عناصر الخطبة
1/ الابتلاء سنة ربانية في الكون 2/ الابتلاء في حياة الأنبياء 3/ مقاصد الابتلاء والحكمة منه 4/ الحذر من تحول البلاء إلى عقوبة 5/ دروس وعبر من ابتلاء النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام.اهداف الخطبة
اقتباس
إن الابتلاءات والفتن من أجلّ مقاصدها تجريد التوحيد، فتعلم أن الذي يكشف الضر هو الله، والذي يجيب المضطر هو الله، فإذا مرضت فدرت على طبيب بعد طبيب، ودرت على طبيب بعد طبيب، والكل باء بالفشل توقن أن الذي يكشف الضر هو الله، والذي يجيب المضطر هو الله.. فمن فوائد الابتلاءات: تجريد التوحيد، وإخلاص العبادة لله، وإحسان الالتجاء إلى الله، فنحن دائما وأبداً كما سلف في ابتلاء!!
الحمد لله الذي (لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا)[الفرقان: 2]، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يحيي ويميت ويكرم ويذل ويخفض ويرفع سبحانه وتعالى يقضي بما يشاء ويفعل ما يريد، لا معقب لحكمه وهو سريع الحساب، يدبّر الأمر من السماء إلى الأرض، فإذا قضى أمرًا فإنما يقول له كن فيكون، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله صلوات الله عليه وعلى أهل بيته، ومن اتبع سنته.
أما بعد: أيها الإخوة -بارك الله فيكم- تعلمون أن الله عز وجل خلق الإنسان في كَبَد، أي: في تعب ومشقة، وتعلمون أنكم خُلقتم في الدنيا للابتلاء والاختبار، فكلها ابتلاء وكلها اختبار، قال تعالى: (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا) [الملك: 2] وقال سبحانه: (إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا) [الإنسان: 2].
فقدّر الله على الأمم وعلى الأفراد والجماعات أن تُبتلى؛ أحيانًا تُبتلى بالسراء، وأحيانًا تُبتلى بالضراء، أحيانًا تُبتلى بالأمن والأمان، وأحيانًا تُبتلى بسلب الأمن والأمان، قال تعالى ذكره في كتابه الكريم: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) [البقرة: 155- 157] وقال تعالى: (وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) [الأعراف: 168].
فقد تُبتلى الأمم وتُبتلى الأفراد بالصحة والعافية والثراء والذرية، وقد تُبتلى الأمم والجماعات والأفراد بسلب الأمن عنهم وبالجوع، وبصنوف البلاء، ولقد تعددت صور الابتلاءات على أنبياء الله عليهم الصلاة والسلام، فمنهم من يُبتلى بسبب حاسده، كما ابتُلي آدم عليه السلام بحسد إبليس، وبسببه أُخرج من الجنة.
وقد يُبتلى كذلك في ولده، فقد قتل ابن آدم الأول أخاه، ويا لها من مصيبة حلت بآدم عليه السلام لما يأتيه الخبر: أن ابنك الغوي قتل ابنك التقي. وتتنوع عليه صور البلاء عليه الصلاة والسلام، وكذا تتنوع على الأنبياء من بعده وعلى سائر الخلق فيُبتلى نوح عليه السلام على مدار ألف سنة إلا خمسين عام؛ بوصفه بأنه ساحر، وكذاب، وسفيه ومجنون!!
وتتنوع الابتلاءات على خليل الرحمن إبراهيم عليه صلوات الله وسلامه، فيُبتلى في جسده بأن يلقى في النار وهو صابر ثابت، ويبتلى في بدنه بأن يؤمر بالختان وهو ابن ثمانين سنة، فيقطع الجلدة من عضوه بالقدوم -آلة النجار المعروفة- صابرًا محتسبًا، ويبتلى في ولده فيؤمر بذبحه، ويُبتلى بلقاء الجبابرة الذي يقول أحدهم: أنا أحيي وأميت، وهو ثابت وصابر عليه الصلاة والسلام، ويُبتلى من محاولة اغتصاب لزوجته من جبار تدخل عليه امرأة إبراهيم ويمد يده لاغتصابها فيسلّمها الله وينجّيها الله، ويُبتلى بتكاليف شرعية ابتلاءً تلو ابتلاء تلو ابتلاء.. ويصبر على كل ذلك.
