عناصر الخطبة
1/ من فضائل وإعجاز ماء زمزم 2/ الاستشفاء بماء زمزم 3/ حال السلف مع ماء زمزم.

اقتباس

وتتابعَ الوحيُ آمراً له بالدعوةِ إلى الله؛ فلقيَ صنوفَ الأذى والسخرية والاستهزاء، وتحمَّل مع صحابته الشدائدَ.. وعرض دعوتَه على القبائل حتى هيأ الله له المدينة؛ فهاجر إليها لتنطلقَ منها دولةُ الإسلام، ثم فتحَ اللهُ له القرى وأمَّها، ودانت له جزيرةُ العرب وأهلُها، وهابتْه الأعاجمُ في ديارها، فكان آخرَ أمرهِ...

الخطبة الأولى:

 

الحمد لله ...

 

من فضائل ماء زمزم أنه خير ماء على وجه الأرض؛ كما جاء عَنِ ابن عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- قال: قال رسول اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "خَيْرُ مَاءٍ عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ مَاءُ زَمْزَمَ، فيه طَعَامٌ مِنَ الطُّعْمِ، وَشِفَاءٌ مِنَ السُّقْمِ" (1).

 

فماء زمزم لا مثيل له في الأرض، وكيف يُماثله ماء وهو ثمرة دعاء الخليل إبراهيم -عليه السلام-، وهو من أعظم النِّعم والمنافع، وعينُه المباركة انبثقت بواسطة جبريل -عليه السلام-، وغُسِل به قلبُ أطهر الخلق نبيِّنا الكريم -صلى الله عليه وسلم- قبل المعراج، وماؤه لا ينضُبُ أبداً، وحال شُربِه موطن من مواطن استجابة الدعاء، وشربُه علامةٌ فارقة ما بين المؤمن والمنافق، وهو ماءٌ مبارك؛ كما جاء في حديث أبي ذرٍّ -رضي الله عنه-؛ أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: في ماء زمزم: "إِنَّهَا مُبَارَكَةٌ" (2).

 

أيها الإخوة الكرام: زمزم من أعظم آيات الله البينات الدالة على توحيده، وعظيم قدرته ورحمته بخلقه؛ ففي أعلى البيت هدي، وتحت أساسه شفاء، وطعام، وسُقيا تكفي الأنام، وتداوي بإذن الله من الأسقام.

 

ومن إعجاز بئر زمزم: أنها تكفي الشَّاربين ولو بلغوا الملايين، وإذا توقَّفوا عن الشُّرب توقَّفت عن الضَّخ، ولم تَجْرِ على وجه الأرض وتفور.

 

وقد اكتشف بعض الباحثين أن ماء زمزم ماء عجيب يختلف عن غيره من المياه في التركيب، وكلَّما أُخذ منه زاد عطاءً، وهو نقيٌّ طاهر، لا يوجد فيه جرثومة واحدة (3)!

 

ومن إعجاز ماء زمزم: أنها نبعت وسط صخور نارية، مصمتة بلا مسام، ولا نفاذ فيها، وهو أمر لافت للنظر، وأعظم من ذلك أن يستمر تدفق مائها الزلال على مدى أكثر من أربعة الآف سنة، على الرغم من وجودها في منطقة قاريَّة قليلة الأمطار؛ فهي بئر مباركة، فَجَّرها الله تعالى كرامةً لإبراهيم الخليل وآله عليهم السلام (4).

 

ومن فضائل ماء زمزم: أنه طعام طيِّب مبارك، يقوم مَقامَ الغذاء في تغذية الجسم وتقويته، ويمكن أن يستغني به شاربه عن الطعام، بخلاف سائر المياه.

 

جاء في خبر إسلام أبي ذرٍّ -رضي الله عنه-، عندما جاء مكة، ودخل الحرم، ومكث فيه ثلاثين يوماً؛ وفيه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لأبي ذرٍّ: "مَتَى كُنْتَ ها هنا؟" قال: قلتُ: قد كنتُ ها هنا مُنْذُ ثَلاَثِينَ، بين لَيْلَةٍ وَيَوْمٍ. قال:"فَمَنْ كان يُطْعِمُكَ؟" قال: قلتُ: ما كان لي طَعَامٌ إلاَّ مَاءُ زَمْزَمَ، فَسَمِنْتُ حتى تَكَسَّرَتْ عُكَنُ بَطْنِي (5)، وما أَجِدُ على كَبِدِي سُخْفَةَ جُوعٍ (6). قال: "إِنَّهَا مُبَارَكَةٌ، إِنَّهَا طَعَامُ طُعْمٍ (7) "(8).

