عناصر الخطبة
1/تحريم شهادة الزور 2/خطورة شهادة الزور ومفاسدها 3/مظاهر التساهل في شهادة الزور 4/شهادة الحق محمودة وممدوحة 5/الحث على التوبة من شهادة الزور.اقتباس
كَبِيرَةٌ مِنْ كَبَائِرِ الذُّنُوبِ: سَبَبٌ لِسَخَطِ الْجَبَّارِ وَدُخُولِ النَّارِ، وَسَبَبٌ فِي ضَيَاعِ حُقُوقِ النَّاسِ وَظُلْمِهِمْ، وَسَبَبٌ لِزَرْعِ الأَحْقَادِ وَالضَّغَائِنِ فِي الْقُلُوبِ؛ تَطْمِسُ مَعَالِمَ الْعَدْلِ وَالإِنْصَافِ وَالْحَقِيقَةِ، وَتُعِينُ الظَّالِمَ عَلَى ظُلْمِهِ، وَتُعْطِي الْحَقَّ لِغَيْرِ مُسْتَحِقِّيهِ...
الخُطْبَةُ الأُولَى:
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ؛ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
أَمَّا بَعْدُ: أَيُّهَا النَّاسُ: أُوصِيكُمْ وَنَفْسِي بِتَقْوَى اللهِ -تَعَالَى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُمْ مُّسْلِمُونَ)[آل عمران:102].
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: كَبِيرَةٌ مِنْ كَبَائِرِ الذُّنُوبِ: سَبَبٌ لِسَخَطِ الْجَبَّارِ وَدُخُولِ النَّارِ، وَسَبَبٌ فِي ضَيَاعِ حُقُوقِ النَّاسِ وَظُلْمِهِمْ، وَسَبَبٌ لِزَرْعِ الأَحْقَادِ وَالضَّغَائِنِ فِي الْقُلُوبِ؛ تَطْمِسُ مَعَالِمَ الْعَدْلِ وَالإِنْصَافِ وَالْحَقِيقَةِ، وَتُعِينُ الظَّالِمَ عَلَى ظُلْمِهِ، وَتُعْطِي الْحَقَّ لِغَيْرِ مُسْتَحِقِّيهِ؛ جَاءَ النَّهْيُ عَنْهَا فِي كِتَابِ رَبِّنَا وَسُنَّةِ نَبِيِّنَا -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؛ لِمَا فِيهَا مِنَ الإِضْرَارِ وَالإِفْسَادِ بِالْمُجْتَمَعَاتِ وَالأَفْرَادِ: إِنَّهَا شَهَادَةُ الزُّورِ، وَالَّتِي قَرَنَ اللهُ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- بَيْنَهَا وبين عِبَادَةِ الأَصْنَامِ، فَقَالَ: (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ) [الحج: 30].
وَنَزَّهَ -سُبْحَانَهُ- الْمُؤْمِنِينَ عَنْ قَوْلِ الزُّورِ، وَجَعَلَ منْ أَبْرَزِ صِفَاتِهِمْ: الاِبْتِعَادَ عَنْ قَوْلِ الزُّورِ وَشَهَادَةِ الزُّورِ، فَقَالَ: (وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً) [الفرقان:72]، وَرَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ -فِي صَحِيحَيْهِمَا- عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: "أَلاَ أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ -ثَلَاثًا-؟"، قُلْنَا: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ، وَكَانَ مُتَّكِئًا فَجَلَسَ، فقالَ: "الإِشْرَاكُ بِاللهِ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ، أَلاَ وَقَوْلُ الزُّورِ، وَشَهَادَةُ الزُّورِ" قَالَ: فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا حتَّى قُلْنَا: لَيْتَهُ سَكَتَ.
