عناصر الخطبة
1/ خبر إسلامه وتحمله الأذى 2/ ملازمته لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- 3/ سعة علمه -رضي الله عنه- 4/ أحد أئمة القرآن 5/ تعظيمه للكتاب والسنة 6/ حرصه على جمع الكلمة والطاعة 7/ من أقواله المأثورة 8/ تواضعه -رضي الله عنه- 9/ ثناء السلف الصالح عليهاهداف الخطبة
اقتباس
وهذه سيرة أحدهم، هاجر الهجرتين، وصلى إلى القبلتين، وشهد المشاهد مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وهو الذي أجهز على أبي جهل، وبايع بيعة الرضوان، وشهد له رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالجنة، وكان من السابقين إلى الإسلام؛ حتى قال: "لقد رأيتني سادس ستة وما على ظهر الأرض من مسلم غيرنا"، ذلكم هو أبو عبد الرحمن الهذلي عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه وأرضاه-.
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) [النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً) [الأحزاب:70-71].
أما بعد: فبذكر أخبار الصالحين تستروح القلوب المؤمنة، وتبصر الحقَّ أعينٌ غشيها الباطل، وتستبين الطريق أقوام أضلته، وتلحق بالركب فئام تخلفت عنه، فذكر الصالحين يُعطر المجالس، ويُطِرب الأسماع، ولاسيما إذا كانوا من الصحب الكرام؛ إذ هم قدوتنا.
وهذه سيرة أحدهم، هاجر الهجرتين، وصلى إلى القبلتين، وشهد المشاهد مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وهو الذي أجهز على أبي جهل، وبايع بيعة الرضوان، وشهد له رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالجنة، وكان من السابقين إلى الإسلام؛ حتى قال: "لقد رأيتني سادس ستة وما على ظهر الأرض من مسلم غيرنا"، ذلكم هو أبو عبد الرحمن الهذلي عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه وأرضاه-.
يحكي خبر إسلامه فيقول: "كنت أرعى غنمًا لعقبة بن أبي مُعْيط، فمرّ بي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: "يا غلام: هل من لبن؟!" قلت: نعم؛ ولكني مؤتمن، قال: "فهل من شاة لم ينزُ عليها الفحل؟!"، فأتيته بشاة، فمسح ضِرْعَها فنزل لبن، فحلب في إناءٍ فشرب وسقى أبا بكر ثم قال للضرع: "اقلص"، فقلص، ثم أتيته بعد هذا فقلت: يا رسول الله: علمني من هذا القول، فمسح رأسي، وقال: "يرحمك الله؛ إنك غُليِّم معلَّم". أخرجه أحمد.
كان -رضي الله عنه- يُعَدُّ من ضعفة الناس ومساكينهم، ومع ذلك تحمل الأذى وأسلم، قال سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه-: "كنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ستة نفر، فقال المشركون: اطرد هؤلاء عنك فلا يجترئون علينا. وكنت أنا وابن مسعود وبلالٌ ورجلٌ من هذيل وآخران، فأنزل الله: (وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ * وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ) [الأنعام:52-53]". أخرجه مسلم.
وعلى الرغم من ضعفه في جسده وعشيرته فإنه كان قوي الإيمان، ثابت الجنان، يتحدى المشركين بكل إباءٍ وعزة.
قال عروة بن الزبير: "كان أول من جهر بالقرآن بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بمكة عبد الله بن مسعود"، قال: "اجتمع يومًا أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقالوا: والله ما سمعت قريش هذا القرآن يُجهر لها به قط، فَمَنْ رجل يسمعهموه؟! قال عبد الله بن مسعود: أنا، قالوا: إنا نخشاهم عليك، إنما نريد رجلاً له عشيرة يمنعونه من القوم إن أرادوه، قال: دعوني فإن الله -عز وجل- سيمنعني".
قال: فغدا ابن مسعود حتى أتى المقام في الضحى وقريش في أنديتها، فقام عند المقام ثم قال: "بسم الله الرحمن الرحيم: رافعًا صوته: (الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ) [الرحمن:1-2]، قال: ثم استقبلها يقرأ فيها. قال: وتأملوا فجعلوا يقولون: ما يقول ابنُ أم عبد، قال: ثم قالوا: إنه ليتلو بعض ما جاء به محمد. فقاموا إليه فجعلوا يضربون في وجهه، وجعل يقرأ حتى بلغ منها ما شاء الله أن يبلغ، ثم انصرف إلى أصحابه وقد أثَّروا في وجهه فقالوا: هذا الذي خشينا عليك، قال: ما كان أعداءُ الله أهونَ عليّ منهم الآن، ولئن شئتم لأغدينهم بمثلها، قالوا: حسبك، فقد أسمعتهم ما يكرهون". أخرجه أحمد.