 

وقال في لفظٍ آخرَ: "زَمْزَمُ طَعَامُ طُعْمٍ، وَشِفَاُء سُقْمٍ" (9).

 

قال ابن القيم -رحمه الله- عن ماء زمزم: "شاهدْتُ مَنْ يتغذَّى به الأيام ذوات العَدَد، قريباً من نصف الشهر أو أكثر، ولا يجد جوعاً، ويطوف مع الناس كأحدهم، وأخبرني أنه ربما بقي عليه أربعين يوماً، وكان له قوة يجامع بها أهله، ويصوم، ويطوف مراراً" (10).

 

أيها المسلمون: ومن فضائل ماء زمزم أنْ جعله الله تعالى شِفاءَ سُقْم:

عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: كان رسولُ -صلى الله عليه وسلم-: "يَحْمِلُ مَاَء زَمْزَمَ فِي الأَدَاوَى وَالقِرَبِ، وَكَانَ يَصُبُّ عَلَى المَرْضَى وَيَسْقِيهِم" (11).

 

وعن أبي جَمْرَةَ -رحمه الله- قال: كُنْتُ أَدْفَعُ النَّاسَ عَنِ ابن عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما؛ فَاحْتَبَسْتُ أَيَّاماً، فقال: ما حَبَسَكَ؟ قلتُ: الْحُمَّى. قال: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قال: "إِنَّ الْحُمَّى مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ، فَابْرُدُوهَا بِمَاءِ زَمْزَمَ" (12). "وهذا من الطِّب النبوي الذي لا يُشَكُّ في حصول الشِّفاءِ به، وكلامُ الحكيم [أي: الطبيب] الذي يُخالف هذا وأمثالَه لَغْوٌ، فلا يُلتفت إليه" (13).

 

وكانت زمزم تُسمَّى وتوصف عند العرب بأنها: عافية؛ لأن مَنْ شَرِبها يستشفي بها ظهرت عليه العافية الجسدية والنفسية من العلل والأمراض، وشُفِي بإذن الله تعالى.

 

أيها الإخوة الفضلاء: إنَّ الاستشفاء بزمزم مستمر منذ آلاف السنين إلى يوم القيامة -بإذن الله تعالى-:

قال عبد الله بن أحمد بن حنبل -رحمه الله- عن بعض أحوال أبيه: "ورأيتُه غيرَ مرَّة يشرب من ماء زمزم يستشفي به، ويمسح به يديه ووجهه" (14).

 

وقال ابن القيم -رحمه الله-: "جَرَّبْتُ أنا وغيري من الاستشفاء بماء زمزم أموراً عجيبة، واستشفيتُ به من عدَّة أمراض، فبَرَأْتُ بإذن الله" (15).

 

وقال أيضاً: "ولقد مَرَّ بي وقتٌ بمكة سَقِمْتُ فيه، وفقَدْتُ الطبيبَ والدواءَ، فكنت أتعالج بها [يعني: قولَه تعالى: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) [الفاتحة:٥] ] آخذُ شَرْبةً من ماء زمزم، وأقرؤها عليها مراراً، ثم أشربه، فوجدتُ بذلك البُرء التام، ثم صرت اعتمد ذلك عند كثير من الأوجاع، فأنتفع بها غاية الانتفاع" (16).

 

عباد الله: وكم سمعنا عن أُناس أخلصوا نياتهم في الشرب؛ للاستشفاء من بعض الأمراض العضوية وغير العضوية؛ فمَنَّ اللهُ عليهم بالشفاء من ذلك كلِّه؛ لبركة هذا الماء.

 

قال ابن العربي -رحمه الله- عن الاستشفاء بماء زمزم: "هذا موجود فيه إلى يوم القيامة، لمَنْ صحَّت نِيَّته، وسَلِمَت طوِيَّته، ولم يكن به مُكذِّباً، ولا شَرِبَه مُجرِّباً؛ فإنَّ الله مع المتوكِّلين، وهو يفضح المجرِّبين" (17).