ويأتي الكليم موسى عليه الصلاة والسلام في زمن يُذبح فيه الأبناء وتُستحيى فيه النساء فيسلّمه الله، ولكن ما يلبث إلا أن يُبتلى بالفرار من بلاده، ويُبتلى بالعودة وحمل الرسالة إلى الجبابرة، فيثبت لذلك مستعينًا بالله صابرًا على قضائه وبلائه..
وتتنوع عليه صور البلاء مع أقاربه كقارون الطاغي الباغي الذي ما اتقى الله في ماله ولا في قبيلته ولا في عشيرته، بل بغى عليهم، وقد أُوتي (مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ) [القصص: 76].
وابتُلي بالسامري الأفّاك الذي صنع عجلاً، وصرف الناس لعبادته من دون الله، وابتُلي كذلك موسى ببني إسرائيل قومه؛ الذين كذّبوه وعاندوه بعد أن سلّمهم الله أمام أعينهم فإذا بهم يقولون: (اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آَلِهَةٌ) [الأعراف: 138] إذا بهم يقولون له: (فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ) [المائدة: 24] إذا بهم يتهمونه في بدنه ويتهمونه بأنه قتل أخاه هارون وبشتى صور الاتهامات يُتَّهَم فقد (آَذَوْا مُوسَى قَالُوا فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا) [الأحزاب: 69].
وابتلاءات بالضر في الأبدان كالذي حدث لأيوب عليه الصلاة والسلام، ويزيد به البلاء إلى أن ينفر منه القريب والبعيد، ويرفضه الناس كلهم إلا زوجته واثنان من أبناء عمومته، يستمر به البلاء ثمانية عشر عامًا، وسبحان الله لم يكن عاصيًا أبدًا ولا مرتكبًا لجرائم بل كان صبارًا وشكورًا صلوات الله وسلامه عليه.
وهكذا تتوالى الابتلاءات على عيسى عليه السلام الذي يوصف بأنه ساحر وكذاب، ويُتَّهَم كذلك بأنه ولد بغاء، وتُتهم أمه الصديقة العفيفة مريم عليه السلام بالفاحشة وهي الصديقة المبرأة النزيهة، ثم يبتلى بأقوام عبدوه من دون الله، قال تعالى: (وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ * مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) [المائدة: 116- 117].
تتوالى مسيرة الابتلاءات للفضلاء والكرام، كنبي الله يعقوب الذي يذهب بصره من شدة حزنه على ولده، وكابنه يوسف الذي تتوالى عليه الابتلاءات بحسد إخوته له؛ بإلقائهم إياه في غيابة الجبّ، وبعدُ يباع في الأسواق بيعَ العبيد الرقيق، ويُبتلى بفتنة النساء، وبسجنٍ مع العربيد والسكير والشرير، وهو الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم!! ثم يُبتلى بفتنة السراء؛ إذ تولى المناصب عليه الصلاة والسلام.
وكذلك يُبتلى سليمان بتسخير الريح له، وتسخير الجن له، ويرى عرش ملكة سبأ مستقرًًا عنده قبل أن يرتد إليه طرفه، فيقول المقولة التي يقولها كل من أغناه الله من الفضلاء والعقلاء: (هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي – ليختبرني - أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ) [النمل: 40]، هكذا يقول صلى الله عليه وسلم.
ولكن ما يلبث إلا أن يُبتلى في ولدٍ له، فيولد له ولد هو نصف إنسان، قيل نصف طولي وقيل نصف عرضي، ففي الحديث عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: "قال سليمان عليه السلام: "لأطوفن الليلة على مائة امرأة تلد كل امرأة منهن ولدًا يجاهد في سبيل الله فقيل له: قل إن شاء الله، فلم يقل؛ نسي عليه الصلاة والسلام، فما ولدت إلا واحدة، ولدت نصف إنسان"، وهذا ابتلاء بضُرّ في ولده.
