عناصر الخطبة
1/ عموم رسالة الإسلام 2/ مقتضيات عموم الرسالة 3/ النصر للإسلام قادم لا محالةاهداف الخطبة
اقتباس
وبعد أن لحق الرسول -صلى الله عليه وسلم- بالرفيق الأعلى، أخذ خلفاؤه يمدُّون هذه الرسالة، ويوسعون دائرتها. ولْنعلمْ أن أسلافنا الأولين أتقنوا اللغة العالمية لتحقيق كل رسالة، واللغة العالمية التي يعرفها أهل الأرض -على اختلاف الألسنة والألوان- هي لغة الخُلق الفاضل، والمسلك العادل، والشرف العالي..
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين؛ وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، هو على كل شيء قدير. وأشهد أن محمداً رسول الله، الرحمة المهداة، والنعمة المسداة, والسراج المنير؛ اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وأصحابه والتابعين.
أما بعد: فإن حاجة العالم إلى الرسل حاجة مُلِحَّة، ما يستطيع الناس أن يستعينوا بعقولهم عن هدايات السماء. في عصرنا هذا تقدَّم العلم، وارتقى الفكر، ونضج العقل البشري، ووصل إلى آفاق رفيعة، ومع ذلك فإن الخلاف بين أولئك العقلاء عميق وواسع، ما يُعتبر فضيلة في شرق العالم، يعتبر رذيلة في غرب العالم!.
فإن كان العقل البشري المجرد تتفاوت أحكامه على هذا النحو في المعاملات المعتادة، وفي تقدير ما هو حق وباطل، فكيف يعتمد عليه، أو يوثق به وحده؟ لا بُدَّ للناس من رسل موفدون مِن قِبل الله -جل شأنه-؛ يشرحون للناس الحق، ويلهمونهم الرشد، ويقودونهم إلى الصراط المستقيم.
والله -عز وجل- رحمة منه بخلقه؛ بعث رسلاً كثيرين إلى الناس، بعض أولئك الرسل عرفنا أسماءهم، وبعضهم لم نعرف أسماءهم، ولكن أولئك الرسل ظهروا في تاريخ الإنسانية الماضي، كما تظهر النجوم في جوانب الليل الضارب، هذه النجوم ترسل أشعتها الهادية؛ ليستطيع الناس السري، وليضعوا خطواتهم في مواقع آمنة.
كان أولئك المرسلون الأولون يضيئون جوانب التاريخ البشري كمصابيحَ خافتةٍ تشع بقدر ما أوتيت من فضل الله وإمداده، حتى طلعت شمس محمد -صلى الله عليه وسلم- على العالم، فكان النهار الذي أغنى عن كل مصباح، وأطفأ كل شعلة. وكما قال شوقي:
لا تَذْكُر الكتُبَ السَّوالِفَ قَبْلَهُ *** طَلَعَ الصَّبَاحُ فَأُطْفِئَ القِنْدِيلَا
كان محمد -عليه الصلاة والسلام- الرسول الذي طلع صبحه على الكون فأنار به، وأوضح ما كان مبهماً أو غامضاً في أرجائه. إن هذا الإنسان الجليل هو الذي وضعه ربه في محراب الإمامة العامة لخلق الله في كل عصر وفي كل مصر، وأغني برسالته عن أن يجيء بعده أحد. كان الله قادراً على أن يبعث في كل بلد نبياً، ولكنه اكتفى برسول واحد للناس كافة: (وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً) [الفرقان:51]. ولو شئنا... لكنه -جل شأنه- غلَّق أبواب السموات فما ينزل ملَك بوحي بعد الرسالة الخاتمة؛ لأنه لن يقول جديدا! ماذا يصنع الوحي الجديد؟ لقد انتهت الهدايات كلها في هذا القرآن الكريم، وأودعت في صحائفه؛ ففيه جميع الأشفية والأدوية التي تصح بها الإنسانية، ما بقيت الأرض ومن عليها، فلا حاجة إلى جديد بعد ذلك.