 

فمن أراد الاستشفاء بماء زمزم لا بد أن يكون موقناً بصدق ما أخبر به الرسول -صلى الله عليه وسلم-، من كونه شفاء سُقم، ولا يشربه من باب التجربة، مع استحضار النية الصالحة، والتوكل على الله تعالى؛ حتى ينتفع به.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله ...

 

عباد الله: إنَّ العناصر الكيميائية في ماء زمزم لها دورها المهم في النشاطِ الحيوي لخلايا جسم الإنسان، وفي تعويضِ الناقص منها في داخل تلك الخلايا؛ فهناك علاقة وطيدة بين اختلال التركيب الكيميائي لجسم الإنسان والعديد من الأمراض، ومن المتعارف عليه: أن المياه المعدنية الصالحة وغير الصالحة للشرب قد استُعملت منذ قرون في الاستشفاء من أمراض متنوعة؛ مثل العلاج بالمياه الكبريتية الحارَّة. فكيف بماء مثل ماء زمزم؟ وهو غني بالعناصر والمركبات الكيميائية النافعة، والتي تُقَدَّر بحوالي (2000) ملغ لكلِّ لتر؟ لا ريب أن فيه شفاءً للسُّقْم بنصِّ كلام الصادق المصدوق -صلى الله عليه وسلم-، وهو لا ينطق عن الهوى، إن هو إلاَّ وحي يوحى (18).

 

ومن فضائل زمزم ما قاله النبي -صلى الله عليه وسلم-: "مَاءُ زَمْزَمَ لِمَا شُرِبَ لَهُ" (19). قال الحكيم الترمذي -رحمه الله-: "فالشَّارب لزمزم إن شَرِبه لِشِبَعٍ أشبعه الله، وإنْ شَرِبَه لِرِيٍّ أرواه الله، وإن شربه لشفاءٍ شفاه الله، وإن شَرِبَه لِسوء خُلُقٍ حَسَّنه الله، وإنْ شَرِبَه لِضِيقِ صدرٍ شرَحَه الله، وإنْ شَرِبَه لانغلاقِ ظلماتِ الصدرِ فَلَقَها الله، وإنْ شَرِبَه لِغِنَى النَّفْس أغناه الله، وإنْ شَرِبَه لحاجةٍ قضاها الله، وإنْ شَرِبَه لأمرٍ نابه كفاه الله، وإنْ شَرِبَه لكُربةٍ كشَفَها الله، وإنْ شَرِبَه لِنُصْرةٍ نصَرَه الله، وبأيَّةِ نيَّةٍ شَرِبَها من أبواب الخير والصَّلاح وفَّى اللهُ له بذلك؛ لأنَّه استغاثَ بما أظهره اللهُ تعالى من جَنَّتِه غِياثاً" (20).

 

أيها الأحبة: ومن النيات الصالحة والهمم العالية عند شرب ماء زمزم:

1- "أنَّ الإمام أبا حنيفة -رحمه الله- شَرِبَ ماء زمزم ليكون من أعلم العلماء، فكان كذلك، وناهيك به علماً وصلاحاً وفضلاً" (21).

 

2- عن سُوَيد بن سعيد -رحمه الله- قال: رأيتُ عبدَ الله بنَ المبارك بمكةَ أتى ماء زمزمَ واستسقى منه شربةً، ثم استقبل الكعبة، فقال: اللهم إنَّ ابن أبي الموالي حدَّثنا عن محمد بن المنكدر عن جابر -رضي الله عنه-؛ أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَاءُ زَمْزَمَ لِمَا شُرِبَ لَهُ". وهذا أشربُه لعطش يوم القيامة، ثم شَرِبَ (22).

 

3- عن أبي بكر محمد بن جعفر قال: سمعتُ ابنَ خزيمة يقول، وسئل: مِنْ أين أُوتيتَ العلم فقال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "مَاءُ زَمْزَمَ لِمَا شُرِبَ لَهُ". وإني لَمَّا شربتُ ماءَ زمزم، سألتُ اللهَ علماً نافعاً (23).

 

4- قال ابن حجر -رحمه الله-: "واشتُهر عن الشافعيِّ الإمام؛ أنه شرب ماءَ زمزم للرَّمي، فكان يُصيب من كلِّ عشرة تسعةً. وشَرِبَه الحاكم أبو عبد الله؛ لحُسْنِ التَّصنيف ولغير ذلك، فصار أحسنَ أهل عصره تصنيفاً. ولا يُحصى شارِبوه من الأئمة؛ لأمورٍ طَلَبوها فنالوها. وقد ذَكَر لنا الحافظ زين الدين العراقي؛ أنه شرِبَه لشيءٍ، فحَصَل له.

