عناصر الخطبة
1/ اسمه ونشأته وصفاته 2/ عظم مؤازرته للنبي صلى الله عليه وسلم في بعثته ودعوته 3/ أفضل الناس بعد الأنبياء والمرسلين 4/ مسارعته في الطاعات 5/ مواقفه في الهجرة النبوية 6/ موقفه عند وفاة النبي صلى الله عليه وسلماقتباس
قراءة سيرة هؤلاء الأبطال، ومعرفة أخبار هؤلاء الرجال مما يزيد المرء ثباتًا وإيمانًا، ويمنحه دروسًا وعرفانًا، فهم مدرسةٌ نافعة تحمل في طياتها خصالٌ جامعة لسيرهم وسيَرهم يحسن الحديث، وينجذب البعيد والقريب، والسعي الحثيث فَحَيَّ هَلًا بكم مع سيرة رجلٍ من رجال ذلك الجيل مع الأول في كل شيء، مع رجلٍ...
الخطبة الأولى:
الحمد لله، الحمد لله ولي التوفيق، وبيده الهداية والتحقيق، نحمده سبحانه أن هدانا إلى أقوم طريق، ونستغفره ونعوذ به من عذاب الحريق، وأشهد أن لا إله إلا الله بيده أزِمة الأمور والجمع والتفريق، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، رفيقه الخاص أبو بكرٍ الصديق، فكان معه في السِّلم والحرب والبِر العميق صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه كانوا له خير معينٍ وصديق لاسيما أبو بكرٍ العتيق، وعلى التابعين بإحسان ما لاح بالنهار ضوءٌ وبريق.
أما بعد: فاتقوا الله -أيها المسلمون- يغفر لكم ذنوبكم، ويجعل لكم فرجًا من كل بلاءٍ وضيق.
أيها المسلمون: أصحاب محمدٍ -صلى الله عليه وسلم- كالنجوم في الدجى، وكالبدر في الليلة الظلماء بهم أعز الله الدين وأعلى وحمى الدين المتين بصبرهم وجهودهم نشر الملة، وببذلهم وحرصهم وحَّد الأمة ليس بعد الأنبياء والمرسلين سيرةٌ أعظم من سيرهم، ولا حديثٌ أعظم من حديثهم، كانوا فرسانًا بالنهار رهبانًا بالليل، جيلًا في الإيمان والعبادة والصبر والبذل والشجاعة.
هم الرجال وعيبٌ أن يُقال لمن *** لم يكن من مثلهم رجلٌ
قوم هم نصروا الرحمن واتبعوا *** دين الرسول وأمر الناس مشتجر
ولا غر أن يقول فيهم شيخ الإسلام ابن تيمية: لا كان ولا يكون مثلهم.
وليس في الأمة كالصحابة *** في الفضل والمعروف والإصابة
فإنهم قد شاهدوا المختار *** وعاينوا الأشرار والأنوار
وجاهدوا في الله حتى بانا *** سُبل الهدى وقد سما الأديان
وقد أتى في محكم التنزيل *** من فضلهم ما يشفي للغليل
وفي الأحاديث وفي الآثار *** وفي كلام القوم والأشعار
قراءة سيرة هؤلاء الأبطال، ومعرفة أخبار هؤلاء الرجال مما يزيد المرء ثباتًا وإيمانًا، ويمنحه دروسًا وعرفانًا، فهم مدرسةٌ نافعة تحمل في طياتها خصالٌ جامعة لسيرهم وسيَرهم يحسن الحديث، وينجذب البعيد والقريب، والسعي الحثيث فَحَيَّ هَلًا بكم مع سيرة رجلٍ من رجال ذلك الجيل مع الأول في كل شيء، مع رجلٍ عرف ربه واتقاه، وآمن به وعبد ربه ومولاه، يخافه ويخشاه، ويستعد ليوم لقاه مع من وزن إيمانه بإيمان الأمة فرجح إيمانه، إذا ذُكر الصحابة تذكرت النفوس الفضل، وعلو المكانة، والسبق وجميل الريادة، فكيف يكون الحال إذا ذُكِر خير أولئك وأفضل الصحابة.