أما الأمين محمد عليه الصلاة والسلام سيد ولد آدم فتتنوع عليه صنوف البلاء، ويضيق المقام بذكر ذلك، يُطرد من بلده، يُلقى على ظهره مخلفات الإبل وهو يصلي، يحاولون قتله في المدينة، يُطعن في عرضه في زوجته، وتُتهم الصديقة بنت الصديق بأنها ارتكبت الفاحشة، وحاشها رضي الله عنها وعن أبيها وصلوات الله وسلامه على زوجها الأمين محمد سيد ولد آدم عليه الصلاة والسلام.. ولا تزال الابتلاءات بالمؤمن وبالمؤمنة حتى يخرج وتخرج من الأرض ومن الدنيا وما عليه خطيئة، فقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: "أشد الناس بلاءً الأنبياءُ، ثم الأمثل فالأمثل يُبتلى المرء على قدر دينه، فإن كان في دينه صلابة زيد له في البلاء".
أيها الإخوة: تمر الابتلاءات بالأمم والشعوب، ولعلكم ترون ما يحدث وما يدور في هذه الأجواء المليئة بالابتلاءات، وكل يوم تسمعون وترون ابتلاءً من نوع جديد، وصدق الرسول الأمين إذ قال - مبينًا ما يكون بين يدي الساعة ومجيء الفتن- فيقول الشخص: "هذه مُهلكتي، فتنكشف وتأتي فتنة أعظم، فيقول هذه.. هذه.. فتن يرقّق بعضها بعضًا".
ولكن كما لا يخفى عليكم أن الله سبحانه لم يكن أبدًا ليهين أولياءه، بل هو يتولى الصالحين، يتولى الصالحين يكرمهم يدبّر أمرهم، يحبهم.. الصالحون وأهل الطاعة وإن كانوا في ابتلاء فهم مأجورون لا تنقطع أجورهم أبدًا، بل يبلغون بالابتلاءات أعالي الدرجات وأعلى المقامات.. بالابتلاءات يبلغون أعلى الدرجات إذا كانوا في طاعة لله، فادخلوا بأنفسكم مستعينين بالله في أعداد الصالحين، يتولاكم الله ويدبر الله لكم أموركم.
أيها الإخوة: بارك الله فيكم، لم يكن الله ليهين الطائعين له، ولا ليذل المحسنين أبداً، ومن ظن هذا بالله فقد ظن بربه ظن السوء، عليه حينئذ دائرة السوء، ولكن قد تكون للعبد منازل عند الله، منازل عالية لا يبلغها إلا بابتلاء في جسده أو ابتلاء في ولده..
قد تكون لك منزلة عالية سامية عند الله سبحانه لم يوصلك عملك إليها، فتُبتلى حتى تحصل الدرجة وحتى تحط الخطيئة، قال عليه صلوات الله وسلامه: "ما يصيب المؤمنَ من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا غم حتى الشوكة يشاكها إلا كفّر الله بذلك من خطاياه". ودخل النبي عليه الصلاة والسلام على امرأة تتألم من شدة المرض والألم قال: "ما لك يا أم المسيب"؟ قالت: الحمى، لا بارك الله فيها، قال: "لا تسبي الحمى، فإنها تُذهب خطايا بني آدم كما يُذهب الكير خبث الحديد"، لعل لك عند الله تعالى منزلة لا تبلغها بعملك.
أيها الإخوة: الابتلاءات لها مقاصد، وعلى المؤمن الفاطن الذاكر أن يعلم مقاصده حتى لا يتسخط على ربه ولا على قدَره وعلى قضائه. عليك أن تعلم شيئًا من مقاصد الابتلاءات، سواء التي تمر بنا كأفراد أو التي تمر بشعوبنا كشعوب وجماعات، عليك أن تتذكر شيئًا من مقاصد الابتلاءات..
ومن مقاصدها: تصحيح مسارك التي أنت فيه سائر، سواء كانت شعوبًا أو كانوا أفرادًا، حين ترى الابتلاء تبدأ تفكر، هل الطريق الذي أمشي فيه طريق صحيح أو أني ظلمت نفسي أو أن بلادنا ظلمت نفسها لما ابتليت.. فعلينا أن نفكر دائمًا وأبدًا إذا ابتُليت بابتلاء، فإذا كان الابتلاء لكوني طائعًا فأصبر، أم هو ابتلاء لإرجاعي لطريق الله بعد شرودي عنه، يقول ربنا (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) [الروم: 41]، هكذا قال ربنا.