الرسالة الأخيرة رسالة عامة، وعموم الرسالة الإسلامية جاءت بآيات وسنن، ومن الملاحظات الجديرة بالذكر أن كل ما نزل يفيد عموم الرسالة كان في العهد المكي! والجواب في أن العهد المكي كان عهد اختناق الدعوة، وعهد سجن من يؤمن بها، واضطهاده، ومنعه من الحركة والتنقل؛ في هذا العهد الذي كان الإسلام يعاني فيه من جبروت الوثنيين وضغطهم والبلاء الشديد، كان القرآن يتنزل أن هذه الرسالة ليست لقطر بعينه، ولكنها لأقطار الخلق جميعاً! ولو أن عموم الرسالة تنزلت به آيات في العهد المدني أو في أواخر أيام الرسالة لقال الناس: نبي نجح في أن يفرض نفسه على الجزيرة العربية؛ فأغراه النصر على قومه بأن ينتصر على الآخرين، وأن يوسع دائرة التبليغ، بعد أن ضمن الجنس الذي أرسل فيه!.
لكن العجب أن عالمية الدعوة تأكدت في سور مكية، ففي سورة القلم نقرأ قوله تعالى: (وَإِن يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ * وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ) [القلم:51-52]، وفي سورة الأنعام: (أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ، فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ) [الأنعام:90]، وفي هذه السورة نفسها: (وَأُوحِيَ إلى هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ...) [الأنعام:19].
أي: كل من بلغته آيات القرآن فهو منذر به، مكلف أن يفكر فيه، وأن يتأمل وأن يتدبر آياته، وأن ينتفع بها. هذا العموم للرسالة اقتضي أموراً حتى يصح، أول ما اقتضاه أن تكون المعجزات الشاهدة بصدق المبلِّغ عن الله ليست معجزات محلية، بل معجزات دائمة متجددة على مر العصور، والواقع أن القرآن الكريم هو المعجزة الكبرى للنبي -عليه الصلاة والسلام- لا يزال إلى يوم الناس هذا، وإلي الغد القريب والبعيد، وإلي امتداد الحضارة البشرية على ظهر الأرض، لا يزال القرآن الكتاب الفذ الذي يتحدث عن الله الحديث الصادق المقنع، الذي يشهد بما فيه من معارف، وتاريخ، ووصف للكون، وتأثير في النفس، وإعجاز في البيان؛ لا يزال هذا الكتاب معجزة العصور التي تتجدد مع تجدد الليل والنهار!!
يتبع هذا أن يكون الرسول الخاتم -عليه الصلاة والسلام- قد زود بما ينفع البشرية على امتداد تاريخها، وإلا قيل: لماذا تقيد البشرية بتفكير مضت عليه أربعة عشر قرناً؟ وهذا كلام يقوله الناس الذين يعرقلون مسيرة الإسلام، ويرسلون شبهات تافهة حوله.
والواقع أن القول بأن تبعية الناس لمحمد -عليه الصلاة والسلام-، واستمدادهم منه؛ عَود إلى الماضي، ولون من الرجعية، ووقف للتطور الإنساني، هذا القول من ناحية الشكل مردود، ومن ناحية الموضوع لابد أن نناقشه حتى نبين: لم كان الإسلام رسالة خالدة؟.
من ناحية الشكل مردود؛ لأن الإسلام أحدث الرسالات السماوية الموجودة الآن، فإن مضت على نبوته قرون أربعة عشر، بينما مضت على النبوات الإسرائيلية سبعون قرناً، فكيف يكون التمسك باليهودية تقدماً وارتقاءً وتجديداً؟! كيف يكون قيام دولةٍ لإسرائيل شيئاً في عالم الحضارات وفي منطق الدول الكبرى، كيف يكون هذا شيئاً لا بأس به، ولا حرج فيه، ولا يسمى عودة إلى الماضي، ولا رجعية إلى الخلف؟! مع أنه عودة إلى سبعين قرناً مضت! بينما يتهم الإسلام لأنه عودة إلى ألف سنة بأنه دعوة إلى التأخر والرجعية. هذا منطق من ناحية الشكل سخيف، لأنك تعتبر قيام إسرائيل حركة تقدمية، وتعتبر العودة إلى الإسلام حركة رجعية، هذا شيء سخيف. ومع هذا فقد قلت إن هذا رد شكلي!.
