عناصر الخطبة
1/ التعريف بسورة غافر 2/ الإشارة إلى أن موضوعها البارز هو المعركة بين الحق والباطل 3/ تسميتها وأسماؤها 4/ قصة مؤمن آل فرعون 5/ مشاهد إيمانية: حمَلة العرش- البعث والجزاء 6/ بعض نعم الله على الناساهداف الخطبة
اقتباس
ويكاد يكون موضوعُ السُّورةِ البارزُ هو المعركةَ بين الحقِّ والباطل، والهُدَى والضَّلال؛ ولهذا جاء جوُّ السورةِ مشحوناً بطابع العنف والشِّدَّة، وكأنَّهُ جَوُّ معركةٍ رهيبةٍ يكون فيها الطَّعن والنِّزال، ثم تسفر عن مصارع الطغاة، فإذا بهم حطام وركام ..
الحمد لله (غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ) [غافر:3]، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا عباد الله: اتقوا الله حق تقاته، ومع كتاب الله وعن سورة غافر نتحدث اليوم، فسورة غافر هي السورة الأربعون في ترتيب المصحف الشريف، وآياتها خمس وثمانون آية، وهي مكية تعني بأمور العقيدة كشأن سائر السور المكية.
ويكاد يكون موضوع السورة البارز هو المعركة بين الحق والباطل، والهدى والضلال؛ ولهذا جاء جو السورة مشحوناً بطابع العنف والشدة وكأنه جو معركة رهيبة يكون فيها الطعن والنزال، ثم تسفر عن مصارع الطغاة، فإذا بهم حطام وركام!.
وسميت سورة (غافر) لأن الله تعالى ذكر هذا الوصف الجليل له سبحانه الذي هو من صفات الله الحسنى في مطلع السورة الكريمة، (غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ) [3]، أي: الذي يعفو عن الذنوب، ويقبل توبة العصاة لمن تاب منهم وأناب، وكرر ذكر المغفرة في دعوة الرجل المؤمن في قوله تعالى: (وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ) [غافر:42]، وتسمى أيضاً سورة المؤمن، لذكر قصة مؤمن آل فرعون فيها.
وقد ابتدأت السورة الكريمة بالإشادة بصفات الله الحسنى، وآياته العظمى، ثم عرضت لمجادلة الكافرين في آيات الله، فمع وضوح الحق وسطوعه جادل فيه المجادلون، وكابر فيه المكابرون، وهذا في الآيات من (1-4)، وعرضت السورة لمصارع الغابرين، وقد أخذهم الله أخذ عزيز مقتدر، فلم يُفلت منهم إنسانا، ومنهم قوم نوح والأحزاب من بعدهم من الأمم الكافرة المكذبة بالرسل.
وفي ثنايا هذا الجو الرهيب يأتي مشهد حمَلة العرش في دعائهم الخاشع المنيب، وهم من أشرف الملائكة وأكابرهم، قال تعالى (وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ) [الحاقة:17]، وهم في عبادة دائبة لله، ينزهونه عن صفات النقص، ويثنون عليه بصفات الكمال.
ويطلبون من الله المغفرة للمؤمنين، وإن رحمة الله وعلمه وسعت كل شيء، وأن يقيهم عذاب جهنم، وأن يدخلهم جنات النعيم والإقامة الدائمة فيها، وأن يدخل الصالحين من الآباء والأبناء والأزواج في جنات النعيم ليتم سرورهم بهم، وأن يحفظهم من المنكرات التي توبق أصحابها، فمن يحفظ الله منها فذلك هو الفوز العظيم الذي لا فوز ولا ظفر مثله، وهذا في الآيات من (7 إلى 9).