هو رجلٌ لم يُعهد عليه كذب، ولم يسجد لصنم، ولم يتعامل بربا قط، ولم يذق طعمًا لخمرٍ يومًا، كان كل ذلك شائعًا مُباحًا، سُئل هل شربت الخمر، قال: "أعوذ بالله"، فقيل ولِما؟ قال: "كنت أصون عرضي وأحفظ مروءتي؛ فإن من شرب الخمر كان مضياعًا في عرضه ومروءته".
إنه الورِع التقي، النقي الحيي، إنه صاحب القلب الرقيق، والجنان الثابت الوديع التاجر الكريم، والحازم الرحيم إنه من عرفتم وتعرفون إنه ابن عثمان عبد الله بن أبي قحافة إنه أبو بكرٍ -رضي الله عنه- أول المبشرين بالجنة، الصديق العتيق، وخليفة الرسول الكريم -عليه أزكى الصلاة والتسليم-.
لا عجب أن تُعرض سيرة أبي بكر فإنه قدوةٌ للأتقياء، وفي سيرته أسوةٌ للكرماء، وفي حياته عبرةٌ لأهل البذل والفداء بل هو آيةٌ في كل ميادين العطاء ابحثوا عن فضله في كل ميدان ستجدون له أوفر الحظ، وأوسع المكان، وليس في صحابة المصطفى من هو أفضل ولا أزكى ولا أعظم عند الله وعند رسوله من أبي بكرٍ الصديق صاحب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ورفيقه، وصفيه، وخليله، ووزيره، ومستشاره من الناس، ثاني اثنين في الغار، وخليفة المصطفى نصر الرسول يوم خذله الناس، وآمن به حين كفر به الناس، وصدَّقه حين كذبه الناس.
لم يؤثَر عنه في الجاهلية أنه كذب في الحديث أو سجد لغير الله أو تعامل بالربا، فكان حقيقًا أن يختاره الله لصحبة رسوله في الحضر والسفر، وأن يكون رفيقه في الهجرة، وأن يعيش معه حياته كلها، حتى إذا ما انتقل المصطفى -صلى الله عليه وسلم- للرفيق الأعلى لم يجد الصحابة -رضي الله عنهم- أفضل ولا أجدر، ولا أحق من أبي بكرٍ بالخلافة ليسوس الأمة بعد نبيها، وينصر الله به دينه، ويثبته في وجه الأحداث العظمى التي حصرت عن رأسها بعد وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم-، حتى إذا استقر الدين وقويت شوكة الإسلام وشرع الصحابة في الفتوحات الإسلامية في مواقف عظمى من حياة الأمة لا يزال التاريخ يذكرها للصديق بمداد ذهب لا ينساها ولن ينساها المسلمون.
خَيرَ البَرِيَّةِ أَتقاها وَأَعدَلَها *** إِلّا النَبِيَّ وَأَوفاها بِما حَمَلا
وَالثانِيَ الصادِقَ المَحمودَ مَشهَدُهُ *** وَأَوَّلَ الناسِ مِنهُم صَدَّقَ الرُسُلا
أيها المسلمون: وُلد أبو بكرٍ -رضي الله عنه- بعد حادثة الفيل بسنتين وستة أشهر، واسمه عبد الله بن أبي قحافة عثمان بن عامرٍ القرشي التيمي، وكان يُسمى في الجاهلية عتيقًا لجمال وجهه، كان أبيض نحيفًا، خفيف العارضين، معروق الوجه، غائر العينين، نائي الجبهة، يخضب شيبه بالحنة والكتم، وكان كريمًا شجاعًا صبورًا، قوي العزيمة والتوكل والثقة بالله، ورعًا مبتعدًا عن الشبهات، زاهدًا في الدنيا راغبًا فيما عند الله، من أشرف قومه وأنسبهم ذا رأيًّا سديدًا في المواقف العظام، وحنكةٍ في التجارب، ومنزلةٍ عند قومه في الجاهلية، حتى جعلوا إليه أمر الديات والشورى فقيهًا عالمًا بالأنساب والأخبار.
