اقتباس
من الواضح أنّ الإعلام - والإعلام الجديد خاصةً- قد لعب دوراً مؤثرا في اندثار معالم فقه السنن الكونية، وخاصة سنة التدافع؛ لأنه من جهة لا يملك تصور سليم لرسالة الإعلام أصلا، ويسير من طرف من لا يملكون عادة نظرة منطقية للأحداث، ويهتمون بقضايا المهنة من جانبها المادي والتقني أكثر من شيء آخر، فضلا عن فقدانهم عادة للرؤية السليمة وفق المنظور القرآني؛ ومن جهة ثانية لأن الإعلام اليوم..
الخلل في التصور والفكر يؤدي عادة إلى خلل في السلوك، وهذه السلوكات المختلة تؤدي إلى نتائج سلبية وثمار فاسدة، وتزداد خطورة الأمر إذا صار هذا الخلل منظومة فكرية يسير وفقها المجتمع؛ لأنه يؤدي إلى ضلال المجتمع سلوكيا، ويراكم نتائج قد يصبح تغييرها أو تجاوزها في لحظة ما وبالطرق العادية أمرا شبه مستحيل؛ ولأن الإسلام يتبنى المنهج الوقائي قبل الإجرائي، فإنه يحارب مثل هذه المخاطر على مستوى التصور والإدراك، قبل تحولها إلى أعمال وأفعال ضارة مضرة، ولهذا فإن ظاهرة عدم فهم الصراع في الحياة تعالج على مستوى المنظومة التربوية أساسا، وأي معالجة تقفز على هذه الحقيقة تكون ضربا من العبث، وهذا ما سنحاول بيانه في هذا المقال.
ولأن خطباء المساجد أهم من يلتقي بجموع المسلمين في كل مكان وكل أسبوع، في ديار الإسلام، وفي ديار الغربة، فإن الأمل يبقى فيهم، لتوجيه فكر المسلمين نحو تبني تصورات صحيحة عن الحياة، وخاصة عن حقيقة الصراع بين المسلمين والكفار، فالكثير من عامة المسلمين يعيش تخبطا واضحا عند التفاعل مع قضية الصدام مع الخصوم الحضاريين للأمة الإسلامية، وبعضهم يعيش يأسا خانقا، هنا يبرز دور الخطيب في الوقوف مع جموع المسلمين، وتنوير أفكارهم بالهدي القرآني المبين، ولو قام كل خطيب بهذا الدور لاختصر على الأمة مسافات زمنية هائلة في بناء الوعي وفق الهدي القرآني الكريم.
واقع ظاهرة الصراع في العالم الإسلامي:
يعتقدُ الكثير ممن يحسبون على الفئة المثقفة في العالم الإسلامي والذين يخوضون في بعض الظواهرِ الاجتماعية، والسياسيةِ، أنّ العصورَ السابقة كانت أحسن من المراحل الزمنية المتأخرة - العقود الأخيرة خاصّةً- وأن الزمن الحالي زمن الشرور والدمار بصورة تكاد مطلقة، ويروجون لهذا الطرح في كتاباتهم وندواتهم بصورة باتت تهدد السلامة الفكرية والنفسية للمسلم، وبدل التركيز على الواقع الحالي فإنهم يدفعون بالأجيال الحالية إلى الهروب من الواقع، وجعلهم في حالة شلل فكري، أدى إلى زعزعة التصور الجماعي السليم للحياة والكون والإنسان، وجعلهم يتبنون تصورات خاطئة وسلبية عن حقيقة الحياة ومعانيها في الماضي والحاضر، أنتجت في الأخير أجيالا تعاني من أمراض فكرية كثيرة، كانت سببا في ظهور سلوكات منحرفة كالإلحاد والانحرافات الأخلاقية، والآفات الاجتماعية، ما يستوجب من المثقفين ثقافة سليمة مطعمة بالمفاهيم الأصلية التصدي لهذا الخطاب الذي يحرض على التدمير الذاتي للفرد والمجتمع.