وَشَهَادَةُ الزُّورِ نَوْعٌ خَطِيرٌ مِنَ الْكَذِبِ، شَدِيدَةُ الْقُبْحِ، سَيِّئَةُ الأَثَرِ، يُتَوَصَّلُ بِهَا إِلَى الْبَاطِلِ؛ كَمْ أَتْلَفَتْ مِنْ نَفْسٍ!، وَهَتَكَتْ مِنْ عِرْضٍ!، وَأَخَذَتْ مِنْ مَالٍ!، وَأَحْلَلَتْ حَرَامًا!، وَحَرَّمَتْ حَلاَلاً! وَكَانَتْ سَنَدًا لِلْبَاطِلِ، وَطَمْسًا لِلْحَقِّ، وَإِضْلاَلاً لِلْقَضَاءِ!، وَاسْتِعَانَةً بِهَا عَلَى الإِثْمِ وَالْبَغْيِ وَالْعُدْوَانِ!
وَمَا ذَاكَ إِلاَّ لِشَهْوَةِ سَاعَةٍ؛ إِمَّا لِلْحُصُولِ عَلَى الْمَالِ أَوْ لِلشُّهْرَةِ، أَوْ وُقُوفًا مَعَ بَاطِلٍ مِنْ أَجْلِ قَرِيبٍ أَوْ صَاحِبٍ أَوْ قَبِيلَةٍ؛ حَتَّى بَلَغَ بِالْبَعْضِ أَنْ يَقِفَ بِأَبْوَابِ الْمَحَاكِمِ مُسْتَعِدًّا لِشَهَادَةِ الزُّورِ وَالإِدْلاَءِ بِهَا؛ بَلْ رُبَّمَا حَلَفَ عَلَيْهَا؛ وَلاَ يَعْلَمُ شَاهِدُ الزُّورِ أَنَّهُ سَاقِطٌ بِنَظَرِ مَنْ شَهِدَ لَهُ؛ لأَنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّهُ كَاذِبٌ خَائِنٌ فِي شَهَادَتِهِ، عَدِيمُ الْخُلُقِ وَالدِّينِ، قَدْ بَاعَ ضَمِيرَهُ بِعَرَضٍ مِنَ الدُّنْيَا، وَدَاسَ عَلَى كَرَامَتِهِ وَرُجُولَتِهِ وَسُمْعَتِهِ لِإِرْضَاءِ مَنْ شَهِدَ لَهُ.
وَاسْتَحَقَّ عُقُوبَةَ اللهِ الْعَاجِلَةَ فِي الدُّنْيَا وَالآجِلَةَ فِي الآخِرَةِ؛ وَاللهُ -تَعَالَى- يَقُولُ: (مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ)[ق:18]. وَقَالَ: (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ)[الأنبياء: 47].
وَمِنْ مَظَاهِرِ التَّسَاهُلِ بِالشَّهَادَةِ: أَنَّ الْبَعْضَ يُصَدِّقُ خَبَرَ مَنْ يَطْلُبُ الشَّهَادَةَ حَيْثُ يَقُولُ لَهُ: أَنَا مَلَكْتُ الأَرْضَ الْفُلاَنِيَّةَ أَبًا عَنْ جَدٍّ، وَمِلْكُهَا ثَابِتٌ، وَأُرِيدُكَ تَشْهَدُ مَعِي أَنَّهَا مِلْكُنَا، أَوْ يَقُولُ لَهُ: إِنَّ الأَرْضَ لَيْسَتْ مِلْكًا لأَحَدٍ وَهِيَ أَرْضٌ بُورٌ وَشَهَادَتُكَ لاَ تَضُرُّ أَحَدًا؛ لأَنِّي إِنْ لَمْ آخُذْهَا أَخَذَهَا غَيْرِي، فَيَشْهَدُ بَعْضُ النَّاسِ ظَنًّا مِنْهُ أَنَّهُ لاَ يَضُرُّ أَحَدًا.
