عناصر الخطبة
1/ما يمنع من قبول العبادة 2/فضيلة العفو والحث عليه 3/نموذج من عفو الأكابر 4/رمضان شهر الصفح والمسامحةاقتباس
لا إلهَ إلا اللهُ! كَمْ في هذا الشَّهرِ مِنْ عِباداتٍ، وكَمْ فِيهِ مِنْ صَلواتٍ، وَكَمْ فِيهِ مِنْ صَدقاتٍ، وكَمْ فِيهِ مِنْ أَذكارٍ، وكَمْ فِيهِ مِنْ تَوبةٍ واستغفارٍ، وكَمْ فيه مِنْ صِيامٍ وبرٍّ للوَالدينِ وصِلةِ أَرحامٍ!، ومَعَ ذَلكَ لا يُغفرُ لهذا العبدِ، بَلْ ولا يُنظرُ في عَملِهِ؛ فَأيُّ خَسارةٍ هَذهِ...
الخُطْبَةُ الأُولَى:
الحمدُ للهِ الذي مَنَّ على مَنْ شاءَ من عبادِه بمكارمِ الأخلاقِ، وهداهم لما فيه فلاحَهم وسعادتَهم في الدنيا ويومَ التلاقِ، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، الملكُ العظيمُ الخلاّقُ، وأشهدُ أن محمداً عبدُه ورسولُه أكرمَ الناسِ في الأعمالِ والأخلاقِ، صلى اللهُ عليه وعلى آلهِ وأصحابِه، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يومِ الدينِ، وسلمَ تسليماً كثيراً،
أما بعد: أُوصيكم ونَفسي بِتقوى اللهِ -تَعالى-: (إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ)[النحل: 128].
كَانَ مُتَشوِّقاً لِدُخولِ شَهرِ رَمضانَ؛ يَرجو فِيهِ العَفوَ والرَّحمةَ والغُفرانَ، فَلا تَراهُ إلا يَتَنقَّلُ مِن طَاعةٍ إلى طَاعةٍ، ولا يَكادُ أنْ يُفَرِّطَ مِن رَمَضانَ بِساعةٍ، فَهوَ في النَّهارِ في قِراءةِ قُرآنٍ وَصَدَقاتٍ وصِيامٍ، وفي اللَّيلِ في ذِكرٍ وصِلةِ أرحامٍ وقِيامٍ، وما بَينَ ذلكَ في دُعاءٍ ومُناجاةٍ وبُكاءٍ، فَيَنظُرُ إليهِ النَّاظرُ ويَقولُ: "هَنيئاً لَهُ هَذا الاجتِهادُ، وهَكَذا تَكونُ المُنَافسةُ بينَ العِبادِ"، وَلكنْ هُناكَ شَيءٌ واحدٌ، يُكَدِّرُ صَفوَ هَذا العَابدِ، وهَوَ أنَّهُ مَحرومٌ مِنَ المَغفرةِ في هَذا الشَّهرِ الفَضيلِ، ولا يَنظرُ اللهُ -تَعالى- إلى ذَلِكَ العَملِ الجَليلِ، فَلِماذا؟، ومَا هو السَّببُ؟!.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ الله عَنْهُ-، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "تُعْرَضُ الْأَعْمَالُ فِي كُلِّ يَوْمِ خَمِيسٍ وَاثْنَيْنِ، فَيَغْفِرُ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ لِكُلِّ عَبْدٍ لَا يُشْرِكُ بِاللهِ شَيْئًا، إِلَّا رَجُلًا كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ شَحْنَاءُ، فَيُقَالُ: أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا، أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا، أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا"، لا إلهَ إلا اللهُ! كَمْ في هذا الشَّهرِ مِنْ عِباداتٍ، وكَمْ فِيهِ مِنْ صَلواتٍ، وَكَمْ فِيهِ مِنْ صَدقاتٍ، وكَمْ فِيهِ مِنْ أَذكارٍ، وكَمْ فِيهِ مِنْ تَوبةٍ واستغفارٍ، وكَمْ فيه مِنْ صِيامٍ وبرٍّ للوَالدينِ وصِلةِ أَرحامٍ!، ومَعَ ذَلكَ لا يُغفرُ لهذا العبدِ، بَلْ ولا يُنظرُ في عَملِهِ؛ فَأيُّ خَسارةٍ هَذهِ، وأَيُّ مُصيبةٍ تِلكَ؟!.