وقال في شأن أقوم: (وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ) [المؤمنون: 76] فأحيانًا تسلط عليك الابتلاءات لانحرافك حتى تستقيم على أمر الله، فإن السراء والعافية تُطغي بني آدم، قال تعالى ذكره: (كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآَهُ اسْتَغْنَى) [العلق: 6-7] فمن رأى نفسه مستغنيًا بدأ في الطغيان وبدأ في التكبر على العباد والتعالي عليهم.
وقال سبحانه: (ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ) [الزمر: 8]، وهكذا تتحدث الآيات في هذا المعنى، فالابتلاءات تُبتلى بها الأمم، وتُبتلى بها الشعوب كي تنظر الأمم والشعوب والأفراد في أمورهم، هل نحن مستقيمون على طريق الله، أم انحرفنا عن طريق الله؟! فالذي يسلّط الخوف هو الله، والذي يكشفه هو الله، والذي يسلط قومًا على قوم هو الله، والذي يصرف أذى قوم عن قوم هو الله..
قال تعالى ذكره: (وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ) [الفتح: 24] وقال: (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ) [النساء: 90]، وقال مذكّرًا بنعمة عظيمة: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ) [المائدة:11] فالذي يسلّط قومًا على قوم هو الله، والذي يصرف أذى قوم عن قوم هو الله، الذي يسلط عليك جارك المفسد هو الله، والذي يصرفه هو الله.. وهذا من مضامين معنى قول: "لا حول ولا قوة إلا بالله"؛ لا تحوُّل لشيء عن شيء إلا بالله، ولا قوة لشيء على شيء إلا بالله".
فتأتي الابتلاءات لتصحيح مسارك يا ابن آدم ومسار بلدك ومسار أمتك، قال تعالى ذكره: (وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ * ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آَبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ) [الأعراف: 94- 95] هكذا تتأتى الابتلاءات لتصحح لك مسارك يا ابن آدم، ولكي ترفع أكفّ الضراعة إلى الله بعد أن كنت غافلاً، أحيانًا تُبتلى بالمرض لمنعك من المعصية، ولو كان فرعون أخرس ما تلفظ بقول: (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى) [النازعات: 24] ولو كان مريضًا ذاهب العقل ما قال أبداً: (مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي) [القصص: 38] ولكنها العافية أورثته طغيانًا، عياذًا بالله من الجبروت ومن التكبر على العباد، عياذًا بالله مما يلهي ويطغي..
أيها الإخوة: ربكم بكم رحيم، لا تخفى عليه أموركم، ولا تخفى عليه أبداً أحوالكم، بل دومًا يذكرنا إياه بهذا الأصل الأصيل الذي مؤداه انه يعلم ما حل بالنبي (وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ * الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ * إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) [الشعراء: 217- 220]، (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ) [الحجر: 97- 98].
ولقد قال تعالى ذكره: (وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ) [إبراهيم: 42] فربنا ليس بغافل وأنت تُبتلى وتئن، ربنا ليس بغافل وأنت تخاف وتتوارى، ربك ليس بغافل.. ربك عليم، ربك خبير، ربك بصير..
أيها الإخوة: إن الابتلاءات والفتن من أجلّ مقاصدها تجريد التوحيد، فتعلم أن الذي يكشف الضر هو الله والذي يجيب المضطر هو الله، فإذا مرضت فدرت على طبيب بعد طبيب، ودرت على طبيب بعد طبيب، والكل باء بالفشل توقن أن الذي يكشف الضر هو الله، والذي يجيب المضطر هو الله.
كذلك إذا أُصبت بفقر فمددت اليد للناس هذا يمنعك، وهذا يقتر عليك، وهذا يعنفك، تعلم أن الرزاق هو الله ذو القوة المتين هو الله، فتسأله وترجوه، وتعلم قوله تمام العلم (فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ) [العنكبوت: 17].
إذا أُصبتَ بخوف وبذعر كما هو الحادث المنتشر في هذه الأيام، فاعلم أن الذي يُطعم من جوع ويُؤمن من خوف هو الله، فيُفترض ألا تغفل، ويُفترض أن تسأله الأمن والأمان والسلامة والإسلام، وتتعوذ بالله من الجوع فإنه بئس الضجيع، وتتعوذ بالله من الخوف ومن زوال النعم وحلول النقم وتحول العافية عنك.