ويمكن توضيح بعض الحقائق التاريخية التي تساهم في دحض هذه التصور الهدام، الذي تتدفق تأثيراته على العقل المسلم يوميا من خلال التركيز على ذكر بعض الحقائق التي يركز عليها الخطاب القرآني، ومنها:
سنة التدافع سنة كونية:
أولا: لا يمكنُ الجزم بخيرية الحياة السابقة بشكل مطلق، كما لا يمكن الادعاء أنها كانت سيئة بصورة مطلقة، فالحياة مبنية أساساً على تمازج مطلق بين الخير والشرّ -كما هو مقرّر ومؤصّل عند علماء المقاصد- عكس الحياة الأخرى، التي بُنيت على مصالح محضة، ومفاسدة محضة، كما أن القرآن الكريم يقرر حقيقة كونية لا تتخلف، وهي أن الصراع بين الحق والباطل، وبين المصلحين والمفسدين سنة كونية لا يمكن أن تتخلف، يقول الله تعالى: "ونبلوكم بالخير والشر فتنة".
الأثار السلبية للجهل بسنة التدافع:
والقرآن الكريم إذ يقرر هذه السنة الكونية، أي سنة التدافع، فإنه بذلك يوجه الإنسان المسلم إلى عدم الاشتغال بالأثار السلبية للصراعات اشتغالا نهائيا، وينهاه عن تبني التذمر كلغة مواجهة، أو التسخط كأسلوب للتفاعل، أو اليأس كأفق أخير؛ لأن تبني هذه الأساليب في التفاعل مع مخلفات الصراع بين المسلمين وأعدائهم ولَّد حالة من العجز على مستوى الفعل داخل المجتمعات المسلمة، وولد مشكلات فردية متراكمة على مستوى الفكر، من بينها مشكلة الإلحاد، التي تعد ثمرة لعدم إدراك حقيقة الحياة، وولّ مشكلات سلوكية: أهمها مشكلة الهروب من مواجهة الواقع والتي تؤدي حتما إلى الوقوع في فخ الآفات الاجتماعية، والانحراف الأخلاقي.
وبالتالي فإن بصر المسلم بمفهوم سنة التدافع والصراع على الأرض بين قوى الخير والشر -وفق المنظور القرآني لا البشري- وحقيقة الصراع على وجه الأرض يجعله مرتاحا نفسيا، مقبلا على الحياة غير مدبر، صابرا في ميادين المواجهة.
الصحابة وسنة التدافع:
عندما لم يدرك بعض الصحابة سنة التدافع، ظنوا أن التواجد ضمن دائرة أهل الحق كاف لتحقيق النصر، وهو المفهوم الذي جعل بعضهم يستعجل الغلبة والانتصار على خصوم الرسالة الخاتمة، أخرج البخاري في صحيحه عن خباب بن الأرت قال: "شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة قلنا له: ألا تستنصر لنا، ألا تدعو الله لنا؟ قال: كان الرجل فيمن قبلكم يحفر له في الأرض فيجعل فيه فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيشق باثنين وما يصده ذلك عن دينه، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظم أو عصب وما يصده ذلك عن دينه، والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون".