أيُّها الأحبَّةُ: عِندَما يَأتي التَّوجيهُ النَّبويُّ الخَطيرُ: "لَا تَبَاغَضُوا، ولا تَحَاسَدُوا، ولا تَدَابَرُوا، ولا تَقَاطَعوا، وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا، ولا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاث"، ثُمَّ نَرى القَطيعةَ بينَ الأقاربِ والإخوانِ، وبينَ الأصحابِ والجِيرانِ، فَلا الكَبيرُ يُريدُ أن يَتنازَلَ فَيَعذِرَ، ولا الصَّغيرُ يُريدُ أن يُبادرَ فَيَغفِرَ، فَأينَ الحِكمةُ والعَقلُ؟، وأينَ العَفو والفَضلُ؟، فَيَا مَنْ يُريدُ دَارَ السَّلامِ، خَيرُهما الذي يَبدأُ بالسَّلامِ.
إِذَا اعْتَذَرَ الْجَانِي مَحَا الْعُذْرُ ذَنْبَهُ *** وَكَانَ الَّذِي لا يَقْبَلُ الْعُذْرَ جَانِيَا
اسمَعوا لِهَذهِ القِصَّةِ: كَانَ أبو بَكرٍ الصِّديقُ -رَضِيَ اللهُ عَنهُ- يُنفقُ عَلى مِسطَحِ بنِ أُثاثةَ -رَضِيَ اللهُ عَنهُ- لقَرابتِهِ مِنهُ وفَقرِه، فلما كَانتْ حَادثةُ الإفكِ، تَكلَّمَ مِسطحُ في عائشةَ -رَضيَ اللهُ عَنها- مَعَ مَن تَكلَّمَ، فلما أَنزلَ اللهُ -تَعالى- براءَتَها، قَالَ أبو بكرٍ: "واللهِ لا أُنفقُ عَلى مِسطحٍ شَيئاً أَبداً، ولا أَنفعُه بِنَفعٍ أَبداً"، وَمَنْ يَلومُهُ وَقَدْ تَكلَّمَ فِي عِرضِ النَّبيِّ -صَلَّى اللهُ عَليهِ وَسلَمَ-، وعِرضِ بِنتِه الصِّديقةِ العَفيفةِ الطَّاهرةِ.
ولَكِنْ مَاذا قَالَ اللهُ -تَعالى- لأبي بَكرٍ في مَنعِهِ لِنَفَقةٍ كانتْ لوَجهِ اللهِ، ويَنبغي أن تَبقى خَالصةً للهِ -عَزَّ وجَلَّ-؟، قَالَ -سُبحَانَه-: (وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)[النور: 22]، فَقَالَ أَبو بَكرٍ الصِّديقِ -رَضيَ اللهُ عَنهُ-: "بَلى، واللهِ إنِّي لأُحِبُّ أَن يَغفرَ اللهُ لي"، فَرجَعَ إلى ِمِسطحٍ النَّفقةَ التي كَانَ يُنفقُ عَليهِ، وقَالَ: "واللهِ لا أَنزعُهَا مِنهُ أَبداً"، وهَكَذا يَكونُ عَفو الأكابِرِ، مَنْ كَانَ يَرجو اللهَ واليَومَ الآخِرَ.
إذا شِئتَ أن تُدعى كَريمًا مكرَّمًا *** أديبًا ظَريفًا عَاقلًا مَاجِدًا حُرَّا
إذا ما أتتْ من صَاحبٍ لك زَلَّةٌ *** فَكُنْ أَنتَ مُحتالًا لِزلَّتِهِ عُذرا
بَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُمْ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيْمِ، وَنَفَعَنِي وَاِيِّاكُمْ بِمَا فِيْهِ مِنَ الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيْمِ، أقُوْلُ قَوْلِي هَذا، وَأسْتَغْفِرُ اللهَ الْعَظِيْمَ لَيْ وَلَكُمْ وَلِسَائِرِ الْمُسْلِمِيْنَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِيْنَ وَالْمُؤْمِنَاتِ فَاسْتَغْفِرُوْهُ إنَّهُ هُوَ الْغَفُوْرُ الرَّحِيْمُ.
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ ذي العَطاءِ والنِعمِ، دَافِعِ الشُّرورِ والنِّقَمِ، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أن محمداً عبدُ اللهِ ورسولُه، اللهم صلِ عليه وسلمْ، وعلى آلهِ وأزواجِه وصحابتِه والتابعينَ لهم بإحسانٍ إلى يومِ الدينِ.