كان -رضي الله عنه- كثير الاختلاف إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، وكان في السفر يعتني بفراش رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وسواكه ونعليه وطهوره، حتى من كثرة اختلافه إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يُظنُ أنه من أهل بيته، قال أبو موسى الأشعري -رضي الله عنه-: "قدمت أنا وأخي من اليمن، فمكثنا حينًا ما نرى إلا أن عبد الله بن مسعود رجل من أهل بيت النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ لما نرى من دخوله ودخول أمه على النبي -صلى الله عليه وسلم-".
وقال أبو الدرداء لعلقمة لما قدم عليه: "أوليس عندكم ابنُ أم عبد صاحبُ النعلين والوسادةِ والمطهرةِ".
وبسبب هذه الملازمة أخذ ابن مسعود الهدي والسمت من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى كان يُشبَّه به، قال حذيفة بن اليمان -رضي الله عنهما-: "إن أشبه الناس هديًا وسمتًا ودلاًّ بمحمد -صلى الله عليه وسلم- عبدُ الله بن مسعود من حين يخرج إلى حين يرجع، فما أدري ما في بيته، ولقد علم المحفوظون من أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم- أن ابنَ أم عبد من أقربهم وسيلة عند الله يوم القيامة". صححه الترمذي والحاكم والذهبي.
ولقد أخذ القرآن عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى كان عالمًا به، من كبار من يؤخذ عنهم القرآن من الصحابة؛ بل جعله النبي -صلى الله عليه وسلم- في مقدمة القراء؛ روى عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "خذوا القرآن من أربعة: من ابن مسعود، وأُبي بن كعب، ومعاذ بن جبل، وسالم مولى أبي حذيفة". قال عبد الله بن عمرو في ابن مسعود: "لا أزال أحبه بعدما رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بدأ به".
ويبين مدى علمِه بكتاب الله فيقول -رضي الله عنه-: "والله الذي لا إله غيره، ما أنزلت سورة من كتاب الله إلا أنا أعلم أين نزلت، ولا أنزلت آية من كتاب الله إلا أنا أعلم فيمن نزلت، ولو أعلمُ أحدًا أعلمَ مني بكتاب الله تبلغه الإبل لركبت إليه". أخرجه الشيخان.
ولهذا كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يحب سماع القرآن من ابن مسعود -رضي الله عنه- حتى قال له يومًا: "اقرأ عليَّ القرآن"، قال: قلت: يا رسول الله: أقرأ عليك وعليك أنزل؟! قال: "إني أشتهي أن أسمعه من غيري"، فقرأت عليه سورة النساء حتى بلغت: (فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً) [النساء:41]، فغمزني َرجلَه؛ فإذا عيناه تذرفان". متفق عليه.
وقال علقمة: "جاء رجل إلى عمر فقال: إني جئتك من عند رجل يملي المصاحف عن ظهر قلب؛ ففزع عمر، فقال: ويحك! انظر ما تقول، وغضب، فقال: ما جئتك إلا بالحق، قال: من هو؟! قال: عبدُ الله بن مسعود، فقال: ما أعلم أحدًا أحقَّ بذلك منه، وسأحدثك عن عبد الله: إنا سمرنا ليلة في بيت أبي بكر في بعض ما يكون من حاجة النبي -صلى الله عليه وسلم-، ثم خرجنا ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- بيني وبين أبي بكر، فلما انتهينا إلى المسجد إذا رجل يقرأ، فقام النبي -صلى الله عليه وسلم- يستمع إليه فقلت: يا رسول الله، أعْتَمتْ، فغمزني بيده: اسكت، فقرأ وركع وسجد، وجلس يدعو ويستغفر، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "سل تعطه"، ثم قال: "من سرَّه أن يقرأ القرآن رطبًا كما أنزل فليقرأ قراءة ابن أم عبد"، فعلمت أنا وصاحبي أنه عبد الله، فلما أصبحت غدوت إليه لأبشره، فقال: سبقك بها أبو بكر، وما سابقته إلى خير قط إلا سبقني إليه". أخرجه أبو نعيم وأحمد بنحوه.