هذه الحادثة تظهر بوضوح أن ردة فعل أحد الصحابة السابقين إلى الإسلام انطلق من منطلق يفترض أن وقوف الإنسان في صف الحق وأهله أمر كاف لاستنزال النصر، وهو مفهوم يخالف سنة كونية خالدة هي سنة التدافع؛ لذلك رحل به النبي –صلى الله عليه وسلم- إلى التاريخ الغابر، وضرب له مثالا بالابتلاءات العظيمة التي كان يتعرض لها أهل الحق والخير في سبيل نشر مباديء الإسلام، وتدل إجابة النبي –صلى الله عليه وسلم- إن أفضل علاج لظاهرة الاستعجال أو اليأس بين المسلمين هي تعليمهم حقيقة سنة التدافع، التي تستوجب الطمأنينة النفسية، وتبعث على العمل؛ لأن المسلم الذي يدرك أن الدنيا هي أصلا محل للابتلاءات، يتوجه فكره إلى العمل على التغير ذاتيا نحو الأحسن، وتبني فكر إيجابي يثمر أفعالا نافعة، ويبعثه بعد ذلك على الاجتهاد لأجل إصلاح الواقع والتصدي له، وفق السنن الكونية، وأفقه الأعلى لا يقف عند الحياة الدنيا، بل يتواصل مع عالم الغيب، فإن عجز اليوم عن التغيير استمطر العون من الله تعالى، وطلب المدد الرباني، وإن تأجل النصر لم يتخبط في ظلمات القلق؛ لأنه يدرك حقيقة كونية أخرى هي: " والعاقبة للمتقين".
الإعلام وتغطية مفهوم سنة التدافع:
من الواضح أنّ الإعلام - والإعلام الجديد خاصةً- قد لعب دوراً مؤثرا في اندثار معالم فقه السنن الكونية، وخاصة سنة التدافع؛ لأنه من جهة لا يملك تصور سليم لرسالة الإعلام أصلا، ويسير من طرف من لا يملكون عادة نظرة منطقية للأحداث، ويهتمون بقضايا المهنة من جانبها المادي والتقني أكثر من شيء آخر، فضلا عن فقدانهم عادة للرؤية السليمة وفق المنظور القرآني؛ ومن جهة ثانية لأن الإعلام اليوم وبجل أشكاله المتواجدة في الساحة يتيح للجميع -وفي كل مكان وزمان- معرفة الخبر، وأحيانا أبعاد الحدث، وهو ما لم يكن متاحا للسابقين بالشكل الذي نراه اليوم، ويركز الإعلام على الأخبار السلبية بشكل سلبي؛ لأنه يفتقد إلى استراتيجية وتصور ورؤية، ما يجعله بعيدا عن مراعاة نفسيات المسلمين، ومراعاة حقائق الصراع على الأرض.
هل نحن أفضل حالا من العصور السابقة؟
إن الذي يدرس كتاب المقدمة لابن خلدون يدرك أنّ الذين سبقونا قد عاشوا أهوالا فاقت في الكثير من المرات ما نعيشه اليوم، ومن درس مثلا: تاريخ الدولة الحفصية يجد أنّ النزاعات والفوضى كانت حدثا شبه يومي في ذلك العصر، ويكتشف أنّ الاستبداد والفساد والظلم وصل إلى كل فئات المجتمع، وعلى سبيل المثال: كان طلبُ العلم يكاد خاصا بالذكور، وكانت نساء القصر ممنوعات من التعلم -يسمح لهن بتعلم القراءة والكتابة فقط- والطلب، وكانت الاغتيالات والمعارك لا تتوقف، وكان الخراب والدمار يعم الكثير من الحواضر والمدن، بصورة لو تم تصويرها في العصر الحالي لأدرك الكثيرون أن عصرنا ليس بذلك السوء، ومن جهة أخرى لاهتم الناس بسنن التغيير والإصلاح أكثر من اهتمامهم بشتم الواقع والتذمر منه.
