سعد بن معاذ

ناصر بن محمد الأحمد

2011-02-17 - 1432/03/14
التصنيفات: شخصيات مؤثرة
عناصر الخطبة
1/ تعريف بسعد بن معاذ -رضي الله عنه- وكيف أسلم 2/ دعمه للنبي -صلى الله عليه وسلم- في غزوة بدر 3/ حكمه في يهود بني قريظة 4/ تزكية النبي -صلى الله عليه وسلم- وثناؤه عليه 5/ وفاته -رضي الله عنه- واهتزاز عرش الرحمن لموته 6/ فوائد تربوية من سيرة سعد ومواقفه
اهداف الخطبة

اقتباس

إن هذا الصحابي الجليل قد استُشهد وهو في ريعان شبابه، فقد كان في السابعة والثلاثين من عمره يوم وافته منيته، وهذا يعني أنه قاد قومه إلى الإسلام وهو في الثلاثين من عمره، وإنما تنفجر الطاقات الكامنة والمواهب بعد سن الأربعين التي هي غاية الرشد، فأي طراز هذا الذي حفل تاريخه بهذه المآثر؟!

 

 

 

 

إن الحمد لله... 

أما بعد:

أيها المسلمون: عندما اختار الله تعالى نبيه -صلى الله عليه وسلم- واصطفاه لحمل رسالته، أتم نعمته عليه وعلينا، فاصطفى أناسًا من صفوة الخلق، ليحملوا معه مشعل الهداية، ويقودوا الناس إلى الحق، ويجنبوهم طريق الغواية، فكانوا بحق أُسد الوغى، وشعار التقوى، ونبراس الورى، رضي الله عنهم وأرضاهم. كانوا جيلاً فريدًا بين الأجيال، تحمّلوا في سبيل الله ما تعجز عن تحمله رواسي الجبال، فحملوا الراية، وذادوا عنها بقوة الأشاوس، وبسالة الأبطال.

وإليكم قصة أحدهم -ولم يكن أفضلهم- أسوق سيرته كالأنموذج والمثال. لقد كان سيدًا كبيرًا، أبلى في الإسلام بلاءً حسنًا، حتى مات شهيدًا، له المناقب الكثيرة، والفضائل الغزيرة، إنه سعد بن معاذ، الأنصاري الأوسي البدري الأشهلي -رضي الله عنه-. عاش سبعًا وثلاثين سنةً فقط، كانت حياته في الإسلام قصيرةً بحيث لم تزد على سبع سنوات؛ لذا فإن ذكره كان قليلاً بالنسبة إلى الصحابة الذين عمّروا في الإسلام، فخاضوا المعارك، وقادوا الفتوح، ولو عاش طويلاً فلربما كان له أثر أكبر، ومع ذلك كان يُعدُّ بين الأنصار كأبي بكر بين المهاجرين.

أسلم سعد بن معاذ على يد مصعب بن عمير -رضي الله عنهما-، وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعث مصعبًا إلى المدينة بعد بيعة العقبة الأولى، وأمره أن يقرئهم القرآن ويعلمهم الإسلام ويفقههم في الدين، فنزل مصعب على أسعد بن زُرارة، وكان يسمى بالمدينة المقرئ، وكان يصلي بهم، فخرج أسعد بن زرارة بمصعب بن عمير يريد دار بني عبد الأشهل، ودار بني ظفر، فدخل به حائطًا من حوائط بني ظَفَر، فجلسا في الحائط، واجتمع إليهما رجالٌ ممن أسلم، وسعد بن معاذ وأسيد بن حضير يومئذٍ سيدا قومهما من بني الأشهل، وكلاهما على دين قومه، فلمّا سمعا به قال سعد بن معاذ لأسيد بن حضير: لا أبا لك، انطلق بنا إلى هذين الرجلين الذين قد أتيا دارينا ليسفّها ضُعفاءنا، فازجرهما وانههما عن أن يأتيا دارينا، فإنه لولا أسعد بن زرارة مني حيث علمت كفيتُك ذلك، هو ابن خالتي، ولا أجد عليه مَقدَمًا.