وتحدثت السورة عن بعض مشاهد الآخرة وأهوالها فإذا العباد واقفون للحساب بارزين أمام الملك الديان، الواحد القهار يغمرهم رهبة وخشوع وإذا القلوب لدى الحناجر تكاد لشدة الفزع والهول تنخلع وفي ذلك الموقف الرهيب واليوم العصيب يلقى الإنسان جزاءه إن خيراً فخير وإن شراً فشر وهذا الذي ذكرناه استغرق من السورة ما يقرب من عشرين آية من أولها.
ثم يأتي الحديث عن قصة الإيمان والطغيان ممثلة في دعوة موسى -عليه السلام- لفرعون الطاغية، ففرعون يريد بكبريائه وجبروته أن يقضي على موسى وأتباعه خشية أن ينتشر الإيمان بين الأقوام، وتبرز في ثنايا هذه القصة حلقة جديدة لم تعرض في قصة موسى من قبل ألا وهي ظهور رجل مؤمن من آل فرعون يخفي إيمانه يصدع بكلمة الحق في تلطُّفٍ وحذر، ثم في صراحة ووضوح. وتنتهي القصة بهلاك فرعون الجبار بالغرق في البحر مع أعوانه وأنصاره، وبنجاة الداعية وسائر المسلمين، وسنتناول هذه القصة بشيء من التفصيل.
قال المفسرون: كان هذا الرجل ابن عم فرعون يخفي إيمانه عن فرعون، فلما سمع قول فرعون متوعداً موسى بالقتل نصحهم بأن لا يقتلوه قائلاً: أتقتلون رجلا لا ذنب له إلا لأجل إن قال: ربي الله من غير تفكر ولا تأمل في أمره؟ وقد جاءكم بالمعجزات الظاهرة التي شاهدتموها من عند الله؟ ومنها اليد والعصا، فإن كان كاذباً في دعوى الرسالة فضرر كذبه لا يتعداه، وإن كان صادقاً أصابكم بعض ما وعدكم به من العذاب، فالله لا يوفق للهداية والإيمان مَن هو مسرف في الضلال، مبالغ في الكذب على الله، وفيه تعريض بفرعون، إذ هو في غاية الإسراف والكذب على الله إذ ادعى الإلوهية والربوبية.
ثم كرر الرجل المؤمن النصح لهم مع التلطف فقال ما معناه أنتم غالبون عالون على بني إسرائيل في أرض مصر قد قهرتموهم واستعبدتموهم اليوم فمن ينقذنا من عذاب الله وينجينا منه إن قتلتم رسوله وهنا تأخذ فرعون العزة بالإثم ويستبد به الجبروت والطغيان فيقول ما أشير عليكم برأي إلا كما رأيت سابقاً بقتل موسى حسماً للفتنة وما أهديكم بهذا الرأي إلا طريق الصواب والصلاح.
ثم قال الذي آمن ما معناه: يا قوم إني أخشى عليكم مثل أيام العذاب التي عُذب بها المتحزبون على الأنبياء مثل قوم نوح وعاد وثمود، وما أصابهم من العذاب بتكذيبهم لرسلهم، والمكذبين بعد أولئك كقوم لوط، وإن الله لا يعاقب العباد بدون ذنب.
ثم خوَّفَهم بعذاب الآخرة بعد أن خوفهم بعذاب الدنيا وذلك يوم الحشر الأكبر، يوم ينادي المجرمون بالويل والثبور، ثم تولون منهزمين من هول عذاب جهنم، ما لكم من الله من مانع ولا دافع يصرف عنكم عذابه، ومن يضلله الله فليس له من يهديه إلى طريق النجاة.
ثم ذكَّرهم بدعوة يوسف فقال: والله لقد جاءكم يوسف من قَبل موسى بالمعجزات الظاهرات فلم تزالوا شاكين بأنه لن يأتي أحد يدعي الرسالة بعد يوسف، كذلك الضلال الفظيع يضل الله كل مسرف في العصيان، شاك في الدين، بعد وضوح الحجج والبراهين، الذين يجادلون في شريعة الله بغير حجة ولا برهان جاءهم من عند الله -عز وجل-، عظم بغضاً عند الله وعند المؤمنين، وكما ختم الله على قلوب هؤلاء المجادلين يختم بالضلال على قلب كل متكبر عن الإيمان، متجبر على العباد حتى لا يعقل الرشاد، ولا يقبل الحق.