فمن فوائد الابتلاءات: تجريد التوحيد، وإخلاص العبادة لله، وإحسان الالتجاء إلى الله، فنحن دائما وأبداً كما سلف في ابتلاء، أنا وأنت في عافية فنحن في ابتلاء العافية، هل نحمد الله ونقدم له الشكر !
إذا قمت من نومي حركت مفاصلي فإذا بها تتحرك حمدت الله، أقدم شكرًا، فغيري لا يستطيع أن يحرك مفاصله، قال عليه الصلاة والسلام مذكرًا "يصبح على كل سُلَامَى من أحدكم صدقة" وفي ابن آدم 360 مفصلاً، على كل مفصل منها صدقة، "أمر بمعروف صدقة، نهي عن منكر صدقة، بكل تسبيحة صدقة، بكل تحميدة صدقة، بكل تكبيرة صدقة، بكل تهليلة صدقة، ويجزئ من ذلك ركعتان يركعهما أحدكم من الضحى".
فإذا قمت والحمد لله معافى، فراشك سليم، تذكرت -إن كنت تعقل- أقوامًا فقدوا التحكم في عضلاتهم، وبال أحدهم على نفسه، وسال من أحدهم لعابه، فتذكر نعمة الله عليك..
لا تكاد تشعر بنعمة البصر إلا إذا ابتُليت في عينيك حينئذ إذا عُوفيت تحمد الله، قد تُكسر رجلك فتتمنى أن لو تمشى ولو على عكاز، وأنت معافى وأنت في عافية؛ فجدير بك أن تقدم لله الشكر.
إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: قال الله سبحانه "من ابتليته بحبيبته [يعني عينيه] فصبر أبدلته خيرًا منهما؛ الجنة".
أيها الإخوة: إياكم أن تغفلوا عن ذكر الله، وعن طاعة الله، فيتحول البلاء إلى عقوبة تحل بكم، فإن الهدم قد يحصل، قد تهدم عمارة فتُهدم على أقوام إكرامًا من الله لبعض من فيها كما قال عليه الصلاة والسلام "وصاحب الهدم شهيد"، وانتقامًا من الله لمن فيها أحيانًا كما قال سبحانه: (فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ..) [النحل: 26- 27].
إن حوادث السيارات قد تحدث وهي نوع عتب انتقامًا من بعض ركابها لفساد وإفساد، وقد تحدث إكرامًا لبعض من فيها إن هم صبروا، إن هم احتسبوا، إن هم رجعوا إلى خالقهم وإلى بارئهم.
أيها الإخوة: لقد أمرنا الله في كتابه العزيز بالتحاكم إلى شرعه وإلى كتابه، وحذرنا أيما تحذير من الانحراف عن ذلك، وبيّن لنا خطورة الانحراف، قال تعالى: (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ * أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) [المائدة: 49- 50].
أيها الإخوة: إن الله أمرنا بالاجتماع والالتفاف ما استطعنا إلى ذلك سبيلاً، وبيّن أن المرحومين من عباده لا يكادون يختلفون، قال تعالى: (وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ) [هود: 118 - 119].
فالمرحمون عليهم أن يجتمعوا إن تفرقوا واختلفوا؛ قد يأتيهم البلاء وقد يأتيهم العقاب، قال تعالى ذكره في كتابه الكريم: (وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) [آل عمران: 105]، وقال عز من قائل: (وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ) [الأنفال: 46].
أيها الإخوة: أطيعوا الله في أوقات الرخاء تُصرف عنكم الضراء وتُصرف عنكم الشدائد، فربكم يقول: (مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآَمَنْتُمْ) [النساء: 147]، وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون (وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) [الأنفال: 33]، فقولوا كلمة طيبة "الحمد لله.. الحمد لله"، يُصرف الله عنكم البلاء، يُصرف الله عنكم العذاب، اجعلوها لكم شعارًا تكتبوا في عباده الشاكرين، أكثروا من الاستغفار (مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآَمَنْتُمْ) [النساء: 147].
استغفروا ربكم إنه كان غفارًا..
الخطبة الثانية:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
أيها الإخوة: ليكن الله منكم دومًا على بالٍ، فاسألوا الله أن يرزقكم طاعته، ليكن منكم دومًا على بال إذا كنتم مطيعين لله قوله تعالى: (لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) [النور: 11] ليكن منكم هذا الأصل الأصيل على بالٍ، والله يعلم وأنتم لا تعلمون.