أما الرد الموضوعي فهو أنه يجب أن نعلم أن الإسلام ترجع صلاحيته إلى أصول فيه نحب أن يعرفها الناس. نسأل من يريد أن يعيش معاصراً، وأن يتمشى مع التطور، نسأله: ماذا تريد؟ فيقول: نخضع للعقل ونحتكم إليه. والجواب الذي يقوله هذا الشخص يجب أن نمسك به لنقول له: أنت بهذا تتبع الإسلام طوعاً أو كرهاً؛ فإن الإسلام من أسباب صلاحيته الأولى للسيطرة على العالم إلى قيام الساعة أنه دين جاء بيني اليقين على حركة العقل البشري بين الأشياء، والمواد، والخصائص والقوانين الكونية، وهو يقول للإنسان: لكي تؤمن بربك؛ تأمل فيما خلق: (فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ) [الطارق:5]، (فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ) [عبس:24]، (أَوَلَمْ يَنظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللّهُ مِن شَيْءٍ...) [الأعراف:185]. إن هذا النظر أو هذا العمل العقلي، هو الذي بنى عليه القرآن الكريم الإيمان بالله رب العالمين.
بل إن الله في هذا القرآن الكريم عرف نفسه للناس عن طريق حبس أبصارهم في ملكوته، وإرغامهم على أن يفكروا في نعمائه، وفي إبداعه، وفي مظاهر قدرته ونعمته، (اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِراً إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ) [غافر:61]، (اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَاراً، وَالسَّمَاء بِنَاء، وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ، وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ. ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ * هُوَ الْحَيُّ، لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ. الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) [غافر:64-65].
إن الإسلام جاء بأمور ليس لمر الزمن تأثير فيها، ولا دخل في حقائقها؛ وجاء بأمور تركها للزمن تتطور معه، وتتغير بارتقائه، وهذا شيء لابد أن نعرفه بدقة، فإن التطور لا يدخل كل شيء، إذا كانت العقائد قائمة على أن الله واحد، فهل وحدانية الله تتغير مع الزمن؟ الله الواحد من ألف قرن هو الواحد بعد ألف قرن! والتطور لا دخل له في العقائد! الأخلاق لا تخضع للتطور، العفة أو العدل أو العلم فضائل، فهل مرُّ الزمن سيجعل الجهل أو الظلم أو التشهي الحيواني المنطلق، هل سيجعل هذه فضائل؟ لا...
عندما يُعلن أن الجسد الإنساني يتسخ لعمل الغدد فيه ونشاط الأجهزة به، لأن الجو الذي يعيش فيه مترّب يكسو الجسد بالتراب، فهل تنظيف الجسد بالماء يُستغنى عنه لأن الزمن تطور؟ لابد من التنظيف، لابد من الوضوء.
هل العلاقة بين المخلوق والخالق، بين المرزوق والرازق، بين من يمد يده ليأخذ، ومن يبسط يده ليعطي، هل العلاقة بين القوي والضعيف، والقادر والعاجز، تتغير على مر الزمن؟! هل سيصبح الإله عبداً أو العبد إلهاً؟! ما دخل التطور في هذا؟.
سيبقى الناس، ماداموا يتخلقون أجنة في بطون أمهاتهم، سيبقون شاخصين لمن صوَّرهم وأحياهم شخوصَ العبد لسيده الذي أضفى عليه الحياة ومنحه الوجود. ما دخل التطور في أن يقف العبد بين يدي ربه ليقول له: الحمد لله رب العالمين؟ أو ليحني صلبه في ساحته ليقول له: سبحان ربي العظيم!؟ أو سبحان ربي الأعلى!؟ تلك حقائق لا معنى للمناقشة فيها، وليس للتطور العصري دخل فيها.
إنما يسمح الإسلام بالتطور في الوسائل التي تحقق مُثله، أو في الأساليب التي تبني قيمه، أو شؤون الدنيا التي تركت للبشر؛ قال صاحب الرسالة لهم: "أنتم أعلم بأمر دنياكم" رواه مسلم في الفضائل.
إن الرسل لم يجيئوا للناس كي يعلموهم الغزل والنسيج، لم يجيئوا للناس كي يعلموهم استخراج البترول وصناعته المواد المشتقة منه، إن هذا عمل الناس فليطوروه، وليبتكروا فيه، وليخترعوا ما أرادوه. ما دخل الدين في هذا؟.
الوسائل التي لم يتدخل الدين فيها هي -مثلاً- أمرك بالجهاد، والجهاد باللسان قد يكون خطابة، قد يكون ندوات، قد يكون إذاعات؛ الجهاد بالكتابة، قد يكون نشرات، قد يكون كتباً، قد يكون لافتات؛ الجهاد بالسلاح، قد يكون براً أو بحراً أو جواً.