فأخذ أسيد بن حضير حربته، ثم أقبل إليهما، فلما رآه أسعد بن زرارة قال لمصعب: إن جَلس فَكلّمه، فوقف عليهما متشتّمًا، فقال: ما جاء بكما إلينا؟! تسفهان ضُعفاءنا؟! اعتزلانا إن كانت لكما بأنفسكما حاجة. فقال له مصعب: أو تجلس فتسمع، فإن رضيت أمرًا قبلته، وإن كرهته كُفّ عنك ما تكره. قال: أنصفت. ثم ركز حربته وجلس إليهما، فكلّمه مصعب بالإسلام، وقرأ عليه القرآن، فقالا في نفسيهما: والله لقد عرفنا في وجهه الإسلام قبل أن يتكلم، في إشراقه وتَسَهُّلِه، ثم قال: ما أحسن هذا وأجمله!! كيف تصنعون كي تدخلوا في هذا الدين؟! قالا له: تغتسل فتتطهر، وتشهد شهادة الحق، فقام فركع ركعتين، ثم قال لهما: إن ورائي رجلاً إن اتّبَعَكُما لم يتخلف عنه أحد من قومه، وسأرسله إليكما الآن، وهو سعد بن معاذ، ثم أخذ حربته وانصرف إلى سعد وقومِه وهم جلوس في ناديهم، فلما نظر إليه سعد بن معاذ مقبلاً، قال: أحلف بالله، لقد جاءكم أسيد بن حضير بغير الوجه الذي ذهب به من عندِكم. فلما وقف على النادي قال له سعد: ما فعلت؟! قال: كلمت الرجلين، فوالله ما رأيت بهما بأسًا، وقد نهيتهما فقالا: نفعل ما أحببت. وقد حُدِّثتُ أن بني حارثة قد خرجوا إلى أسعد بنِ زرارة ليقتلوه، وذلك أنهم عرفوا أنه ابن خالتك ليَخفِروك.

قال: فقام سعد بن معاذ مُغضبًا مبادرًا تخوفًا للذي ذكر له من بني حارثة، فأخذ الحربة في يده ثم قال: والله ما أراكَ أغنيت شيئًا. ثم خرج إليهما، فلما رآهما سعد مطمئنين، عرف سعدٌ أن أسيدًا إنما أراد منه أن يَسمع منهما، فوقف عليهما متشتمًا، ثم قال لأسعد بن زرارة: يا أبا أمامة: أما والله لولا ما بيني وبينك من القرابة ما رُمتَ هذا مني، أتغشانا في دارنا بما نكره؟! وقد قال أسعد بن زرارة لمصعب بن عمير: أي مصعب: جاءك والله سيدٌ مِنْ ورائه قومُه، وإن يتبعْكَ لا يتخلفْ عنك منهم اثنان. فقال له مصعب: أو تقعد فتسمع، فإن رضيت أمرًا ورغبت فيه قبلته، وإن كرهته عزلنا عنك ما تكره. قال سعد: أنصفت. ثم ركز حربته وجلس، فعرض عليه الإسلام، وقرأ عليه القرآن، قالا: فعرفنا في وجهه الإسلام قبل أن يتكلم لإشراقه وتسهله، ثم قال لهما: كيف تصنعون إذا أنتم أسلمتم ودخلتم في هذا الدين؟! قالا: تغتسل فتتطهر وتطهر ثوبك، ثم تشهد شهادة الحق، ثم قام فركع ركعتين، ثم أخذ حربته، فأقبل عامدًا إلى نادي قومه ومعه أسيد بن الحضير، فلما رآه قومه مقبلاً قالوا: نحلف بالله، لقد رجع إليكم سعد بغير الوجه الذي ذهب به من عندِكم. فلما وقف عليهم قال: يا بني عبد الأشهل: كيف تعلمون أمري منكم؟! قالوا: سيدُنا وأوصَلُنا، أفضلُنا رأيًا، وأيمنُنا نَقِيبةً. قال: فإن كلامكم عليّ حرامٌ حتى تؤمنوا بالله ورسوله. فما أمسى في دار بني عبد الأشهل رجلٌ ولا امرأةٌ إلا مسلمٌ أو مسلمة. وكان إسلامه حين أسلم قبل الهجرة بعامين.