ليكن منكم هذا الأصل الأصيل على بال: (وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) [البقرة: 216] فإذا كنتم مطيعين لله فكونوا من ثَم راضين بقضاء الله، صابرين على بلاء الله، إن كنتم في غنى احرصوا على شكر الله حتى تستنزل عليكم نعمه، وكما قال ربكم: (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ) [إبراهيم: 7].
إن الشدائد تمر بالأمم وتمر بالأفراد والجماعات لإرجاعهم إلى طريق الله، ولتصحيح مسارهم إن أراد الله بهم خيرًا، أما إن أراد بهم نقمة، فإنها عياذًا بالله عقوبة وابتلاء. ونذكر بأن الابتلاءات بالخير والشر يجب أن نكون معها حذرين، ابتلاءات بالنعماء نحذر معها أشد الحذر، وابتلاءات بالضراء نحذر منها كذلك أشد الحذر..
أذكّر بغزوة بدر التي فيها نصر عظيم للإسلام والمسلمين، وهي يوم الفرقان (يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [الأنفال: 41] ففي جملتها من فضل الله غزوة طيبة ومباركة، ولكن يجب التفطن بكل خير يحل بك، وبعد الغزوة ماذا كان.. استشار الرسول أصحابه "ماذا ترون أن نصنع في هؤلاء ؟" فقال بعضهم: يا رسول الله والقائل أبو بكر: "أبناء العم والعشيرة، نقبل منهم الفدية، تكون عونًا لنا عليهم، وأيضًا نبقى للرحم صلة"، أو كما قال، وأشار آخرون بمثل مشورة أبي بكر. قال عمر:" أرى غير أصحابي، أرى أن تمكنني من فلان قريب لي فأقتله، وتمكن عليًّا من قريب له فيقتله، وتمكن حمزة من قريب له فيقتله".
فجنح النبي إلى رأي أبي بكر، وفي الغد جاء عمر إلى رسول الله وأبو بكر رضي الله عنه وكلاهما يبكيان بكاء شديدًا، يبكيان عقب نصر المسلمين، قال عمر يا رسول الله: ما يبكيكما؟ أخبرني يا رسول الله عن سبب هذا البكاء؟ قال: "والله يا عمر لقد عرض عليّ عذاب أصحابك أدنى من هذه الشجرة؛ لكوننا قبلنا الفدية، ولو نجا منا أحد لكان أنت يا ابن الخطاب"، وأنزل تعالى ذكره: (مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآَخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) [الأنفال: 67- 68].
هكذا أنزل الله تعالى، ثم تمخضت غزوة بدر عن شيء آخر قد يكون فيه نوع ضرر للمسلمين، وهو أن أقوامًا كثيرين من أهل النفاق دخلوا في الإسلام ليس عن حبّ للإسلام منهم أبدًا، بل للكيد للإسلام كعبد الله بن أبي بن سلول. ثم تأتي غزوة أحد فإذا الذين دخلوا الإسلام عن كراهية يخذلون رسول الله وصدق الله: (لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) [التوبة: 47] وانسحب ابن سلول بثلث الجيش تقريبًا، ثم أحل الله بالمسلمين ما أحل يوم أحد، وكانت شديدة على رسول الله عليه الصلاة والسلام أن يُبتلى بقتل عمه حمزة، وأن يفجر بطنه، وتُستخرج الكبد، وتنهشه امرأة بأسنانها، ويأبى الله أن يدخل شيء من كبد حمزة إلى جوف هذه المرأة. ويُشجّ رأس النبي الكريم، وتكسر رباعيته، ويقوم قائم الكفار "اعل هبل.. اعل هبل" ويقول: "لنا العزى ولا عزى لكم"..
ابتلاء شديد، ابتلاء شديد، وكان من أسبابه قبول الفدية من الكفار، وكان من أسبابه عصيان بعض الصحابة الرماة، الرماة عصوا أمر رسول الله لما أمرهم ألا يبرحوا مواقعهم فعصوه، وشاركوا الغنيمة، فاستدار عليهم عدوهم رضي الله عنهم.
لكن كان فيه من الحكم والغايات حكم عظيمة في غزوة أحد، وإن شُجّ فيها رأس النبي صلى الله عليه وسلم، وكُسرت رباعيته وهو المطيع لله الطائع له عليه صلوات الله وسلامه، فذكر العلماء حِكمًا عظيمة لغزوة أحد.. منها أن المعصية شؤم..