الإسلام لا يتدخَّل في التطور عندما يكون التطور لا صلة له بحقائقه وأركانه التي رسمها وحدَّدها، وهو لم يرسم ولم يحدد إلا ما لا دخل للتطور فيه.
والقرآن الكريم كتاب، والسنة النبوية أيضاً كتاب، شرح وفصل، وعلى الناس أن يلتمسوا في هدايات السماء وحيا من الله، أو إلهاماً لنبيه -صلى الله عليه وسلم-، عليهم أن يلتمسوا في ذلك ما يصلح شؤونهم في كل زمان ومكان، وهم مطمئنون إلى أن الإسلام ظهير للعلم، ظهير للكفاح، ظهير للتطور المعقول، ظهير للنشاط الذي لابد منه؛ كي تبلغ الإنسانية ما تهفو إليه، وما تشتاق إليه من كمالات وتقدم. هذه حقيقة لابد منها، تعرف مع الرسالة الإسلامية التي استوعبت، وجمعت، والتي أحصت ما تحتاج البشرية إليه إحصاءً.
إلي جانب هذا التقدم العلمي -كما يرسمه الإسلام- نجد أن التقدم العلمي قد يقع فريسة للشهوات العارمة، والأهواء الجامحة، والغرائز المنطلقة؛ وهنا، بيِّن الإسلام للإنسان أن تقدمه رهين بعقل بعيد عن الخرافة، بين له كذلك أن تقدمه رهين بقلب نظيف من الهوى والشهوات الخسيسة، وأن على الإنسان أن يرتقي، أن يتزكى، أن يطهر نفسه، ويستحيل أن يهلمه الله الرشد إلا إذا سعى هو ليبلغ رشده.
ولذلك يقول الله: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَـكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ...) [الأعراف:175-176]، ولو شئنا لرفعناه بها! لو أنه ارتفع، لو أنه جاهد نفسه، لو أنه لبى أشواق الفطرة ونداءات الكمال في دمه وفي نفسه. وعندما يخلد امرؤ إلى الأرض، ويتبع هواه، فإن الله يتركه وشأنه، (قُلْ مَن كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدّاً * حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضْعَفُ جُنداً * وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى، وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ مَّرَدّاً) [مريم:75-77].
إن الحديث عن عالمية الإسلام يحتاج إلى التطرق لموضوعات كثيرة ما يمكن أن نوفي لها أو نؤدي حقها في ساعتنا هذه، فنكتفي بهذا القدر لكي نقول: إن أهل الإسلام الأولين عرفوا عالمية رسالتهم، وبدؤوا يتجاوبون مع مطالب هذه العالمية، بدأت تخطيطاً نظرياً في مكة المكرمة، فلما انتقل الإسلام إلى المدينة المنورة وكون بها مهجره العتيد، وأخذ المجتمع الإسلامي يتنفس في حرية؛ بدأ النبي -عليه الصلاة والسلام- يرسل كتبه إلى كل حاكم ذي شأن حوله، فأرسل إلى فارس، وإلي الروم، وإلي مصر، وإلي كل بلد يمكن أن يكون فيها من يفقه الدعوة، ومن يستطيع تلبية الرسالة.
وبعد أن لحق الرسول -صلى الله عليه وسلم- بالرفيق الأعلى، أخذ خلفاؤه يمدُّون هذه الرسالة، ويوسعون دائرتها. ولْنعلمْ أن أسلافنا الأولين أتقنوا اللغة العالمية لتحقيق كل رسالة، واللغة العالمية التي يعرفها أهل الأرض على اختلاف الألسنة والألوان هي لغة الخلق الفاضل، والمسلك العادل، والشرف العالي.
فكان المسلمون حيث تنقلوا يحطمون جبروت الاستعمار الذي وضع الأغلال في أعناق الخلق، كان المسلمون وهم يحطمون جبروت الاستعمار شرقاً وغرباً، كانوا متجردين لله، كانت حياتهم بعضهم مع البعض، وكانت مسالكهم مع الآخرين سبباً في أن جماهير هائلة دخلت في الإسلام متعصبة له، حانية عليه، مدافعة عنه؛ وما لبثت بعد قليل من الزمن حتى أصبحت هذه الأجناس التي دخلت في الإسلام هي التي تملك كراسي التدريس في الأمصار الإسلامية الكبرى!.