وبعد أن أسلم سعد بن معاذ -رضي الله عنه- انتقل مصعب بن عمير إلى بيته الذي أصبح المركز الإسلامي في المدينة. أسلم سعد وعمره ثلاثون عامًا، وترك دفعة واحدة ماضيه الجاهلي، وانتقل إلى الإسلام دفعة واحدة بكل جوارحه، وكأنه ولد يومذاك، وما عرف عنه في حياته الباقية أن مرت عليه لحظة فيها جاهلية أو رواسب منها. وهكذا يستطيع إنسان إن صَدَقَ مع الله وأخلص، أن يفعل ما لا يفعله عدد كبير من الرجال، فقد استطاع مصعب بن عمير أن يؤثر في أهل يثرب جميعًا، واستطاع سعد أن ينقل قبيلة كاملة من ظلام الجهل إلى نور الإسلام.

أيها المسلمون: شهد سعد بن معاذ المشاهد مع النبي -صلى الله عليه وسلم-، وله مواقف مشرّفة في هذه المشاهد، من ذلك موقفه -رضي الله عنه- في غزوة بدر، بعد أن قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أشيروا عليّ أيها الناس"، فتكلم أبو بكر وعمر والمقداد بن عمرو -رضي الله عنهم-، ولكنه -عليه الصلاة والسلام- كرر مقولته: "أشيروا علي أيها الناس"، وإنما يريد الأنصار. فأدرك سعد بن معاذ -رضي الله عنه- مراد الرسول -صلى الله عليه وسلم-، فقال سعد: "والله لكأنك تريدنا يا رسول الله؟!"، قال: "أجل". فقال سعد: "يا رسول الله: قد آمنا بك وصدقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة، فامض -يا رسول الله- لما أردت، فنحن معك، فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا البحر فخضته لخضناه معك، ما تخلّف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غدًا، إنا لصُبرٌ في الحرب، صُدقٌ عند اللقاء، لعل الله يريك منا ما تَقرّ به عينك، فسِر على بركة الله". فسُرّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بقول سعد -رضي الله عنه-، ونشّطه ذلك ثم قال: "سيروا وأبشروا؛ فإن الله قد وعدني إحدى الطائفتين، والله لكأني أنظر إلى مصارع القوم".

وسعد هو الذي أشار على النبي -صلى الله عليه وسلم- ببناء العريش له في غزوة بدر، وبناءً على اقترحه بُني العريش، وتم إنشاء حرس للرسول -صلى الله عليه وسلم-، وهي فرقة تم اختيارها من فتيان الأنصار، وتولى سعد بن معاذ -رضي الله عنه- قيادتها بنفسه؛ ليطمئن على سلامة وحماية النبي -صلى الله عليه وسلم-.

وفي نهاية الغزوة رأى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في وجه سعد الكراهية لما يصنع الصحابة من أسر الرجال، فقال: والله لكأنك -يا سعد- تكره ما يصنع الناس، قال: أجل والله يا رسول الله، كانت أول وقعةٍ أوقعها الله بأهل الشرك، فكان الإثخان في القتل بأهل الشرك أحبَّ إليّ من استبقاء الرجال.

وبعدها شهد سعد بن معاذ -رضي الله عنه- غزوة أحد مع النبي -صلى الله عليه وسلم-، وأبلى بلاء حسنًا عندما انكشف المسلمون، وأصاب فيهم العدو، وشجّ وجه النبي -صلى الله عليه وسلم-، وجرحت شفته، وكسرت رباعيته، ووقع في الحفرة، فكان سعد بن معاذ ممن ثبت مع النبي -صلى الله عليه وسلم- في هذا الموقف العصيب.