صحب النبي -صلى الله عليه وسلم- قبل البعثة سبعة عشر سنة، فلما نزل الوحي على النبي -صلى الله عليه وسلم- دعاه إلى الإسلام فآمن به من ساعته لما كان يعلم من صدق النبي عليه الصلاة والسلام، وأمانته وحسن خلقه وكرم سجاياه، فكان بذلك أول الرجال إسلامًا، وأشهرهم تصديقًا، ولم يسبقه بالإسلام إلا خديجة -رضي الله عنها-، حتى قال عليه الصلاة والسلام: "مَا دَعَوْتُ أَحَدًا إِلَى الإِسْلامِ إِلا كَانَتْ له كَبْوَةٌ وَتَرَدُّدٌ وَنَظَرٌ إِلا أَبَي بَكْرٍ مَا عَتَّمَ"؛ أي: ما أبطأ وتأخر عنه حين ذكرته وما تردد فيه.
وكان إسلام أبو بكرٍ أعظم نفعًا للإسلام والمسلمين من إسلام غيره؛ لمكانته، وجدته في الدعوة، فقد أسلم بإسلامه أكثر الصحابة، وعلى رأسهم ستةٌ من العشرة المبشرين بالجنة، منهم: عبد الرحمن بن عوف، وسعدٌ بن أبي وقاص، وعثمان بن عفان، والزبير بن العوام، وطلحة بن عبيد الله -رضي الله عنهم-.
فماذا عسى أن يقول المتقاعسون، والمتكاسلون، والمتشائمون عن الدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والنصيحة للأمة، ماذا في ميزان حسناتهم؟ ماذا في خدمة دينهم؟ ما هو أثرهم بعد موتهم؟
وكان عنده يوم أسلم أربعون ألف درهم فأنفقها كلها في سبيل الله، أعتق بها عشرين صحابيًّا من الأرقاء المستضعفين الذين كانوا يُعذبون في سبيل الله في مقدمتهم سيد المسلمين بلال بن رباحٍ -رضي الله عنه-.
كان ملازمًا للنبي -صلى الله عليه وسلم- بعد إسلامه وهو صاحبه في الهجرة وأحب الرجال إليه، وما تأخر عن مشهدٍ شهده النبي -صلى الله عليه وسلم- حتى انتقل للرفيق الأعلى، ولقد قال المصطفى: "مَا لأَحَدٍ عِنْدَنَا يَدٌ إِلاَّ وَقَدْ كَافَأْنَاهُ، مَا خَلا أَبَا بَكْرٍ، فَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا يَدًا يُكَافِئُهُ اللَّهُ بِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَا نَفَعَنِي مَالٌ قَطُّ مَا نَفَعَنِي مَالُ أَبِي بَكْرٍ، وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا خَلِيلاً لاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ ألا وإِنّ صَاحِبَكُمْ خَلِيلُ اللّهِ" (رواه الترمذي وأحمد وابن ماجه).
وفي الصحيحين: "إِنَّ أَمَنَّ النَّاسِ عَلَيَّ فِي صُحْبَتِهِ وَمَالِهِ أَبُو بَكْرٍ، وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا خَلِيلًا مِنْ أُمَّتِي لاَتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ، وَلَكِنْ أُخُوَّةُ الإِسْلاَمِ وَمَوَدَّتُهُ، لاَ يَبْقَيَنَّ فِي المَسْجِدِ بَابٌ إِلَّا سُدَّ، إِلَّا بَابُ أَبِي بَكْرٍ" "مَا طَلَعَتِ الشَّمْسُ وَلا غَرَبَتْ بَعْدَ النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ عَلَى خَيْرٍ مِنْ أَبِي بَكْرٍ".
وكان عمر -رضي الله عنه- يقول: "أبو بكرٍ سيدنا، وخيرنا، وأحبنا إلى رسول الله" (رواه الترمذي).
ويقول عليٌّ -رضي الله عنه-: "إن خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكرٍ، ثم عمر" (أخرجه أحمد).
وكان مصدقًا للنبي -صلى الله عليه وسلم- في كل ما يقوله، بل كان شعاره دائمًا "إن كان قال فقد صدق"، وكان أول لقبٍ له الصديق بعد حادثة الإسراء والمعراج حين جاء المشركون الذين لم تستسق عقولهم الضعيفة هذه الآية المعجزة التي وقعت في ليلةٍ واحدة أُسري بالنبي -صلى الله عليه وسلم- من مكة إلى بيت المقدس، وصلى بالأنبياء فيه، ثم عُرج به إلى السماء، ورأى ما رأى من العجائب والآيات، ثم رجع إلى بيت المقدس ومنه إلى مكة ليُصبح في مكانه الذي بات فيه، فلما أصبح وأخبر المشركين جاءوا إلى أبي بكرٍ، فقالوا: هل لك فيما قال صاحبك يزعم أنه أُسري به الليلة إلى بيت المقدس، وعاد من ليلته، فالتفت إليهم أبو بكرٍ، وقال: "أوقال ذلك؟" قالوا: نعم، قال: "إن كان قال فقد صدق إني لأصدقه بأبعد من ذلك بخبر السماء غدوةٌ أو روحة"؛ فسُمي الصِّدِّيق.