كان -رضي الله عنه- تلاّءً للقرآن، يحيي به ليله كما روى عون بن عبد الله عن أخيه عبيد الله قال: "كان عبد الله إذا هدأت العيون قام، فسمعت له دويًّا كدوي النحل".
وقد بلغ ابن مسعود عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- منزلة عظيمة، وتبوأ مكانًا عاليًا حتى قال -عليه الصلاة والسلام- في حقه: "رضيت لأمتي ما رضي لها ابن أم عبد". أخرجه الحاكم مرسلاً ومسندًا، وصححه ووافقه الذهبي.
وما نال تلك المنزلة إلا لأنه كان معظمًا لله تعالى، معظمًا لكتابه، محتفيًا بسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، يرتعد عند التحديث بها.
روى الإمام أحمد بإسناد إلى مسروق قال: "حدثنا عبد الله يومًا فقال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فرَعُد حتى رَعُدت ثيابه، ثم قال: نحو ذا أو شبيهًا بذا".
وقال عمرو بن ميمون: "كان عبد الله تأتي السنة لا يحدث عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فحدث ذات يوم عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بحديث فعلقه كآبة، وجعل العرق يتحادر على جبهته ويقول: "نحو هذا أو قريبًا من هذا". أخرجه الحاكم وصححه.
وكان -رضي الله عنه- فقيهًا عالمًا بالفرائض، اسْتُفْتيَ أبو موسى الأشعري في المواريث فأخطأ فصوبه ابن مسعود فقال أبو موسى: "لا تسألوني ما دام هذا الحبر فيكم". أخرجه البخاري. ولذلك كان أبو موسى -رضي الله عنه- يقول: "مجلسٌ كنت أجالسه ابن مسعود أوثقُ في نفسي من عمل سنة".
وقد شهد له أكابر الصحابة بالعلم كعمر بن الخطاب -رضي الله عنه-؛ قال زيد بن وهب: "إني جالس مع عمر بن الخطاب إذ جاء ابن مسعود، فكاد الجلوس يوارونه من قصره، فضحك عمر حين رآه، فجعل عمر يكلمه، وتهلل وجهه، ويضاحكه وهو قائم عليه، ثم ولّى فأتبعه عمر بصره حتى توارى، فقال: كُنيفٌ مُلِئَ علمًا". أي: وعاءٌ ملئ علمًا.
وأثنى عليه علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-؛ فمما قال فيه: "قرأ القرآن وأحلّ حلاله، وحرم حرامه، فقيهٌ في الدين، عالم بالسنة".
وشهد له النبي -صلى الله عليه وسلم- بأن موازينه تثقل به يوم القيامة رغم أنه كان قصيرًا خفيف اللحم، قال علي بن أبي طالب: "أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ابن مسعود فصعد شجرة يأتيه منها بشيء، فنظر أصحابه إلى ساق عبد الله فضحكوا من حموشة ساقيه، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "مم تضحكون؟! لَرِجلُ عبد الله أثقلُ في الميزان يوم القيامة من أحد". أخرجه أحمد.
كان -رضي الله عنه- حريصًا على جمع الكلمة، ملتزمًا السمع والطاعة في عسره ويسره، ومنشطه ومكرهه، بعيدًا عن الفتنةِ وأهلها مع أنه كان متبوعًا في الدين، إمامًا للناس، له أتباعٌ يأتمرون بأمره، وينتهون بنهيه.
وكان بينه وبين عثمان -رضي الله عنه- خلاف في مسائل، فبعث إليه عثمانُ يأمره بالمجيء من الكوفة إلى المدينة، فاجتمع إليه الناس فقالوا: "أقم فلا تخرج ونحن نمنعك أن يصل إليك شيء تكرهه"، فقال: "إن له عليَّ طاعة، وإنها ستكون أمور وفتن لا أحب أن أكون أولَ من فتحها، فردَّ الناسَ وخرج إليه".
فرضي الله عنه وعن عثمان وعن الصحابة أجمعين، ما أقوى إيمانهم، وما أشد اتباعهم، وما أعظم تحريهم للحق!!