وعاد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة، وقبل أن يدخلها جاءت أم سعد بن معاذ تعدو نحو النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو على فرسه، وسعد آخذ بلجامها، فقال سعد: يا رسول الله: أمّي، فقال: مرحبًا بها، فوقف لها، فلما دنت منه عزّاها بابنها عمرو بن معاذ أخي سعد؛ فقد استشهد في غزوة أحد، فقالت: أما إذ رأيتك سالمًا فقد هانت عندي المصيبة. فقال -صلى الله عليه وسلم-: "يا أم سعد: أبشري وبشري أهلهم أن قتلاهم ترافقوا في الجنة جميعًا، وقد شفعوا في أهلهم جميعًا".

ثم شهد -رضي الله عنه- غزوة الخندق التي نقض يهود بني قريظة فيها عهدهم مع النبي -صلى الله عليه وسلم-، وفي هذه الغزوة كانت أم سعد بن معاذ مع عائشة -رضي الله عنهما- في حصن بني حارثة، وكان من أحرز حصون المدينة، فمر سعد وعليه درع قصيرة قد خرجت منه ذراعه كلها، قالت عائشة: يا أم سعد: والله لوددت أن درع سعد كانت أسبغ مما هي. وقالت عائشة في نفسها: وخفت عليه حيث أصاب السهم منه. وما أن سار سعد قليلاً حتى رماه حِبّان بن قيس بن العَرِقَة بسهم فأصابه، وقطع منه أكحله، فلمّا أصابه قال: خذها وأنا ابن العَرِقة. فقال له سعد: عرّق الله وجهك في النار. وشعر أن في هذا حتفه فقال: اللهم إن كنت أبقيت من حرب قريش شيئًا فأبقني لها، فإنه لا قوم أحب إليّ من أن أجاهدهم من قوم آذوا رسولك وكذبوه وأخرجوه، اللهم وإن كنت وضعت الحرب بيننا وبينهم، فاجعلها لي شهادة، ولا تمتني حتى تُقِرّ عيني من بني قريظة. فاستمسك العرق، فما قطرت منه قطرة. وضرب عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خيمة في المسجد ليعوده من قريب.

بعدها تفرقت الأحزاب، وجاء الأمر الرباني بالتوجه إلى بني قريظة، فأمر النبي -صلى الله عليه وسلم- مؤذنًا في الناس: "من كان سامعًا مطيعًا فلا يصلينَّ العصر إلا في بني قريظة". وسارع الصحابة إليهم، وتحصن اليهود داخل حصونهم، وطال الأمر عليهم، ولم يجدوا بدًّا من النزول على حكم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعد حصار دام خمسًا وعشرين ليلة، فكلّم النبي -صلى الله عليه وسلم- أطرافًا عدة يشفعون فيهم، فقال: "ألا ترضون -يا معشر الأوس- أن يحكم فيهم رجل منكم؟! قالوا: بلى، قال: فذاك إلى سعد بن معاذ، فأرسل إلى سعد، فجيء به محمولاً على حمار وهو متعب من جرحه، فأقبلوا عليه وهم يقولون: يا أبا عمرو: أحسن في مواليك، فإن الرسول -صلى الله عليه وسلم- إنما ولاّك ذلك لتحسن فيهم، فلما أكثروا عليه قال: لقد آن لسعد أن لا تأخذه في الله لومة لائم، فقال الرسول -صلى الله عليه وسلم-: "احكم يا سعد". فقال سعد: فإني أحكم فيهم أن تُقتل الرجال، وتُقسّم الأموال، وتُسبى الذراري والنساء. فقال رسول -صلى الله عليه وسلم-: "لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة". ثم استُنـزلوا، وخرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى سوق المدينة، فخندق بها خنادق، ثم بعث إليهم فضَرب أعناقهم، وكانوا قرابة السبعمائة.