أما بعد: يقولُ ابنُ القيمِ -رَحمَهُ اللهُ-: "يا ابنَ ادمَ، إن بينَك وبينَ اللهِ خطايا وذنوبٌ لا يعلمُها إلا هو، وإنك تحبُ أن يغفرَها اللهُ لك، فإذا أحببتَ أن يغفرَها لك فاغفرْ أنت لعبادِه، وأن أحببتَ أن يعفوَها عنك، فاعفُ أنت عن عبادِه؛ فإنما الجزاءُ من جنسِ العملِ، تعفو هنا يعفو هناك، تنتقمُ هنا ينتقمُ هناك، تطالبُ بالحقِ هنا يطالبُ بالحقِ هناك"، فَانظُرْ كَيفَ تُريدُ أن يَكونَ اللهُ مَعَكَ يومَ القِيامةِ؟، فَكُنْ أَنتَ اليَومَ مَعَ عِبادِهِ في الدُّنيا.
فَيَا أيُّها الأحبَّةُ: هَذا الشَّهرُ يَنبغي أَن يَجمعَ شَملَنا، ويَلُّمَ شَتَاتَنا، ويَصِلَ قَاطعَنا، ويُصلحَ هَاجِرَنا، هَذا الشَّهرُ هُو شَهرُ العَفوِ والتَّصَافحِ، وهُو شَهرُ التَّراحمِ والتَّسَامحِ، هَذا الشَّهرُ هُو شَهرُ السَّلامِ والتَّزاورِ، وهُو شَهرُ تَركِ التَّجَافي والتَّكابرِ، فَمَاذا نَنتَظرُ؟، لا صَلاةَ تُرفعُ، ولا دُعاءَ يُسمعُ، ولا عَملَ عَلى اللهِ يُعرضُ، وَيَقولُ اللهُ لملائكتِه: "أَنْظِروا هَذينِ حَتَى يَصطَلحا"، حَتَى لَو كُنتَ مَظلوماً صِلْ، فَاللهُ أَكرمُ وأَوصلُ، وابتغِ وجهَ رَبِّكَ فَاللهُ أَعَلَى وأَجلُّ، فَدُنيا تَخاصمتُم عَليها هِيَ أَحقرُ وَأَقَلُّ، فَكَفى صُدوداً وهِجراناً، وكُونوا عِبادَ اللهِ إخواناً، وتَذكروا أَنَّ عِندَ اللهِ المُلتقى، فِي جَنَّةٍ هِيَ أَطيبُ وأغلى.
اللهمَّ إنَّكَ أَنزلتَ في كِتابِكَ العَفوَ، وأَمرتَنا أن نَعفوَ عمّن ظلمَنا، وقد ظلمْنا أنفسَنا، فاعفُ عنَّا، فإنّك أَولى بِذلكَ مِنَّا، وأَمرتَنا أن لا نردَّ سَائلاً عن أبوابِنا، وقد جئناكَ سَائلينَ فَلا تَردَّنا، وأَمرتَنا بالإحسانِ إلى مَا مَلكتْ أيمانُنا، ونحن أرقّاؤُك، فاعتقْ رقابَنا من النارِ، في هذا الشهرِ المباركِ، اللهم مُنَّ علينا بعفوِك، وأكرمنا بغفرانِك، وتبْ علينا إنكَ أَنتَ التوابُ الرحيمُ، اللهم اغفرْ لنا ما قدمْنا وما أخرْنا، وما أسررْنا وما أعلنّا، وما أسرفْنا وما أنت أعلمُ به منا، أنت المقدمُ وأنت المؤخرُ لا إله إلا أنت، اللهم آتِ نفوسَنا تقواها، وزكها أنتَ خيرُ من زكاها، أنت وليُّها ومولاها، اللهمَّ أَعزَّ الإسلامَ والمسلمينَ، وأذلَّ الشركَ والمشركينَ، اللهم قاتلِ الكفرةَ الذين يَصدونَ عَن سَبيلِكَ، ويُقاتلونَ أَهلَ دِينِكَ، اللهمَّ عَليكَ بهم فإنهم لا يُعجزونكَ، اللهمَّ أَنزلْ بهم بأسَك الذي لا يُردُ عن القومِ المجرمينَ، اللهم انصر دينَك وكتابَك وسنةَ نبيِك، وعبادَك المؤمنينَ.
التعليقات