فإن كنت عاصيًا وعصيت ربك وعصيت رسولك، فإن شؤم المعصية يحل بك، لما عصى الرماة رسولهم حل بهم ما حل، ثم أظهرت غزوة أحد المنافقين من الأتقياء، قال تعالى: (مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ) [آل عمران: 179].
ثم لو سلم الله المسلمين في كل الغزوات ونصرهم في كل المواقع، لدخل فيهم من ليس منهم، ولاختلط الحابل بالنابل، ثم إن الله اتخذ شهداء من أهل الإيمان، كما قال أنس بن النضر، ورأى انكشافًا في أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام، وقد كان عاهد الله من قبل: "لئن أراني الله موقعًا مع رسول الله ليرين الله ما أصنع"، ففي الغزوة رأى انكشافًا في الصحابة، ورأى سعد بن معاذ الذي اهتز له العرش وهو منصرف قال له: يا سعد إلى أين تذهب يا سعد؟ والله يا سعد بن معاذ إني لأشم رائحة الجنة خلف جبل أحد، وتقدم لا يبالي بالسهام المطلقة عليه من كل صوب وحدب في وجهه، في صدره، حتى مُزِّق تمزيقًا وفيه نزل: (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا * لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا) [الأحزاب: 23- 24].
ومن فوائدها أن الشخص الفاضل قد تذل قدمه، فيستغفر فيقبل الله عذره وتوبته، لقد قال تعالى ذكره في كتابه الكريم: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ) [آل عمران: 155].
تخيل أن منهم مبشرًا بالجنة هو عثمان بن عفان الصحابي ذو النورين، ينقلب يوم أحد مع طائفة من الصحابة لكن يمن الله عليه بالعفو (إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ) [آل عمران: 155].
فالبار التقي قد تصدر منه ذلة قدم فيستغفر فيمُنّ الله عليه بمغفرتها، فلا نيأس من رحمة الله، ولا نقنط أبدًا من رحمة الله، ففيها الحكم وفيها الغايات، ومن الفوائد فيها أن الشيطان يستذل بالكسب السيئ إن لم تتب منه، ذلك بأن الله قال (إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا) [آل عمران: 155].
قال العلماء في تفسيرها: "عندما نزل الرماة يشاركون في الغنيمة، واستدار عليهم عدوهم، وكان قائدهم آنذاك خالد بن الوليد قائد أهل الشرك آنذاك، استدار عليهم من الخلف فجاءوا يقاومونه فجاءهم الشيطان في هذا الموقف، وقال: كيف تقاتلون يا مسلمون وأنتم عصيتم رسولكم، انصرفوا وتوبوا لا تقاتلوا على معصية، فاستذلهم الشيطان بذنبهم الأول إلى كبيرة غُفرت (إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا) [آل عمران: 155].
فكان من الجدير بك أن تستغفر الله من أي معصية ألمت بك؛ حتى لا يعظمها الشيطان في نفسك فتقع في كبيرة، قد تنظر إلى امرأة تمشي في الطريق فيغريك الشيطان بالنظر إليها، إذا زينها الشيطان لك يومًا بعد يوم، فعليك بمحو آثار الذنب بالتوبة والاستغفار.
(لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ) [النور: 11] إن حادث الإفك المؤلم الذي فيه نَيْل من عِرض الرسول عليه الصلاة والسلام واتُهمت عائشة بالفاحشة له حِكَم وغايات، رفعت درجات وما لها من مناقب؛ إذ نزل فيها قرآن يُتلى إلى يوم الدين، قرآن يتلى في المحاريب، وفي الكتاتيب يدرس، وفي التفاسير يفسر في فضل عائشة رضي الله عنها.
ونتعلم منه آداب (لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ) [النور: 12] فنتعلم التثبت ولا نغفل الشائعات ولا نقول بألسنتنا فيما لا علم لنا به، ونحافظ على أعراض المسلمين، صدق الله إذ قال: (لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ). فالمصائب تمر بالمؤمن التقي لرفعة درجاته، طُلقت المرأة الكريمة زينب بنت جحش رضي الله عنها من زوجها زيد بن حارثة حِبّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، الطلاق مؤلم كما لا يخفى عليكم، ولكن ما تلبث إلا ونزل فرج الله سبحانه وزوَّجَها ربنا من فوق سبع سماوات (فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا) [الأحزاب: 37].