سأل هشام بن عبد الملك جلساءه: مَن فقيه البصرة؟ من فقيه الكوفة؟ من فقيه المدينة؟ من فقيه مصر؟ من فقيه الشام؟ فلم يجد إلا عربياً واحداً هو الأوزاعي في الشام! والباقون كانوا من الأجناس الأخرى التي دخلت في الإسلام، وبرزت في ثقافته، وتلقفت العلم من العرب كي تنشر الإسلام علماً إذا كانت قد عجزت أن تنشره عن طريق الحكم والخلافة والمناصب والوظائف!.
ومضت الرسالة الإسلامية إلى أن بلغت عهدنا الحالي بعد أربعة عشر قرناً. ستبقى رسالة الإسلام عالمية إلى قيام الساعة؛ وما أريد لفت النظر إليه، شيء يحتاج إلى لفت النظر حقاً، فإن بعض المتدينين الجهلة، أو بعض الشيوخ القاصرين، يدسون أصابعهم في كتب السنة، ويستخرجون أحاديث الفتن، وما يفهمونها، وما ينبغي أن يتحدثوا بها أو يرووها للناس، هذه الأحاديث، فهِم أولئك الناقلون منها أن أمر الدين سيموت أو ينتهي غريباً، وقع أولئك الجهلة على الأحاديث كما يقع الذباب على العسل، يوسخه وينال من قيمته، ومن الخير ذود هؤلاء الجهلة عن أحاديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فهم لا يعرفونها، ولا يحسنون روايتها، وما أكثر الجاهلين بالإسلام في عصرنا هذا! وما أيسر أن يمكن لهم! وأن يستمع الناس إليهم!.
يجب أن نعلم ما يأتي: أن الرسالة العالمية التي حمل لواءها محمد بن عبد الله -عليه الصلاة والسلام- ستبقى ما بقيت الحياة، ولابد أن تسيطر على القارات الخمس، وأن تنتشر أنوارها في أرجاء العالمين شرقاً وغرباً. من أين جئت بهذا؟ من الكتاب والسنة.
أما من الكتاب فإن الله جل شأنه يقول: (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) [التوبة:33]، ويقول: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) [النور:55-56].
ثم يقول: مهما كان الكفر قوياً، ومهما كانت أعداده كثيفة، ومهما كانت أسلحته ماضية، فلا تكترث لهذا كله، ولا تنزعج. (لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ) [النور:57]. لا تحسبنهم معجزين في الأرض، لن يغلبوا الله، لن يغلبوه!.
وشيء آخر أريد أن أقمع به المشتغلين بالقصص والحكايات والمرويات عن المسيح وأمه -عليهما الصلاة والسلام-، ففي قرآننا يقول الله لعيسى ابن مريم: (وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ...) [آل عمران:55]، ومعنى هذا أن عبودية البشر كافة للواحد القهار، وأن هذه العقيدة ظاهرة إلى يوم القيامة، وفوق غيرها! يقول -عليه الصلاة والسلام- في حديث طويل: "ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين، بعز عزيز، أو بذل ذليل، عزاً يعز الله به الإسلام، وذلا يذل الله به الكفر" رواه أحمد.
وفي حديث آخر يقول -عليه الصلاة والسلام-: "مثَل أمتي مثل المطر، لا يدري أوله خير أم آخره" رواه الترمذي. فهذه الأمة باقية. قد يسأل البعض: فما الأحاديث التي تتحدث عن غربة الإسلام وضعفه؟ والجواب: هي أحاديث وردت فعلاً، ولكن معناها أن الخط البياني لسير الإسلام خط متعرج لا يرتفع باستمرار، إنه يرتفع وينخفض، إن الإسلام بين مد وجزر، حتى في حياة نبيه -عليه الصلاة والسلام- فإن الذي نصر المسلمين في بدر هزمهم في أحد وقيل لهم: (وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ) [آل عمران:140]، وكذلك إلى قيام الساعة.
سننتصر وننهزم، وننتصر وننهزم، وسيكون الإسلام غريباً في بعض الأوقات ثم يأنس ويعتز ويقوى، ثم يستوحش لضعف الناصر، وقلة العالم، وجهل العامل، وما إلى ذلك! ثم تذهب هذه العلل، وتنقشع هذه الغمم، ويعود الإسلام قوياً عزيزاً، وهكذا إلى قيام الساعة؛ ولكن الكلمة الأخيرة للإسلام: (وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ...) [آل عمران:55].
