزاد والمؤونة على تحمُّل المشاقِّ في سبيل الدعوة، والصبر هو الطريق الذي رسمه الله سبحانه وتعالى للدُّعاة إليه على تحمُّل الصعاب والعقبات التي تقف أمام دعوتهم؛ قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾ [البقرة: 153]، وخاطب الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: ﴿ فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ ﴾ [الأحقاف: 35]. فلا بد للداعية من أن يضع هذه الحقيقة نصب عينيه حتى يكون مستعدًّا لكل ما يطرأ عليه أثناء تبليغ دعوته إلى الناس، وأنبياء الله عليهم السلام لاقوا من أقوامهم اضطهادًا كثيرًا، ومع ذلك صبروا على هذا الأذى والاضطهاد؛ فسيدنا نوح عليه السلام تحمَّل أذى قومه وسخريتهم منه وهو يصنع السفينة، واستهزاءهم به، ووصفهم له بالجنون؛ قال تعالى في سورة القمر: ﴿ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ * فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ ﴾ [القمر: 9، 10]، فيستجيب له عز وجل ﴿ وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ * وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ ﴾ [الصافات: 75، 76].
وسيدنا إبراهيم عليه السلام ألقي في النار بسبب دعوته، فخاطب اللهُ عز وجل النارَ قائلًا: ﴿ قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ ﴾ [الأنبياء: 69].
وسيدنا موسى عليه السلام أوذي إيذاءً شديدًا في سبيل الدعوة إلى الله تعالى، وقال في حقِّه: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا ﴾ [الأحزاب: 69]، وسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم إمام الدعاة تحمَّلَ من الأذى في سبيل دعوته ما لا يتحمَّله أحد، ومع ذلك أوصاه الله بالصبر؛ فقال: ﴿ فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ ﴾ [الأحقاف: 35].
وفي وصية لقمان لابنه درسٌ للدُّعاة على مرِّ العصور والأزمان أن يتجملوا بالصبر لما يصيبهم؛ قال تعالى: ﴿ يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ﴾ [لقمان: 17]؛ فإقامة الصلاة إعدادٌ للنفس وتعويدٌ لها على طاعة الله تعالى، والإنسان عندما يدعو الناس إلى الخير يتصدَّى له أهل الشر، ويناله منهم الأذى والاضطهاد؛ ولذلك أمره أن يتحمَّل ويتجمَّل بالصبر في سبيل دعوته إلى الخير ونهيه عن الشرِّ، وهكذا نجد أن الصبر على الأذى سلاحٌ قويٌّ يستعين به الدُّعاة إلى الله تعالى، فيصلون إلى ما يريدون، وقد وعدهم الله على صبرهم أجرًا عظيمًا؛ فقال عز من قائل: ﴿ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ [الزمر: 10].
12- العناية بمظهره:
إن عناية الداعية بمظهره الخارجي ولباسه ونظافته أمرٌ مهمٌّ؛ حيث إنها تقوم بدورٍ مهمٍّ في جذب الناس نحوه والتفافهم حوله وتأثيره فيهم، والإسلام أمرنا بهذا حيث قال: ﴿ يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ ﴾ [الأعراف: 31]، وقال تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ ﴾ [البقرة: 222]، والإسلام أباح للمسلم أن يظهر في ملبسه وهندامه أمام المجتمع بمظهر لائق كريم، والداعي إلى الله تعالى أولى بذلك؛ لأنه قدوة لمجتمعه، ومن عناية الإسلام بالمظهر أمر المسلم بالنظافة؛ لأنها الأساس لكل زينة حسنة، مظهر الداعية مهم؛ ليعرف الناس أن التدين والالتزام لا يُنافي اهتمام الإنسان بمظهره، النبي صلى الله عليه وسلم لما حدَّث الصحابة عن الكبر، قالوا: يا رسول الله، إن الرجل يحب أن يكون نعله حسنًا، وثوبه حسنًا؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إِنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ))؛ رواه مسلم؛ أي: يحب التجمُّل، ولم ينكر عليهم أن يحبوا أن تكون ثيابهم حسنة، ونعالهم حسنة؛ بل قال: ((إِنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ))؛ أي: يحب التجمُّل.
أما معنى حديث: ((إن البذاذة من الإيمان))، كما يقول الشيخ ابن عثيمين: "أن يكون الإنسان غير متكلِّف بأشياء، وإذا كان لا يتكلَّف الأشياء؛ بل تأتي بأصولها إنه يحمل هذا النص على النصِّ الذي أشرتُ إليه آنفًا، وهو أن التجمُّل من الأشياء المحبوبة إلى الله عز وجل؛ لكن بشرط ألَّا يكون ذلك إسرافًا، أو لا يكون ذلك نزولًا إلى المستوى الذي لا ينبغي أن يكون عليه الرجل".