وهكذا يصيب الله المستقيم، ويصيب الله الطائعين، وتُبتلى صفية بنت حيي بن أخطب الإسرائيلية في غزوة بني قريظة، كانت مخطوبة لابن عمها فيُقتل ابن عمها اليهودي، ويُقتل أبوها بكفرهما، ولكن لصلاحٍ يعلمه الله سبحانه فيها ما تلبث إلا وأن تُكرم بالزواج بسيد ولد آدم محمد بن عبد الله عليه صلوات الله وسلامه.
وكذلك جويرية بنت الحارث المصطلق تُبتلى بقتل والدها وبعض من قومها، فتأتي الرسول تطلب منه بعض المساعدات لإقالة عسرتها، فتُكرم بالزواج من رسول الله عليه الصلاة والسلام ويُكرم قومها لما علم الصحابة أن النبي تزوجها فأطلقوا الأسرى من قومها، ومنّوا عليهم بالمال والعطايا قائلين: أصهار رسول الله عليه الصلاة والسلام.
فيا عبد الله: كن دومًا راضيًا بقضاء الله، فقدت ولدًا من أولادك فارضَ بقضاء الله إن صبرت واحتسبت فهو ذُخر لك، ابتُليت في بدنك كن حامدًا ترتفع لك الدرجات، ابتُليت بهموم وغموم كن صابرًا تحط عنك الخطايا وترتفع لك الدرجات.
إخواني: علينا جميعًا أن نصحح المسارات التي نسير فيها، وتصححها أمتنا، فعلى أمتنا أن تعيد النظر في كل أمر هي عليه، هل هي على طريق مستقيم؟ هل هي لربها مطيعة أم لا؟ إذا كانت مطيعة لله، فنعم الموكب الكريم موكب السائرين على طاعة، وإن كانت أمتنا شاردة ما بين ليبيرالي وعلماني ومرقسي وناصري، وغير ذلك فإنّا لله وإنّا إليه راجعون..
وعليهم أن يفيقوا وعليكم أن تجدوا وتجتهدوا حتى لا تُخرق سفينة بلادنا فتغرق بسبب السفهاء الذين هم فيهم، قال النبي المعصوم عليه الصلاة والسلام: " الْقَائِمُ عَلَى حُدُودِ اللَّهِ وَالْوَاقِعُ فِيهَا كَمَثَلِ قَوْمٍ اسْتَهَمُوا عَلَى سَفِينَةٍ ، فَأَصَابَ بَعْضُهُمْ أَعْلاهَا، وَأَصَابَ بَعْضُهُمْ أَسْفَلَهَا، فَكَانَ الَّذِينَ فِي أَسْفَلِهَا إِذَا اسْتَقَوُا الْمَاءَ فَمَرُّوا عَلَى مَنْ فَوْقَهُمْ وَآذَوْهُمْ، فَقَالُوا: لَوْ أَنَّا خَرَقْنَا فِي نَصِيبِنَا خَرْقًا فَاسْتَقَيْنَا وَلَمْ نُؤْذِ مَنْ فَوْقَنَا، فَإِنْ تَرَكُوهُمْ وَمَا أَرَادُوا هَلَكُوا جَمِيعًا، وَإِنْ أَخَذُوا عَلَى أَيْدِيهِمْ نَجَوْا جَمِيعًا".
فيا أيها الإخوة انصروا الله ينصركم، كونوا أنصار الله، اعتصموا بالله هو مولاكم نعم المولى ونعم النصير، لا يكن أحدكم أبدًا سلبيًّا، بل كن آمرًا بالمعروف ناهيًا عن المنكر، خذ من وقتك وقتًا لنصرة دينك، ومن مالك مالاً لنصرة دينك، ومن وجاهتك وجاهة لنصرة دينك، ولن يتركم الله أعمالكم ولن يضيعكم (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ * وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ) [الصافات: 171- 173].
اللهم مسّكنا بالعروة الوثقى حتى نلقاك..
التعليقات
زائر
19-03-2021خطبه اكثر من راااااااائعه