لقد كان سعد –رضي الله عنه- أعرف الناس باليهود، وإن قومًا نكثوا عهدهم في أحلك الظروف ومع خير البرية، لا ينفع فيهم إلا قطع الرؤوس، فما أحوج الأمة اليوم إلى رجل -بل رجال- أمثال سعد، يتعاملون مع اليهود بما يستحقون، فسعد –رضي الله عنه-لم يكن مجاملاً لليهود على حساب دينه، وكذلك لم يكن مجاملاً لأصدقائه من زعماء قريش، بل حتى لم يكن مجاملاً لقومه وأهله، فصدع بالحق ولم يخش في الله لومة لائم.

أعيد سعد إلى قبته التي ضُربت له، فزاره النبي -صلى الله عليه وسلم- وأخذ رأسه ووضعه في حِجره، ثم قال: "اللهم إن سعدًا قد جاهد في سبيلك، وصدق رسولك، وقضى الله عليه، فتقبل روحه بخير ما تقبلت به روحًا". فعلموا أن أجله قد حان، وما أن قُضي من شأن بني قريظة حتى انفجر جرحه -رضي الله عنه-، فاحتمله قومه إلى ديار بني عبد الأشهل، وجاء جبريل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- من جوف الليل معتمرًا بعمامة من استبرق، فقال: "يا محمد: من هذا الميت الذي فتحت له أبواب السماء، واهتز له العرش؟!". فقال لأصحابه: "انطلقوا"، فخرج وخرج معه الصحابة، وأسرع حتى تقطعت شسوع نعالهم، وسقطت أرديتهم، فقال: إني أخاف أن تسبقنا الملائكة فتغسله كما غسّلت حنظلة، فانتهى إلى البيت وهو يُغسّل، فجعل يقول: "هنيئًا لك يا أبا عمرو، هنيئًا لك يا أبا عمرو". ثم خرج به وقال له القوم: ما حملنا -يا رسول الله- ميتًا أخفّ علينا منه، مع أنه كان -رضي الله عنه- رجلاً جسيمًا، فقال -عليه الصلاة والسلام-: "وما يمنعه أن يخف؟! وقد هبط من الملائكة كذا وكذا لم يهبطوا قط قبل يومهم، قد حملوه معكم". وجاء عند النسائي عن ابن عمر -رضي الله عنهما- عدد الملائكة الذين شاركوا في تشييع جنازة سعد، فقد قال -صلى الله عليه وسلم-: "هذا العبد الصالح الذي تحرّك له العرش، وفُتحت أبواب السماء، وشهده سبعون ألفًا من الملائكة، لم ينـزلوا إلى الأرض قبل ذلك، لقد ضُمّ ضمّة ثم أفرج عنه". قال الذهبي -رحمه الله-: والعرش خلق لله مسخر، إذا شاء أن يهتز اهتز بمشيئة الله، وجعل فيه شعورًا لحب سعد، كما جَعل تعالى شعورًا في جبل أحد بحبه النبيَ -صلى الله عليه وسلم-.

فلما انتهوا إلى قبر سعد –رضي الله عنه- نزل فيه أربعة من الصحابة: الحارث بن أوس، وأسيد بن الحضير، وأبو نائلة، وسلمة بن سلامة بن وقش، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- واقف على القبر، فلما وُضع في قبره، تغيّر وجه النبي -صلى الله عليه وسلم- وسبّح ثلاثًا، فسبّح المسلمون حتى ارتجّ البقيع، ثم كبَّر ثلاثًا، وكبَّر المسلمون، فسُئل عن ذلك فقال: "تضايق على صاحبكم القبر، وضم ضمة لو نجا منها أحد لنجا هو، ثم فرّج الله عنه". قال الذهبي -رحمه الله-: هذه الضمة ليست من عذاب القبر في شيء، بل هو أمر يجده المؤمن كما يجد ألَمَ فقدِ ولده وحميمه في الدنيا، وكما يجد من ألَمَ مرضه، وألم خروج نفسه، وألم سؤاله في قبره وامتحانه، وألم تأثره ببكاء أهله عليه، وألم قيامه من قبره، وألم الموقف وهوله، وألم الورود على النار ونحو ذلك، فهذه الأراجيف كلها قد تنال العبد وما هي من عذاب القبر، ولا من عذاب جهنم قط، ولكن العبد التقي يَرفُق الله به في بعض ذلك أو كله، ولا راحة للمؤمن دون لقاء ربه. اهـ.