هذا ما ينبغي أن يعرف، فإذا كان الإسلام تمر به أيام عجاف، وإذا كانت كلاب الأرض وذئابها تنال من المسلمين، فإن السبب ليس من غيرنا، فإن النبي -عليه الصلاة والسلام- يقول: "إن الله زوي لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوى لي منها، وأعطيت الكنزين الأحمر والأبيض، وإني سألت ربي لأمتي أن لا يهلكها بسنة بعامة، وأن لا يسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم، وإن ربي قال: يا محمد، إني إذا قضيت قضاء فإنه لا يرد، وإني أعطيتك لأمتك أن لا أهلكهم بسنة بعامة، ولا أسلط عليهم عدواً من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم ولو اجتمع عليهم من بأقطارها حتى يكون بعضهم يهلك بعضاً، ويسبي بعضهم بعضاً" رواه مسلم.
يعني رب العالمين يقول عليَّ عهد للأمة الإسلامية أنه لو اجتمع من في الأرض ضد المسلمين ما يستبيحون بيضتهم إلا إذا عادى المسلمون بعضهم بعضاً وأكل بعضهم بعضاً! والواقع أن أعداءنا ما يضربوننا بأيديهم قدر ما يضربوننا بأيدينا نحن! إن الفرقة بين العرب والمسلمين حقيقة موجودة، وستبقى هذه الفرقة حقيقة واقعة حتى يعود العرب إلى الإسلام، وحتى يعود المسلمون إلى الإسلام، وحتى تكون للقرآن مكانته العملية، وحتى تعود للسنة مكانتها التطبيقية ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله، أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله، (وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ * وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُم مِّن فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ) [الشورى:25–26].
وأشهد أن لا إله إلا الله الملك الحق المبين، وأشهد أن محمد رسول الله إمام الأنبياء وسيد المصلحين، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين.
أما بعد: فإنني أخشى على تقاليد الإسلام من كثرة إلحاح الصغار على تجاهلها ومحوها. في يوم ما جاء إلى هذا البلد رجل فرنسوي اسمه "سارتر" وهو رجل يعلن كفره بالله دون خجل، وكانت معه عشيقته! وعشيقته تعلن أن الزنا حق النساء دون حرج!.
وهذان الوغدان استطاعا في ظل مراكز القوة البائدة أن يقتحما الجامعات عندنا، وأن تدارس التقاليد الإسلامية التي ما كان يمكن في ظلها أن يدخل رجل مع عشيقته في مكان محترم، كيف هذا؟ رجل مع عشيقته؟ كلبان؟ كلب وكلبة؟ لكن الإجهاز على التقاليد الإسلامية وطمس المثل العليا كان هدفاً لبعض الناس، سود الله وجوههم!!.
هؤلاء لا يزالون يملكون الكلمة والتوجيه في الصحف، مات رسام شيوعي اسمه "بيكاسو" وضحكت وأنا أقرأ أنه ترك عشرين مليوناً من الجنيهات! قلت: سبحان الله! لو أن هذا الرجل من أهل الإسلام ومات وعنده عشرون مليوناً لأمسكوا بخناقة يسخرون منه ومن ثروته، وكيف احتجزها ولم يؤد حق الله فيها؟.
وطبعاً "بيكاسو" لم يتزوج لأنه لا يؤمن بالزواج، وله أولاد من حرام! ولكن هذا ينطلق بين الناس على أنه شيء عادي. أنا أريد من المسلمين أن يرمقوا هذا باحتقار. إننا نعلم كيف ننظر بإعجاب إلى الرجل الهندوكي الذي أذل المسلمين في باكستان!.
يجب أن تبدأ موجة من المعرفة، إن الثقافة جيش غير منظور، ويوم ينطلق المثقفون المسلمون بالعلم فإنهم يفعلون الكثير. أيها المسلمون! أدوا ما عليكم عن طريق المعرفة، ومع الزمن سننتصر، قلت لكم، إن المستقبل للإسلام، لا تصدقوا الجهَلة الذين يقولون لكم: إن غربة الإسلام ستجهز عليه، من هذه الغربة ستنبت الدولة الإسلامية التي تحارب الجاهلية، وتمحق الطواغيت، وتؤدي لله حقه في هذه الأرض.
"اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير واجعل الموت راحة لنا من كل شر ".
(رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) [الحشر:10].
عباد الله: (إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [النحل:90].
التعليقات