عناصر الخطبة
1/الاعتناء بنية العمل أهم من الاهتمام بالعمل نفسه 2/شروط قبول العبادة 3/علامات قبول العبادةاقتباس
فإذا عملت عملًا صالحًا فأتقنه، فإذا أتقنته حُقَّ لك أن تخاف ألا يتقبل منك، يقول أحد الصالحين: "من عمل الحسنة يحتاج إلى خوف أربعة أشياء -فما ظنك بمن يعمل السيئة؟-: أولها: خوف القبول؛ لأن...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً)[النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً)[الأحزاب:70-71]، أما بعد:
عباد الله: إن كل طاعة يؤديها المسلم تتكون من أجزاء لا بد أن تتكامل لتصير عبادة معتبرة؛ الأول عبارة عن نيةٍ التعبد والتي يجب أن تكون صحيحة، ثم الثاني عملٌ صالح يجب أن يكون مشروعًا، ثم الثالث هو الدعاء بالقبول.
أيها المسلمون: إن قبول العمل أخطر وأهم من العمل نفسه؛ فكثيرٌ الذين يعملون وقليل من يتقبلون؛ فابني آدم تقرب كل منهم إلى الله بقربان، ولكن تقبل الله من أحدهما دون الآخر؛ كما قال ربنا -سبحانه-: (فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ)[المائدة:27] وقد قال علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-: "كونوا لقبول العمل أشد اهتمامًا منكم بالعمل؛ ألم تسمعوا الله -عز وجل- يقول: (إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ)[المائدة: 27]".
وعن فضالة بن عبيد قال: "لأن أكون أعلم أن الله قد تقبل مني مثقال حبة من خردل أحب إلي من الدنيا وما فيها؛ لأن الله يقول: (إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ)"، وهنا يقرر مالك ابن دينار قائلًا: "الخوف على العمل أن لا يتقبل أشد من العمل"، وهذا عبد العزيز بن أبي رواد يحدِّث عن الصحابة الأطهار أنفسهم فيقول: "أدركتهم يجتهدون في العمل الصالح، فإذا فعلوه وقع عليهم الهم؛ أيقبل منهم أم لا؟!".
فإذا عملت عملًا صالحًا فأتقنه، فإذا أتقنته حُقَّ لك أن تخاف ألا يتقبل منك، يقول أحد الصالحين: "من عمل الحسنة يحتاج إلى خوف أربعة أشياء -فما ظنك بمن يعمل السيئة؟-: أولها: خوف القبول؛ لأن الله -تعالى- قال: (إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ)[المائدة: 27].
والثاني: خوف الرياء؛ لأن الله -تعالى- قال: (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ)[البينة: 5].
والثالث: خوف التسليم والحفظ؛ لأن الله -تعالى- قال: (مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا)[الأنعام: 160]؛ فاشترط المجيء بها إلى دار الآخرة.
والرابع: خوف الخذلان في الطاعة، لأنه لا يدري أنه هل يوفق لها أم لا لقول الله -تعالى-: (وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ)[هود: 88]".
فإن المرء ليخاف أن يصادفه مانع من موانع القبول هذه فتحرمه أن يتقبل الله -عز وجل- عمله!
أيها المسلمون: وإن أول شروط قبول العمل الصالح هو: الإسلام؛ فإنه لا يُقبل من كافر عمل أبدًا، قال -تعالى-: (وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ)[المائدة: 5]، وقال -عز من قائل-: (وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ)[التوبة: 154].
ومهما عمل الكافر من أعمال صالحة فإن الله يكافئه بها كلها في دنياه؛ كي لا يبقى له عند الله شيء؛ فعن أنس بن مالك قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله لا يظلم مؤمنًا حسنة؛ يُعطى بها في الدنيا ويجزى بها في الآخرة، وأما الكافر فيطعم بحسنات ما عمل بها لله في الدنيا، حتى إذا أفضى إلى الآخرة، لم تكن له حسنة يجزى بها"(رواه مسلم).
ولقد سألت عائشة زوجها -صلى الله عليه وسلم- فقالت: يا رسول الله، ابن جدعان كان في الجاهلية يصل الرحم، ويطعم المسكين؛ فهل ذاك نافعه؟ قال: "لا ينفعه؛ إنه لم يقل يومًا: رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين"(رواه مسلم)، وهذا العاص بن وائل أوصى أن يعتق عنه مائة رقبة -وقد مات كافرًا-، فأعتق ابنه هشام خمسين رقبة، فأراد ابنه عمرو أن يعتق عنه الخمسين الباقية، فقال: حتى أسأل رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فأتى النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقال: يا رسول الله إن أبي أوصى بعتق مائة رقبة، وإن هشامًا أعتق عنه خمسين وبقيت عليه خمسون رقبة، أفأعتق عنه؟ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إنه لو كان مسلمًا فأعتقتم عنه أو تصدقتم عنه أو حججتم عنه بلغه ذلك"(رواه أبو داود)، أما وقد مات كافرًا فلن يتقبل منه!
فإن أسلم الكافر لم تضع أعماله التي عملها أثناء كفره، بل يجزيه الله -تعالى- بها في الدنيا والآخرة؛ فعن حكيم بن حزام -رضي الله عنه- قال: قلت: يا رسول الله، أرأيت أشياء كنت أتحنث بها في الجاهلية من صدقة أو عتاقة، وصلة رحم؛ فهل فيها من أجر؟ فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أسلمت على ما سلف من خير"(متفق عليه).