وقال فرعون لوزيره هامان: ابن لي قصراً عالياً لعلي أصل وأنتهي إلى طرق السماوات وما يؤدي إليها وأنظر إلى إله موسى نظر عيان، وإنى لأعتقد أن موسى كاذبٌ في ادعائه أن له إلهاً غيري، ومثل ذلك التزينن زُين لفرعون عمله السيئ حتى رآه حسناً، ومُنع بسبب ضلاله عن طريق الهدى، وما كيده وتدبيره ومكره إلا في خسار وهلاك.
وكرر مؤمن آل فرعون نصحه لهم بعد تلك المراوغة التي لقيها من فرعون، ودعا قومه إلى الإيمان بالله الواحد، وكشف لهم عن قيمة الحياة الزائلة، وشوَّقهم إلى نعيم الحياة الباقية، وحذرهم من عذاب الله، وأن من عمل في هذه الدنيا سيئة فلا يعاقب في الآخرة إلا بمقدارها دون زيادة، ومن فعل في الدنيا العمل الصالح سواء ذكراً كان أو أنثى بشرط الإيمان فأولئك المحسنون يدخلون جنات النعيم، ويعطون جزاءهم فيها بغير تقدير بل أضعافاً مضاعفة، فضلا من الله وكرماً.
ثم أنكر على قومه أن يدعوهم إلى الإيمان الموصل إلى جنات النعيم وهم يدعونه إلى الكفر الموصل إلى النار، يدعونه إلى الكفر بالله وهو يدعوهم إلى عبادة الله، وقال: حقاً إنما تدعونني لعبادته لا يصلح أن يعبد؛ لأنه لا يستجيب لنداء داعيه، ولا يقدر على تفريج كربته لا في الدنيا ولا في الآخرة، وأن مرجعنا إلى الله وحده فيجازي كلا بعمله، وأن المسرفين في الضلال والطغيان سيدخلون في النار.
وأنكم ستذكرون صدق كلامي عندما يحل بكم العذاب، وأتوكل على الله، وأُسلِّم أمري إليه، إن الله مطَّلِعٌ على أعمال العباد، فنجَّاهُ اللهُ من شدائدِ مَكْرِهم، ومن أنواع العذاب الذي أرادوا به، وأنزل الله بفرعون وقومه أسوأ العذاب، وهو الغرق في الدنيا، والحرق في الآخرة في النار يُحرَقون فيها صباحاً ومساء.
قال المفسرون: المراد أنهم يعرضون على نار القبر، وعذابهم في القبور، ويوم القيامة يقال للملائكة: أدخِلوا فرعون نار جنهم التي هي أشد العذاب، هذه معاني الآيات التي وردت في قصة الرجل المؤمن من قوم فرعون، وهي من الآية (28 إلى 46).
ثم ذكر الله بعد ذكر النزاع والخصام الذي يكون بين أهل النار، واستغاثة المجرمين وهم في عذاب جهنم يصلون سعيرها فلا يجابون، ثم ذكر الأدلة والبراهين على قدرة اله ووحدانيته لإقامة الحجة على المشركين، وذلك من (الآية 47 إلى الآية 66)، ثم تحدثت السورة عن أحوال المشركين يوم القيامة، وختمت السورة الكريمة بالوعيد والتهديد لأهل الكفر والضلال.
عباد الله: هذه لمحة عن معاني بعض آيات سورة غافر، سورة المؤمن، نفعنا الله بها وبهدي كتابه الكريم، وسنة خاتم المرسلين، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه ومن والاه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: عباد الله: لقد ذم الله سبحانه المجادلين في آيات الله بالباطل في جزء من الآيات الأخيرة من سورة غافر فقال: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آَيَاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ) [69]، أي: الذين يجادلون في آيات الله الواضحة كيف تصرف عقولهم عن الهدى والضلال؟.