ولو رجعنا إلى القرآن الكريم لوجدنا في سورة البروج ما يؤكد على أن سنة الابتلاء ثابتة وماضية إلى يوم القيامة، بل ويؤكد القرآن الكريم أن بعض النهايات انتهت على أبشع صورة، يقول الله تعالى: " وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ * وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ * وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ * قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ *النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ * إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ * وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ * وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ * الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ? وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ" [سورة البروج الآيات من 1 إلى8]، إنها آيات عظيمة، أقسم الله في مقدمتها بمنازل السماء، ولا يقسم الله إلا بعظيم، وإذا كان الحديث في شيء هام يريد لفت المستمع إليه، ومضمون الآيات واضح، يعيه كل من يفقه بلاغة القرآن الكريم، ومعناه أن هذه الحياة قد شهدت نهايات مأساوية للكثير من المسلمين في صراعهم مع الباطل؛ ومع ذلك يبشر الله عزّ وجل المؤمنين بالجنة والحياة الطيبة في ظله يوم القيامة، وهذا مما يبعث السلام والطمأنينة في قلب المؤمن فيقبل على الحياة، ويخوض غمارها، ويكون عنصرا عاما في سنة التدافع، مقبلا غير مدبر، بعد أن اطمأن قلبه، وارتاحت نفسه، واستقام فقهه لسنة التدافع على هذه الأرض.
ومما سبق يتضحُ أنّ الكثير من التصورات التي يبنيها الفرد المعاصر حول ظواهر حضارية واجتماعية وسياسية معاصرة، ويصدر فيها أحكاما قطعية، إنما هي نتيجة حتمية لعدم فهمه السنن الكونية التي تحكم الحياة؛ من بينها إهماله قراءة أحداث الحياة في ظل فقه السنن الكونية؛ ولذلك يطالب الفرد باستقراء الظاهرة التي يريد الحديث عنها، ثم رصد المادة بشكل متزن ومؤصل، ثم ينطلق في عملية التشريح والتحليل والاستنتاج وفق هذه السنن، بدل بناء تصور معين انطلاقا من: منهج التفكير بالمزاج، والتفاعل بأسلوب التسخط.
إن امتلاك المسلم تصورا واضحا عن سنة التدافع يجعله يعيش سلاما نفسيا كبيرا، يبعث فيه روح التفاؤل والمقاومة، ويدفعه نحو الأفعال الإيجابية، وهذا يسهم في البناء الحضاري، ويسهم في صيانة المجتمع المسلم والدولة، فالمجتمع المسلم الذي يمتلك أفراده تصورات واضحة عن كل ظواهر الحياة، لاشك أنه مجتمع يستحيل هزيمته من أعتى خصومه.
المناهج الدراسية وسنة التدافع:
أحد المآسي التي تعيشها أمة الإسلام اليوم أن من يرسم المناهج التربوية فيها، ويخطط للمنهاج العام، يقر أنها يجب أن تراعي الجانب الفلسفي والثقافي والهوياتي والحضاري للمسلمين، لكن عند التفتيش في الكتب التي يدرسها الأطفال والشباب في العالم الإسلامي يجد أنها لا تتحدث عادة عن كيفية بناء عقل مسلم وفق السنن الكونية، التي تعد أساس الاستخلاف، من أخذ بها ساد الدنيا، وكان رائدها، ومن تخلف عنها وقع تحت سيطرة خصومه.
وإصلاح هذه الثغرة الكبيرة والخطيرة يحتاج في حقيقة الأمر جهودا كبيرة، قد تستغرق مدة زمنية غير يسيرة، ومخصصات بشرية ومالية ضخمة، حتى تنسج وتبنى وفق قواعد الإحسان، وهذا من المشاريع العظيمة التي تستحق الاهتمام والتخطيط والتمويل والمتابعة، وحبذا لو تسبقها محاضرات وندوات ومؤتمرات، من خبراء يملكون تصورا واضحا عن كيفية وضع مناهج دراسية، تراعي السنن الكونية، وتسعى إلى وضع رؤى واضحة لمختلف الظواهر الكونية والإنسانية والاجتماعية.
ولو نجح الأمر ولو على مستوى التنظير فإنه سيختصر على الأمة قرونا من العمل، فالتنظيم والتخطيط والعمل وفق رؤية واضحة من سنن البناء التي وضعها الله عز وجلّ في هذه الحياة، ولو نسارع في تبني المشروع وتجسيده فإننا نكون قد قدمنا عملا عظيما لهذه الأمة سيغير واقعها بإذن الله تعالى.
التعليقات