وقد أعلن -صلى الله عليه وسلم- ذلك بين الناس عندما صعد جبل أحدٍ ومعه أبو بكرٍ وعمر وعثمان، فرجف بهم الجبل، فقال -صلى الله عليه وسلم-: "اثْبُتْ أُحُدُ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ نَبِيٌّ وَصِدِّيقٌ وَشَهِيدَانِ" (متفقٌ عليه)، وعند البخاري: "إِنَّ اللَّهَ بَعَثَنِي إِلَيْكُمْ فَقُلْتُمْ كَذَبْتَ، وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: صَدَقَ وَوَاسَانِي بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَهَلْ أَنْتُمْ تَارِكُوا لِي صَاحِبِي مَرَّتَيْنِ فَمَا أُوذِيَ بَعْدَهَا".
وكان -رضي الله عنه- أجود الصحابة، وأعبدهم، وأسبقهم إلى كل خير، روى مسلم في صحيحه أنه -عليه الصلاة والسلام- قال يومًا لأصحابه: "مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ الْيَوْمَ صَائِمًا؟" قَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَنَا، قَالَ: "فَمَنْ تَبِعَ مِنْكُمْ الْيَوْمَ جَنَازَةً؟" قَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَنَا، قَالَ: "فَمَنْ أَطْعَمَ مِنْكُمْ الْيَوْمَ مِسْكِينًا؟" قَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَنَا، قَالَ: "فَمَنْ عَادَ مِنْكُمْ الْيَوْمَ مَرِيضًا؟" قَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَنَا، فَقَالَ النَّبي -صلى الله عليه وسلم-: "مَا اجْتَمَعْنَ فِي امْرِئٍ إِلاَّ دَخَلَ الْجَنَّةَ".
يقول عمر -رضي الله عنه- أمرنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن نتصدق فوافق ذلك عندي مالًا، فقلت: اليوم أسبق أبا بكرٍ إن سبقته اليوم، قال: فجئت بنصف مالي، فقال -صلى الله عليه وسلم-: "مَا أَبْقَيْتَ لِأَهْلِكَ؟" قلت: مثله، وأتى أبو بكرٍ بكل ما عنده، فقال: "يَا أَبَا بَكْرٍ مَا أَبْقَيْتَ لِأَهْلِكَ؟" قال: أبقيت لهم الله ورسوله، قلت والله لا أسبقه إلى شيءٍ أبدًا؛ (رواه الترمذي وأبو داود).
وكان -رضي الله عنه- شديد المدافعة عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، والنصرة له احتمل عنه أذًى كثيرًا، ودافع عنه ببدنه وماله، وجاهد معه بسيفه وسنانه، ومواقفه في هذا أشهر من أن تُذكر، وأعظم من أن تُحصر.
يقول عروة بن الزبير: سألت عبد الله بن عمروٍ عن أشد شيءٍ صنعه المشركون مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، قال: بينما النبي -صلى الله عليه وسلم- يُصلي في حجر الكعبة إذ أقبل عقبة بن أبي مُعيط ووضع ثوبه في عُنقه، فخنقه خنقًا شديدًا فأقبل أبو بكرٍ -رضي الله عنه- حتى أخذ بمنكبه ودفعه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو يقول: "أتقتلون رجلًا أن يقول: ربي الله، وقد جاءكم بالبينات من ربكم؟" رضي الله عن أبي بكر وحشرنا في زمرته.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
أما بعد: وأما موقفه في الهجرة فهي المواقف التي لا ينقضي منها العجب، ولا تنتهي:
منها: الدروس والعِبر، رغبته المُلحة في الصحبة لرسول الله، وإعداده لهذه الرحلة، وتجنيد أولاده وأهل بيته لخدمة النبي -صلى الله عليه وسلم- في دعوته في حادثة الهجرة.