كان الواحد منهم ينتصر للحق لا لنفسه؛ فكان الخلاف بينهم محمودًا، لأنه خلافٌ سببه اجتهادٌ في الوصول إلى الحق، وليس خلافًا في إثبات الرأي، وانتصار النفس ولو كان على حساب الحق والدليل كما في كثير من خلاف الخلوف المتأخرين.
فاللهم أرنا الحق حقًّا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله حمدًا طيبًا كثيرًا مباركًا كما يحب ربنا ويرضى، أحمده وأشكره وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله وسلم عليه وآله وصحبه ومن سار على نهجهم واقتفى أثرهم إلى يوم الدين.
أما بعد:
فلقد كان لهذا الصحابي الجليل أقوال ومأثورات تدل على أنه أوتي علمًا وحكمة، كما تظهر مدى زهده في الدنيا، وإيثاره الآخرة عليها، فمن أقواله -رضي الله عنه-: "من أراد الآخرة أضرّ بالدنيا، ومن أراد الدنيا أضرَ بالآخرة، يا قوم فاضربوا بالفاني للباقي".
وقال -رضي الله عنه-: "ارض بما قسم الله تكن من أغنى الناس، واجتنب المحارم تكن من أورع الناس، وأدِّ ما افترض عليك تكن من أعبد الناس".
وكان -رضي الله عنه- يبغض المنافقين ويقول: "جاهدوا المنافقين بأيديكم، فإن لم تستطيعوا فبألسنتكم، فإن لم تستطيعوا إلا أن تَكْفَهِرُّوا في وجوههم فافعلوا".
ما أحوجنا في هذا العصر مع انتشار النفاق وكثرة المنافقين أن ننكر عليهم، ونجاهدهم، ونسأل الله تعالى أن يفضحهم، ويظهر عوراتهم للناس؛ فذلك من الولاء لله تعالى ولرسوله -صلى الله عليه وسلم- ولدينه، كما أن فيه اقتفاءً لأثر الصحابة -رضي الله عنهم-.
أيها الإخوة: ومع هذه المكانة والمنزلة لهذا الإمام الكبير؛ إذ كان من السابقين والمجاهدين، والعلماء العاملين، فإنه كان مزريًا بنفسه، متواضعًا لله تعالى، حذرًا أن يداخله كِبْرٌ أو عُجْبٌ، فكان يقول: "لو تعلمون ذنوبي ما وطئ عقبي رجلان، ولحثيتم على رأسي التراب، ولوددت أن الله غفر لي ذنبًا من ذنوبي، وأني دُعيت عبدَ الله بنَ روثة".
جاء في سيرته -رضي الله عنه- أنه مرض فعاده عثمان وقال: "ما تشتكي؟! قال: ذنوبي، قال: فما تشتهي؟! قال: رحمةَ ربي، قال: ألا آمر لك بطبيب؟! قال: الطبيبُ أمرضني، قال: آلا أمر لك بعطاء؟! قال: لا حاجة لي فيه".
عاش بضعًا وستين سنة، وتوفي سنة ثلاث وثلاثين، وأوصى أن يصلي عليه الزبير بن العوام، وجاء نعيه إلى أبي الدرداء فقال: "ما ترك بعده مثله". صححه الحافظ.
وقال أبو وائل: "ما أعدلُ بابن مسعود أحدًا"، وقال الأعمش: "كان شقيقٌ يذكر صحابة النبي -صلى الله عليه وسلم-، فلم يذكر ابن مسعود! فقلت له: أراك لا تذكر ابن مسعود، قال: "ذاك رجل لا أفضل عليه أحد".
قال الشعبي: "ما دخل الكوفة أحد من الصحابة أنفع علمًا ولا أفقه صاحبًا من عبد الله".
أيها الإخوة: هذه قطوف من سيرة هذا الإمام الكبير، والصاحب الجليل، فيها من الخير والهدى شيء كثير لمن كان مهتديًا بهدي صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، سائرًا على طريقهم، مستنًا بسنتهم؛ ففي ذلك الخير العظيم؛ فاعرفوا لهم حقهم، واقتفوا أثرهم، واحذروا الأهواء أن تضل بكم عن الصراط المستقيم، ثم صلوا وسلموا على محمد بن عبد الله كما أمركم بذلك ربكم.
التعليقات