وذكر من حضر قبره أن رائحة المسك كانت تفوح من ذلك التراب، ودفن بالبقيع، وكان عمره يومئذٍ سبعًا وثلاثين سنة، وما كان أحد أشدّ فقدًا على المسلمين بعد رسول الله وأبي بكر وعمر من سعد بن معاذ.

أيها المسلمون: ظهرت لسعد بن معاذ –رضي الله عنه- في هذه الغزوة فضائل كثيرة تدل على فضله ومنـزلته عند الله وعند رسوله -صلى الله عليه وسلم- منها: استجابة الله تعالى لدعائه، ذلك الدعاء العجيب، دعاء العظماء الذين يعرفون أن رسالتهم في الحياة ليست الاستشهاد فقط، بل متابعة الجهاد إلى اللحظة الأخيرة، فهو المسؤول عن نصرة الإسلام في قومه وأمته، إنه لم يحرص كثيرًا على الحياة بعد انتهاء جهاد بني قريظة، وانتهاء المسؤولية، وتأدية الأمانة المنوطة به في قيادة قومه لحربهم، فإذا شفي غيظ قلبه في الحكم في بني قريظة، وبدا قطف الثمار للإسلام، فلا ثمرة أشهى من الشهادة، وقد تحققت آماله، فقد أصدر حكمه في بني قريظة وشهد مصرع حلفاء الأمس أعداء اليوم.

أيها المسلمون: إن هذا الصحابي الجليل قد استُشهد وهو في ريعان شبابه، فقد كان في السابعة والثلاثين من عمره يوم وافته منيته، وهذا يعني أنه قاد قومه إلى الإسلام وهو في الثلاثين من عمره، وإنما تنفجر الطاقات الكامنة والمواهب بعد سن الأربعين التي هي غاية الرشد، فأي طراز هذا الذي حفل تاريخه بهذه المآثر؟! واستبشر أهل السماوات بقدومه، واهتز عرش الرحمن فرحًا لوفاته، من دون خلق الله أجمعين.

وفي حديث البراء -رضي الله عنه- قال: أُهديت لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- حلة حرير، فجعل أصحابه يلمسونها ويعجبون من لينها، فقال: "أتعجبون من لين هذه؟! لمناديل سعد بن معاذ في الجنة خير منها وألين". رواه مسلم.

نسأل الله تعالى أن يحشرنا في زمرة سعد، وأصحاب سعد، وأن يقر أعيننا بأعداء ديننا، كما أقر عين سعد في بني قريظة، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وأستغفر الله لي ولكم...

 

 

 

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله على إحسانه...

أما بعد: أيها المسلمون: لقد سبق القول: إن سعد بن معاذ -رضي الله عنه- أسلم وهو ابن ثلاثين سنة، ومات وهو ابن سبع وثلاثين سنة -رضي الله عنه وأرضاه-، وهنا وقفة جديرة بالتأمل، فليسأل كلّ منّا نفسه، كم كانت قيمة الزمن عند سعد وأصحابه؟! ألا ترون سعد بن معاذ عاش في الإسلام سبع سنين فقط، فاهتز لموته عرش الرحمن، في سبع سنين فقط، بلغ تلك المنزلة، وارتفع إلى تلك الدرجة، وبعد لحظات من إسلامه لم يبق في قومه أحد إلاّ وأسلم!!