ثم وصفهم بقوله: (الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) [70]، أي: كذبوا بالقرآن وبسائر الكتب والشرائع السماوية، (إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ)، أي: حين يدخلون النار وتربط أيديهم إلى أعناقهم بالأغلال والسلاسل (يُسْحَبُونَ * فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ) [71-72]، أي: يسحبون بتلك السلاسل في الماء الحار الساخن بنار جنهم.
ثم يوقدون ويحرقون فيها، (ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ * مِنْ دُونِ اللَّهِ) [73-74]، أي: ثم قيل لهم تبكيتاً: أين هم الأوثان والأصنام التي كنتم تعبدونها وتجعلونها شركاء لله (قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا)، أي: يقولون: غابوا عن عيوننا فلا نراهم ولا نستشفع بهم، (بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُو مِنْ قَبْلُ شَيْئًا) [74]، أي: بل لم نكن نعبد شيئاً.
قال المفسرون: جحدوا عبادتهم، وإنما فعلوا ذلك لحيرتهم واضطرابهم: (كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ) [74]، أي: مثل إضلال هؤلاء يضل الله كل كافر، (ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ) [75]، أي: ذلكم العذاب بما كنتم تظهرونه في الدنيا من السرور بالمعصية؛ وبسبب كثرة ما تنفقون في المحرمات، وبسبب بطركم وأشركم وخيلائكم.
(ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا)، أي: ادخلوا أبواب جهنم السبعة المقسومة لكم، ماكثين فيها أبداً، (فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ) [76]! أي: بئست جهنم مقراً وسكناً للمستكبرين عن آيات الله.
(فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ) [77]، أي: فاصبر يا محمد على تكذيب قومك لك فإن وعد الله بتعذيبهم حق، (فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ)، أي: إنا إن أريناك بعض الذي نعدهم به من العذاب أو نتوفينك قبل نزوله بهم فإلينا مرجعهم يوم القيامة فننتقم منهم أشد الانتقام.
ثم أخبره الله تعالى بأنباء الرسل تسلية له -صلى الله عليه وسلم- بأنه أرسل كثيراً من قبله، منهم من أخبرناك عن قصصهم مع قومهم ومنهم من لم نخبرك عن قصصهم وأخبارهم، وما كان لرسول منهم أن يأتي قومه بشيء من المعجزات إلا يأمر الله، فإذا جاء الوقت المحدد لعذابهم أهلكهم الله وخسر في ذلك الحين المعاندون الذين يجادلون في آيات الله ويقترحون المعجزات على سبيل التعنت.
ثم ذكرهم تعالى بنعمه، فهو الذي سخر لكم الأنعام -الإبل والبقر والغنم- وخلقها لكم ولمصلحتكم لتركبوا على ظهور بعضها، وتأكلوا من لحومها، وتشربوا ألبانها، ولكم فيها منافع عديدة في الوبر والصوف والشعر واللبن والزبد والسمن، وتحمل آثقالكم في الأسفار البعيدة، (وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ) [80]، أي: على الإبل في البر وعلى السفن في البحر (وَيُرِيكُمْ آَيَاتِهِ فَأَيَّ آَيَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ) [81]، أي: يريكم -أيها الناس- حججه عليكم، فلماذا تنكرون منها مع كثرتها وصدقها ووضوحها؟.
وتختتم السورة بالإنكار على الكفار، وأن إيمانهم لا ينفعهم إذا حل بهم العذاب، كما في الآيات من 82 إلى 85 من آخر السورة.
عباد الله: احرصوا على فهم كتاب الله، فهو الهدى الذي اختاره لنا رسول الله المصطفى -صلى الله عليه وسلم-، وصَلُّوا وسلِّمُوا عباد الله على خاتم رسل الله نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-.
التعليقات