عباد الله: وإن الشرط الثاني لقبول العمل الصالح هو: أن يكون خالصًا لوجه الله -تعالى-؛ فقد اشترط الله شرطًا في العبادة ليتقبلها فقال -عز من قائل-: (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ)[البينة: 5]، وقال سبحانه وتعالى: (فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ)[الزمر:2].
أما من قل إخلاصه أو انعدم فأشرك مع الله غيره؛ فإن الله -عز وجل- يرد عمله ولا يقبله، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "قال الله -تبارك وتعالى-: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملًا أشرك فيه معي غيري، تركته وشركه"(رواه مسلم)؛ فعمله كله حابط -والعياذ بالله-، قال -تعالى-: (وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا)[الفرقان: ٢٣].
بل إن هذه الأعمال التي أُشرك فيها مع الله سواه تكون وبالًا على أصحابها يوم القيامة؛ فعن أبي هريرة أنه سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إن أول الناس يقضى يوم القيامة عليه رجل استشهد، فأتي به فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: قاتلت فيك حتى استشهدت، قال: كذبت، ولكنك قاتلت لأن يقال: جريء، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار، ورجل تعلم العلم، وعلمه وقرأ القرآن، فأتي به فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: تعلمت العلم، وعلمته وقرأت فيك القرآن، قال: كذبت، ولكنك تعلمت العلم ليقال: عالم، وقرأت القرآن ليقال: هو قارئ، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار، ورجل وسع الله عليه، وأعطاه من أصناف المال كله، فأتي به فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيها إلا أنفقت فيها لك، قال: كذبت، ولكنك فعلت ليقال: هو جواد، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه، ثم ألقي في النار"(رواه مسلم)؛ فهؤلاء الثلاثة كانت أعمالهم التي راءوا فيها سببًا في دخولهم النار -والعياذ بالله-.
أيها المؤمنون: أما الشرط الثالث لقبول الأعمال الصالحات فهو: متابعة الرسول -صلى الله عليه وسلم-؛ وذلك بأن يكون العمل موافقًا لسنته -صلى الله عليه وسلم-، قال الله -عز وجل-: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا)[الحشر: 7].
وقد وجهنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في مواضع كثيرة أن نتبعه في العبادة؛ فعن الصلاة قال -صلى الله عليه وسلم-: "صلوا كما رأيتموني أصلي"(البخاري)، وعن الحج قال -صلى الله عليه وسلم-: "لتأخذوا مناسككم، فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد حجتي هذه"(رواه مسلم).
وكل عمل فعله صاحبه فخالف فيه سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فهو مردود مرفوض غير مقبول؛ فعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس فيه، فهو رد"، وفي لفظ: "من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد"(متفق عليه).
اللهم تقبل منا سائر الطاعات وارزقنا الإخلاص في القول والعمل.
قلت ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد:
أيها المسلمون: وإن لقبول الأعمال الصالحات علامات كثيرة، نذكر منها ما يلي:
العلامة الأولى: المداومة وعدم الانقطاع، وقد قالوا -وصدقوا-: "ما كان لله دام واتصل، وما كان لغير الله انقطع وانفصل"، وتروي عائشة عن سيد المخلصين فتقول: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا عمل عملًا أثبته"(رواه مسلم)، وتقول: " وكان أحب الدين إليه ما داوم عليه صاحبه"(متفق عليه).
العلامة الثانية: استصغار العمل، وهذه من علامات المخلصين المقبولين؛ فإن الإنسان مهما أتقن العمل وجمله فهو كله منة عليه من ربه -تعالى- الذي لولاه لما قدر على فِعْلِه، أو فَعَلَه ولم يتقنه ويحسنه، يقول ابن القيم: "وكلما شهدت حقيقة الربوبية وحقيقة العبودية، وعرفت الله، وعرفت النفس، وتبين لك أن ما معك من البضاعة لا يصلح للملك الحق، ولو جئت بعمل الثقلين خشيت عاقبته وإنما يقبله بكرمه وجوده وتفضله، ويثيبك عليه أيضا بكرمه وجوده وتفضله".
العلامة الثالثة: زيادة الإخبات والتواضع وعدم التكبر بالطاعة؛ فما تكبر بالطاعة مقبول، بل إن من علامات القبول أن يزداد الإنسان تواضعًا كلما ازداد طاعة وعبادة؛ فقد ذكر الله -عز وجل- في أول صفات عباد الرحمن المقبولين: (وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا)[الفرقان: 63].
فمن وجد هذه العلامات في نفسه وفي عمله فليستبشر خيرًا فإنه -إن شاء الله تعالى- من المقبولين، ومن وجد غير ذلك فليحذر وليراجع عمله ولينقه من شوائبه وليتحرى فيه متابعة الرسول -صلى الله عليه وسلم-.
اللهم اجعلنا عندك من المقبولين الذين تتقبل عنهم أحسن ما عملوا وتتجاوز عن سيئاتهم.
هذا وصلوا وسلموا على خير البرية، فقد أمركم الله تعالى في كتابه بقوله: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب:56].
التعليقات