السؤال: كم يحتاج أحدنا ليتوب، فقط ليتوب، فضلاً أن يعتلي إلى الدرجات العلى، أو أن يتأثر بموته أحد، اسأل نفسك: كم أسلم على يديك؟! كم اهتدى على يديك؟! ماذا قدمت لهذه الدين وقد أبقاك الله عشرات السنين؟! حياة سعد بن معاذ -رضي الله عنه- كانت سبعة أعوام فقط، لكن سطور أيامها بقيت محفورة في جبين الدهر، يرمقها من أراد أن يهتدي، ومن كانت له همة عالية، ونفس أبيّة، لا ترضى أن تكون على الهامش، أو نقطة في آخر السطر، ولكن تشمّر عن ساعديها لتَبني وتُعلي وتؤثر وتقود.

أيها المسلمون: إن الشهيد لا يُعذب في قبره، وسعد بن معاذ مات شهيدًا، ومع ذلك فقد ضُم عليه في قبره ثم فُرّج عنه، وهو من هو في الإسلام، فكيف بحالنا نحن في قبورنا؟! لقد جاء في الحديث المتفق على صحته أن المنافق يضيق عليه في قبره حتى تختلف أضلاعه والعياذ بالله، فما حال آكلي أموال الناس بالباطل؟! والمتعاملين بالرشاوى والربا؟! وما حال المغنين والممثلين، والكتّاب الذين يدعون للانحلال والبعد عن الدين، ويشجعون النساء على التبرج والاختلاط؟!

إن سعد بن معاذ -رضي الله عنه-، عاش في الإسلام سبعة أعوام، ومع ذلك اهتز عرش الرحمن لموته، وما ذلك إلا لمكانته عند الله تعالى، تلك المكانة التي اكتسبها بإيمانه وإخلاصه وعمله الصالح في سبعة أعوام فقط، وإن منا -معاشر المسلمين- من عاش أضعاف أضعاف هذه المدة، إلا أن الأرض التي يمشي عليها لتلعنه، وتفرح الأحياء -بل والجمادات- بموته، راحة منه ومن عصيانه وشروره، وعار -والله- أن يعيش المسلم منّا وما قدم للإسلام شيئًا، وما هدى للإسلام أحدًا، وكل همه تحصيل شهواته والعيش بسلام، بل إن من المسلمين من أعان ويعين على هدم الدين، ويمضي عمره في نشر باطله من شهوات وشبهات والدعوة إليها، فهذا الذي ترتاح الدنيا بموته، ويشدد عليه في قبره حتى تختلف عليه أضلاعه.

فما أعظم الهول يا عبد الله، وإذا لم يسلم سعد من أهوال القيامة وهو بعد في أول منازلها، فكيف الحال بعرصات القيامة؟! وكيف الحال بمن هم دون سعد بمراحل من أمثالنا؟! رحماك ربي ما أشد الهول!!

أيها المسلمون: إن من الواجب علينا أن نسلك منهج سعد، وفعل سعد، ونستطيع أن نكون كما قال الله تعالى: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) [آل عمران: 110]، لقد كان سعد بن معاذ وبقية الصحب الكرام، كانوا لبنات البناء، من الشهداء والأتقياء والأصفياء، كان لهم شرف السبق في بناء الأمة وتاريخها، وما ننعم فيه اليوم من نعمة الإسلام، فلهم فيه فضل.

صحابة نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- أسوة لنا، فحركتنا يجب أن توازي حركتَهُم، وتسيرَ معها، حتى نستطيعَ أن نصل إلى ما وصلوا إليه من مجد ورفعة في هذه الدنيا، وفوز في الآخرة، وجنة عرضها السموات والأرض.

نسأل الله أن لا يحرمنا لُقياهم، وأن يجمعنا بهم في دار كرامته ومستقر رحمته بفضله ومنّته.

وصلوا على من رباهم، وكان أرحمهم وأتقاهم، (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) [الأحزاب: 56].
 

 

 

  

المرفقات
سعد بن معاذ.doc
التعليقات

© 2020 جميع الحقوق محفوظة لموقع ملتقى الخطباء Smart Life