وَمَا عَلِمَ هَؤُلاَءِ أَنَّ الإِثْمَ هُنَا أَعْظَمُ؛ لأَنَّ هَذِهِ الأَرْضَ تَتَعَلَّقُ بِهَا حُقُوقُ النَّاسِ الَّذِينَ يَتَعَلَّقُونَ بِبَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ، فَمَا كَانَ مِنَ الأَرَاضِي يَخُصُّ الدَّوْلَةَ فَنَفْعُهُ عَامٌّ لِلنَّاسِ وَلِذَا عُقُوبَةُ الاِعْتِدَاءِ عَلَيْهِ أَعْظَمُ.
اللَّهُمَّ ثَبِّتْ قُلُوبَنَا عَلَى طَاعَتِكَ، وَامْلأْهَا بِخَوْفِكَ وَرَجَائِكَ وَمَحَبَّتِكَ وَالإِنَابَةِ إِلَيْكَ يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ.
أَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ؛ فَإِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:
الْحَمْدُ للهِ عَلَى إِحْسَانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوْفِيقِهِ وَامْتِنَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَلاَّ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ تَعْظِيمًا لِشَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الدَّاعِي إِلَى رِضْوانِهِ، صَلَّى اللهُ عَليْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَعْوَانِهِ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.
أَمَّا بَعْدُ: أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: وَكَمَا أَنَّ شَهَادَةَ الزُّورِ مَذْمُومَةٌ يَنْأَى عَنْهَا كُلُّ مَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ؛ فَشَهَادَةُ الْحَقِّ مَحْمُودَةٌ مَمْدُوحَةٌ؛ قَالَ -تَعَالَى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ)[النساء: 135]. وَقَالَ أَيْضًا: (وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ)[البقرة: 283]، وَقَالَ: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ)[البقرة: 140].
فَالشَّهَادَةُ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ شَهَادَةَ حَقٍّ وَعَدْلٍ؛ لِكَيْ تُضْمَنَ الْحُقُوقُ؛ فَإِنَّ التَّغْيِيرَ فِي الشَّهَادَةِ يُؤَدِّي إِلَى التَّغْيِيرِ فِي الْحُكْمِ، وَبِالتَّالِي ضَيَاعُ الْحُقُوقِ، وَاللهُ -تَعَالَى- أَمَرَ بِأَدَاءِ الْحُقُوقِ؛ فَفِي الْقَضَاءِ بَيْنَ الْمُتَخَاصِمَيْنِ؛ قَالَ -عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ-: "إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ، وَإِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ، وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ، فَأَقْضِي لَهُ عَلَى نَحْوِ مَا أَسْمَعُ؛ فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِحَقِّ أَخِيهِ، فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ"(متفق عليه).
فَاتَّقُوا اللهُ -تَعَالَى-، أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ، وَاحْذَرُوا الْوُقُوعَ بِهَذِهِ الْكَبِيرَةِ؛ وَمَنْ فَعَلَ فَعَلَيْهِ الْبَدَارُ بِالتَّوْبَةِ الصَّادِقَةِ، وَالرُّجُوعِ عَنْ شَهَادَتِهِ؛ وَلَوِ اضْطُرَّ إِلَى إِخْبَارِ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ بِالزُّورِ أَنَّهُ ظَلَمَهُ، وَإِنْ كَانَ لَهُ حَقٌّ أَرْجَعَهُ إِلَيْهِ، أَوْ يَطْلُبُ مِنْهُ الْمُسَامَحَةَ وَالْعَفْوَ قَبْلَ أَنْ لاَ يَكُونَ دِينَارٌ وَلاَ دِرْهَمٌ وَإِنَّمَا حَسَنَاتٌ وَسَيِّئَاتٌ.
هَذَا، وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُم كَمَا أَمَرَكُمْ بِذلِكَ رَبُّكُمْ، فَقَالَ: (إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب:56]، وَقَالَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلاةً وَاحِدَةً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا"(رَوَاهُ مُسْلِم).
التعليقات