والسؤال الذي يطرح نفسه بناء على الصفات السابقة؛ ما هي الأسباب التي تجعل بعض الدُّعاة المشهورين مؤثرين في فئة معينة من الناس- وهم المتديِّنون- ولا يصلون بسهولة لغيرهم من الشباب؟ وفي المقابل لماذا نجد غيرهم يصل للشباب بسهولة، ويؤثر فيهم تأثيرًا كبيرًا، رغم أن البعض منهم ليس لديه العلم الكافي أو المنهج الصحيح؟
قد تكون الأسباب عدم مقدرة بعض الدعاء على أن يكونوا قريبين من تفكير الشاب؛ فالشباب يحبُّون من يكون قريبًا منهم في التفكير وحتى في الملابس، من يتكلم اللغة السهلة البسيطة؟ من يختار مواضيع تمسُّ مشاكل وحياة الشباب؟ يحبون من يخاطب عقولهم فيقنعهم، ويُحرِّك عواطفهم، ويؤثر فيهم الحماسة في العرض.
وإن كان التوازن بين الترغيب والترهيب في الدعوة مطلوبًا؛ لكن الإكثار من اتِّباع أسلوب الترهيب والتخويف من العذاب المترتِّب على المعاصي، وكثرة الحديث عن عذاب القبر وأهوال يوم القيامة، وعذاب النار عند البعض قد يجعل بعض الشباب يبعد عن الاستماع للداعية، فهم يحتاجون إلى من يبثُّ الأمل في نفوسهم، يخبرهم أن السعادة التي ينشدونها ولا يجدونها في حياتهم موجودة في طاعة الله، يحدثهم عن الجنة ونعيمها، وعن عفو الله وحلمه، عن قبوله لتوبة التائب، وكرمه ولطفه بعباده.
كما أن الابتسامة والاحتواء عند وقوع الزلل من أهم الأسباب لقبول كلام الداعية ونصحه؛ فكل إنسان في هذه الدنيا- مهما قوي إيمانه- معرَّضٌ لفترات ضعف قد يتمكَّن الشيطان فيها منه، البعض يستطيع أن يثبت أمام هجمات الشيطان ووسوسته ويستعيذ بالله منه، والبعض- للأسف- يقع فريسةً سهلةً ويستسلم بسهولة دون مقاومة، ثم بعد أن يسقط تأتي هجمات الانتقادات الشرسة من كل من حوله بكلمات قاسية، فنكون عونًا للشيطان عليه في وقت هو أحوج فيه إلى أن نشدَّ أزره؛ ليقاوم هجمات الشيطان؛ فنذكره بالله وبحلاوة الإيمان التي عاشها، نعرف أسباب ضعفه التي جعلته يرجع القهقرى، ونوجد الحل لها، نأخذ بيديه ونخبره أن الوقت ما زال أمامه ليتراجع عن خطئه، ويعود إلى الصراط المستقيم.
من منَّا بلا معاصٍ؟! هناك من يضعف أمام معصية معينة أو كبيرة، يشعُر بالذنب والألم كلما عملها، ويتمنَّى التوبة ولكنه ضعيف أمامها، ومع ذلك فهو يحبُّ الله ورسوله، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنَّ رجلًا كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم كان اسمه عبدالله، وكان يُلَقَّب حمارًا، وكان يُضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد جلده في الشراب، فأُتِي به يومًا، فأمر به فجُلِد، فقال رجل منَ القوم: اللهم الْعَنْه، ما أكثر ما يؤتَى به! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا تلعنوه، فواللهِ ما علمتُ أنه يحب الله ورسوله))؛ رواه البخاري.
أرأيتم كيف أقام رسول صلى الله عليه وسلم عليه الحدَّ، ثم يدافع عنه، ويقول إنه يحب الله ورسوله؟!
ومن أهم أسباب قبول الدعوة: حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يسِّروا ولا تُعسِّروا، وبَشِّروا ولا تُنفِّروا))؛ متفق عليه. فالناس سَتُقبل على من يُيسِّر لهم الحكم- بشرط أن يكون حُكمًا فقهيًّا صحيحًا له دليله المعتبر- فعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنه، قالت: "ما خُيِّرَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بين أمريْن قطُّ إلا أخذَ أيْسرَهما ما لم يكن إثمًا، فإن كان إثمًا كان أبعدَ الناسِ منه"؛ رواه البخاري.
إذًا نجد أن الدعاة الشباب هذه الأيام لهم تأثير أكبر في هذا الجيل؛ لأن همومهم مشتركة، ويستطيعون وضع أيديهم على ما يهمُّ الشباب من مواضيع ومشاكل معاصرة، ويخاطبون الشباب بلغتهم التي يفهمونها، وأسلوبهم وطريقة حديثهم يدخل القلب مباشرة لبساطته وسلاسة ألفاظه، ثم الحماس الذي يتمتَّع به الداعية الشابُّ ينتقل لمن يشاهده أو يسمعه، وتقديم حلول وخطوات عملية قابلة للتنفيذ على أرض الواقع.
وباختصار يستطيعون إيصال المعلومة بطريقة شرعية مع الدليل، وبأبسط السُّبُل والإمكانات، وطبعًا وسائل التواصل ساعدت في ذلك كثيرًا.
التعليقات