وأنا [أي: ابن حجر] شرِبْتُه مرَّةً، وسألتُ الله -وأنا حينئذٍ في بداية طلب الحديث- أنْ يرزقني حالةَ الذهبي في حفظ الحديث، ثم حجَجْتُ بعد مدة تقربُ من عشرين سنة، وأنا أجد من نفسي طلبَ المزيدِ على تلك المرتبة، فسألتُه رتبةً أعلى منها، فأرجو اللهَ أن أنال ذلك" (24).

 

الدعاء ...

 

----------

(1) رواه الطبراني في (الأوسط)، (4/179)؛ و(الكبير)، (11/98)، (ح 11167)،   وحسنه الألباني في (صحيح الترغيب والترهيب)، (2/40)، (ح 1161).

(2) رواه مسلم، (4/1922)، (ح 2437).

(3) انظر: الإعجاز العلمي في السنة النبوية الصحيحة، محمد سامي محمد (ص 134).

(4) انظر: الإعجاز العلمي في السنة النبوية، أ.د. زغلول النجار (ص 87).

(5) "تَكَسَّرَتْ عُكَنُ بَطْنِي": عُكَن: جمع عُكْنَة، وهو ما انطوى وتَثَنَّى من لحم البطن سِمَناً، ومعنى تكسَّرت: أي: انثنت وانطوت طاقات لحمِ بطنِه. انظر: صحيح مسلم بشرح النووي، (16/28).

(6) "سُخْفَةَ جُوعٍ": بفتح السِّين وضمِّها، وهي: رقَّة الجوع وضعفُه وهُزَالُه. انظر: صحيح مسلم بشرح النووي، (16/29).

(7) "طَعَامُ طُعْمٍ": أي: طعام إشباعٍ، والمراد: أنه يُشبع الإنسان إذا شَرِب ماءَها كما يشبع من الطعام. انظر: التيسير بشرح الجامع الصغير، (1/531).

(8) رواه مسلم، (4/1921-1922)، (ح 2473).

(9) رواه البزار في (مسنده)، (9/361)، (ح 3929). وصححه ابن حجر في (المطالب العالية)، (7/137)، (ح 1312)؛ والألباني في (صحيح الترغيب والترهيب)، (2/40)، (ح 1162).

(10) زاد المعاد، (4/393).

(11) رواه البخاري في (التاريخ الكبير)، (3/189)، (ح 639). وصححه الألباني في (السلسلة الصحيحة)، (2/543)، (ح 883).

(12) رواه وأحمد في (المسند)، (1/291)، (ح 2649)؛ والحاكم في (المستدرك)، (4/223)، (ح 7439) وقال: (صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه بهذا السياق).

(13) عمدة القاري، (15/164).

(14) مسائل أحمد بن حنبل رواية ابنه عبد الله، (ص 447).

(15) زاد المعاد، (4/393).

(16) المصدر نفسه، (4/178).

(17) أحكام القرآن، لابن العربي (3/98)؛ وانظر: تفسير القرطبي، (9/370).

(18) انظر: الإعجاز العلمي في السنة النبوية، أ. د. زغلول النجار (ص 90).

(19) رواه ابن ماجه، (2/1018)، (ح 3062). وصححه الألباني في (صحيح ابن ماجه)، (2502)، (3/59).

(20) نوادر الأصول في أحاديث الرسول، (3/274).

(21) نقلاً من: فضل ماء زمزم، (ص 135).

(22) رواه المنذري في (الترغيب والترهيب)، (2/136)، (رقم 1817). وحسَّنه ابن القيم في (زاد المعاد)، (4/393)، وضعَّفه الألباني في (ضعيف الترغيب والترهيب)، (1/375)، (رقم 751).

(23) سير أعلام النبلاء، (14/370)؛ تاريخ الإسلام، (23/423).

(24) جُزْءٌ فيه الجواب عن حال الحديث المشهور: "ماء زمزم لما شرب له"، لابن حجر (ص 15)؛ مواهب الجليل شرح مختصر خليل، لابن الحطاب (3/116).

المرفقات
زمزم-لما-شرب-له.doc
التعليقات

© 2020 جميع الحقوق محفوظة لموقع ملتقى الخطباء Smart Life