ومنها: بكاؤه من شدة الفرح حينما أذن الله لنبيه في الهجرة، وأن يكون رفيقه فيها أبو بكر.
ومنها: محافظته على النبي -صلى الله عليه وسلم- طول الرحلة فمرةً يمشي أمامه، ومرةً خلفه، ثم يذهب يمينًا وشمالًا، فيسأله النبي -صلى الله عليه وسلم- عن ذلك، فيقول: يا رسول الله بأبي أنت أمي إذا تذكرت الرصد تقدمت، وإذا تذكرت الطلب تأخرت، فيدعو له -صلى الله عليه وسلم- بالخير، ويمضيا حتى إذا أوشكا على دخول الغار يدخل أبو بكرٍ قبل النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ ليتفقد الغار ويسد خروقه بيديه ورجليه حفاظًا على النبي -صلى الله عليه وسلم-، قال الله تعالى: (ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا) [التوبة:40].
ولقد بشره النبي -صلى الله عليه وسلم- بالجنة مرارًا، وذكر -صلى الله عليه وسلم- أبواب الجنة يومًا، وسمى من يُدعى منها، فقال أبو بكرٍ -رضي الله عنه-: بأبي أنت وأمي يا رسول الله ما على من دُعي من تلك الأبواب من ضرورة؛ فهل يُدعى أحدٌ من تلك الأبواب كلها؟ قال: "نَعَمْ، وَأَرْجُو أَنْ تَكُونَ مِنْهُمْ" (متفقٌ عليه).
أبوابها حقًّا ثمانيةً أتت *** في النص وهي لصاحب الاحسان
ولسوف يدعى المرء من أبوابها *** جمعًا إذا وفى حلى الإيمان
منهم أبو بكرٍ هو الصديق ذاك خليفة المبعوث بالقرآن
ولما انتقل المصطفى -صلى الله عليه وسلم- للرفيق الأعلى، وقُبض كان موته فاجعةً عظيمة على المسلمين؛ حتى فُتن بعضهم بذلك، فارتدوا عن إسلامهم، ولم يصدق بعض الصحابة الخبر، ووقف عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- متقلدًا سيفه، وقد أخرجه الخبر عن وعيه، وهو يقول: "من زعم أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد مات ضربت عنقه"، والناس في هرجٍ ومرجٍ، حتى أقبل أبو بكرٍ على فرسه من مسكنه بالسنح ونزل فدخل المسجد، فلم يكلم الناس حتى دخل على ابنته عائشة -رضي الله عنها- فتيمم النبي -صلى الله عليه وسلم وهو مسجَّى ببردٍ حِبرة- فكشف عن وجهه، ثم أكب عليه فقبله، ثم بكى، فقال: "بأبي أنت يا نبي الله لا يجمع الله عليك موتتين، أما الموتة التي كُتبت عليك فقد مُتها"، ثم خرج وعمر يكلم الناس، فقال: "اجلس" فأبى، فقال: "اجلس" فأبى، فتشهد أبو بكرٍ -رضي الله عنه-، فمال إليه الناس وتركوا عمر، فقال: "أما بعد فمن كان منكم يعبد محمدًا، فإن محمدًا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حيٌّ لا يموت، قال الله تعالى: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِينْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ) [آل عمران:144]".
قال ابن عباسٍ: "والله لكأن الناس لم يكونوا يعلمون أن الله أنزلها حتى تلاها أبو بكرٍ -رضي الله عنه-، فتلقاها منه الناس فما يُسمع بشرٌ إلا يتلوها"؛ (أخرجه البخاري).
أما عمر فما أن سمع أبا بكرٍ تلا الآية حتى هوى إلى الأرض ما تقله رجلاه، وعلم أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد مات، فثبت الناس وزالت الغشاوة عنهم وعادوا إلى رشدهم، وصدَّقوا بموعود ربهم ببركة هذا الإمام العظيم الثابت الجليل، العالم الصبور.
وهذا وللحديث بقية وحلقةٍ قادمة مع هذا الجبل الأشم، والصحابي الأقدم -بإذن الله تعالى-.
هذا وصلوا وسلموا على رسول الله محمد بن عبد الله
صلوا على خاتم النبيين محمدٍ *** تحظوا من الرحمن بالغفران
فالله قد أثنى عليه مصرِّحًا *** في محكم الآيات والقرآن
التعليقات