سماحة الشيخ محمد بن صالح العثيمين
عَنْ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ أُمِّ عَبْدِاللهِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَغْزُو جَيْشٌ الْكَعْبَةَ، فَإِذَا كَانُوا بِبَيْدَاءَ مِنَ الْأَرْضِ يُخْسَفُ بِأَوَّلِهِمْ وَآخِرِهِمْ»، قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ يُخْسَفُ بِأَوَّلِهِمْ وَآخِرِهِمْ، وَفِيهِمْ أَسْوَاقُهُمْ، وَمَنْ لَيْسَ مِنْهُمْ؟ قَالَ: «يُخْسَفُ بِأَوَّلِهِمْ وَآخِرِهِمْ، ثُمَّ يُبْعَثُونَ عَلَى نِيَّاتِهِمْ»؛ متفق عليه، هذا لفظ البخاري.
قال العلامة ابن عثيمين رحمه الله:
ذَكَرَ المؤلِّفُ حديثَ عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أنه يغزو جيش الكعبة؛ الكعبة المُشَرَّفة حماها الله، وأنقذها من كل شَرٍّ.
هذه الكعبة هي بيت الله؛ بناه إبراهيم، وابنه إسماعيل عليهما الصلاة والسلام، وكانا يرفعان القواعد من البيت ويقولان: ﴿ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾ [البقرة: 127].
هذا البيت أراد أبرهة أن يغزوه من اليمن، فغزاه بجيش عظيم في مُقَدِّمته فيل عظيم؛ يريد أن يهدم به الكعبة، بيتَ الله؛ فلما قَرُبَ من الكعبة، ووصل إلى مكان يُقال له المُغَمَّس حَرَنَ الفيلُ، وأبى أن يتقدَّم، فجعلوا ينهرونه؛ ليتقدم إلى الكعبة، فأبى، فإذا صرفوه نحو اليمن هرول وأسرع؛ ولهذا قال الرسول عليه الصلاة والسلام في غزوة الحديبة، لَمَّا أنَّ ناقته حَرَنَتْ، وبركت من غير عِلَّة؛ قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «مَا خَلَأَتِ الْقَصْوَاءُ، وَمَا ذَاكَ لَهَا بِخُلُقٍ»، فالنبي عليه الصلاة والسلام يدافع عن بهيمة؛ لأن الظلم لا ينبغي ولو على البهائم؛ «مَا خَلَأَتِ الْقَصْوَاءُ، وَمَا ذَاكَ لَهَا بِخُلُقٍ - أي: عادة - وَلَكِنْ حَبَسَهَا حَابِسُ الْفِيلِ - وحابس الفيل: هو الرب سبحانه وتعالى - وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يَسْأَلُونِي خُطَّةً يُعَظِّمُونَ فِيهَا حُرُمَاتِ اللهِ إِلَّا أَعْطَيْتُهُمْ إِيَّاهَا».
المهم أنَّ الكعبة غُزِيَت مِن قِبَلِ اليمن، في جيش عظيم، يقوده هذا الفيل العظيم؛ ليهدم الكعبة، فلما وصلوا إلي المُغَمَّس أبى الفيل أن يمشي، وَحَرَنَ، فانتهروه، ولكن لا فائدة، فبقوا هناك، وانحبسوا؛ فأرسل الله عليهم طيرًا أبابيل، والأبابيل: يعني الجماعات الكثيرة من الطيور، وكل طير يحمل حجرًا قد أمسكه بِرِجْلِه، ثم يرسله على الواحد منهم، حتى يضربه مع هامته ويخرج إلى دبره، ﴿ فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ ﴾ [الفيل: 5]؛ كأنهم زرع أكلته البهائم، وأندَكُّوا في الأرض، وفي هذا يقول أمية بن الصلت:
حُبِسَ الْفِيلُ فِي الْمُغَمَّسِ *** حَتَّى ظَلَّ يَحْبُو كَأَنَّهُ مَعْقُورُ
فحمى اللهُ عَزَّ وجَلَّ بيتَه من كيد هذا الملك الظالم الذي جاء ليهدم بيت الله، وقد قال الله عزَّ وجَلَّ: ﴿ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾ [الحج: 25].
في آخر الزمان يغزو قوم الكعبة، جيش عظيم.
وقوله: «حَتَّى إِذَا كَانُوا بِبَيْدَاءَ مِنَ الْأَرْضِ»؛ أي: بأرضٍ واسعة مُتَّسعة، «خَسَفَ اللهُ بِأَوَّلِهِمْ وَآخِرِهِمْ»؛ خُسِفَت بهم الأرض، وساخوا فيها هم وأسواقهم، وكُلُّ مَن معهم.
وفي هذا دليل على أنهم جيش عظيم؛ لأن معهم أسواقهم؛ للبيع والشراء وغير ذلك؛ فَيَخْسِفُ الله بأولهم وآخرهم.
لَمَّا قال الرسول صلى الله عليه وسلم هذا، ورَدَ على خاطر عائشة رضي الله عنها سؤال، فقالت: يا رسول الله، كيف يُخْسَف بأولهم وآخرهم، وفيهم أسواقهم، ومَن ليس منهم؟»؛ أسوأقهم: الذين جاؤوا للبيع والشراء، ليس لهم قصدٌ سيئ في غزو الكعبة، وفيهم أُنَاس ليسوا منهم؛ تبعوهم من غير أن يعلموا بِخُطَّتِهِم، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: «يُخْسَفُ بِأَوَّلِهِمْ وَآخِرِهِمْ، وَأَسْوَاقِهِمْ وَمَنْ لَيْسَ مِنْهُمْ، ثُمَّ يُبْعَثُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى نِيَّاتِهِمْ»؛ كُلٌّ له ما نوى.
هذا فَرْدٌ من أفراد قول الرسول عليه الصلاة والسلام: «إنَّما الأَعمالُ بالنِّيَّاتِ، وإِنَّمَا لِكُلِّ امرئٍ مَا نَوَى».
وفي هذا الحديث عِبرة: أنَّ مَن شارك أهلَ الباطل، وأهلَ البغي والعدوان؛ فإنه يكون معهم في العقوبة؛ الصالح والطالح، العقوبة إذا وقعت تَعُمُّ الصالح والطالح، والبَرَّ والفاجر، والمؤمن والكافر، والمصلي والمستكبر، ولا تترك أحدًا، ثم يوم القيامة يُبْعَثون على نيَّاتهم؛ يقول الله عزَّ وجلَّ: ﴿ وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾ [الأنفال: 25]؛ والشاهد من هذا الحديث: قولُ الرسول صلى الله عليه وسلم: «ثُمَّ يُبْعَثُونَ عَلَى نِيَّاتِهِمْ»؛ فهو كقوله: «إنَّما الأَعمالُ بالنِّيَّاتِ، وإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى».
المصدر: « شرح رياض الصالحين »
التعليقات