اقتباس
إنَّ المنطلقات الأساسية في هذه الرعاية آياتٌ كريمة، وأحاديثُ عظيمة، وكانت آيةٌ واحدةٌ وحديثٌ واحدٌ كفيلين بإحداث ثورةٍ في فكر الأمة وسلوكها، وقد يصعبُ تخيُّلُ الأثر الشامل الذي أحدثه قولُه تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ ) [التحريم: 6]، هذه الوقاية التي تتجسَّد في قول علي بن أبي طالب أحد مُفَسِّري القرآن العظام: "علِّموهم وأدِّبوهم". وهما كلمتان تمتدان على أفقٍ واسعٍ من الأفكار والمفاهيم والسلوك...
حين يُولد لأحدِنا ولدٌ يَنظرُ إليه، إلى بَضعةٍ مخلَّقةٍ منه، وتملأ الفرحةُ أرجاءَ قلبه، وقد يسرحُ به الخيالُ إلى أجواء لا يمكن وصفُها.
والطفلُ هذا الكائنُ الجميلُ القريبُ العهد بربِّه حقيقٌ بهذه الفرحة، ولكنه حقيقٌ أيضاً أنْ تهبَّ على وجه أبيهِ وأمِّهِ وأسرتهِ نسائمُ الشعور بالمسؤولية تُجاهه، فالله - عز وجل - خلقَ ورزقَ وعلَّم، والأسرةُ مسؤولةٌ عن هذا الخلق و الرزق والتعليم: ماذا كان موقفُها وتقديرُها وتدبيرُها لهذه المسؤولية.
وقد تحبُّ الأسرةُ اليومَ أنْ تعرفَ شيئاً عن رعاية الأسرة المسلمة للأبناء في الماضي، لتستهديَ بها و تسترشدَ في واقعها المعاصر، ومِنْ هنا كان هذا البحث الذي يحاولُ الإطلالةَ على ذلك الماضي الجميل بمنظارٍ تاريخي.
يقوم البحثُ على مقدماتٍ ثلاثٍ تشمل:
• المنطلقاتِ الأساسية في هذه الرعاية.
• ثم الملحظَ الزمني فيها.
• ثم مفهومَ الأسرة: الضيّق والواسع، القريب والبعيد.
وبعد هذه المقدمات يَعرِضُ صوراً مشرقةً جذّابةً من هذه الرعاية تُهيئ القارئَ لما بعدها وتشوِّقه.
ثم تأتي عَمَدُ البحث وهي سبعة عشر عموداً، كلُّ واحدٍ منها ركنٌ مكينٌ في الرعاية الأسرية التي أثمرتْ أطيبَ الثمار، وتركتْ أجمل الآثار، وقد صُنِّفت هذه العمد بعد حرثٍ ليس بالقصير في كتب التاريخ الإسلامي، وهـي:
أولاً - الصلاحُ الذاتي.
ثانياً - استحضارُ حقوقهم في الذهن والاهتمام بذلك.
ثالثاً - الدعاءُ لهم والتماسُه كذلك.
رابعاً - عَرْضُهم على الصالحين.
خامساً - إطابةُ مطعمهم.
سادساً - تربيتُهم وتوجيهُهم إلى العلم والعمل نُصحاً وتطبيقاً.
سابعاً - تفخيمُ أمر العلم في قلوبهم وعقولهم ونفوسهم.
ثامناً - النفقةُ عليهم في تعلُّم العلم النافع.
تاسعاً - متابعتُهم في أمورهم الكبيرة والصغيرة.
عاشراً - العملُ على تكوين شخصيتهم الاجتماعية.
حادي عشر - ربطُهم بالله سبحانه وتعالى.
ثاني عشر - معاملتُهم بعدالةٍ تامة.
ثالث عشر - الكتابةُ والتأليفُ لهم.
رابع عشر - تضافرُ جهود الأسرة والأقارب على هذه الرعاية.
خامس عشر - عنايةُ العلماء والصلحاء والرؤساء بأبناء المسلمين.
سادس عشر - تلبيةُ متطلبات الفطرة والغريزة.
سابع عشر - برُّهم ورعايةُ مشاعرِهم.
وبعد هذا يَعرِضُ البحثُ لصورٍ سلبيةٍ في إهمالِ أسرٍ لأبناء نبغاء، كادوا يضيعون لولا تداركُ الله لهم.
وعوداً على بدء أقول:
إنَّ المنطلقات الأساسية في هذه الرعاية آياتٌ كريمة، وأحاديثُ عظيمة، وكانت آيةٌ واحدةٌ وحديثٌ واحدٌ كفيلين بإحداث ثورةٍ في فكر الأمة وسلوكها، وقد يصعبُ تخيُّلُ الأثر الشامل الذي أحدثه قولُه تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ ) [التحريم: 6]، هذه الوقاية التي تتجسَّد في قول علي بن أبي طالب أحد مُفَسِّري القرآن العظام: "علِّموهم وأدِّبوهم". وهما كلمتان تمتدان على أفقٍ واسعٍ من الأفكار والمفاهيم والسلوك...
وقد يصعبُ كذلك تصوُّر الأثر الكبير الذي أحدثهُ قولُه صلى الله عليه وسلم: "لا يسترعي الله - عز وجل - عبداً رعيةً قلَّتْ أو كثرتْ إلا سأله اللهُ عنها يومَ القيامة، أقام فيهم أمرَ الله - عز وجل - أو أضاعه، حتى يسأله عن أهل بيتهِ خاصةً".
أما الملحظ الزمني في هذه الرعاية فيقوم على بيان فلسفة التربية الإسلامية في:
• جعل سنِّ البلوغ هو الفيصل بين الطفولة وما بعدها، وعند البلوغ يبدأ التكليفُ، وعلى الأسرة أن تُعِدَّ الطفل لسنِّ التكليف إعداداً تاماً، حتى إذا بلغها كان عارفاً بما يُرادُ منه وما يُطلَبُ، وما يُنهى عنه وما يُذَمُّ.
• وأنَّ الرعاية لدى الأسرة المسلمة تستمر مدى الحياة.
أمّا مفهوم الأسرة فهو مفهومٌ شاملٌ يتسع لقرابة الدم الدنيا، ثم يتمدد ليضم القرابةَ الوسطى والبُعدى، ثم يفرش جناحيه ليحتضن الأمَّة كلها باعتبارها أسرة واحدة ينتمي أفرادُها كلُّهم إلى أبٍ واحدٍ وأمٍّ واحدة، ويجعلها – على هذا – مكلفةً بحظها من رعاية أبناء الأمة أجمعين.
نأتي بعد هذا إلى المدخل المشوِّق الجذاب في عرضِ صورٍ مشرقة من هذه الرعاية:
ومنها: صورة محمد خليل المرادي الدمشقي الذي ولي فتيا الحنيفة وعمره تسع عشرة سنة!
وصورة حسين بن عمر العُرضي الحلبي الذي قرأ النحو والمنطق والفقه والبلاغة، وارتقى إلى الملكة الكاملة في زمنٍ يسير، وكان مع صغره يُقرئ الطلبةَ دروساً ولم ينبتْ له شَعْرٌ بعدُ!
ونأتي إلى العَمَد:
ونذكرُ من الصلاح الذاتي قولَ سعيد بن جبير لولده: إني لأزيد في صلاتي من أجلك رجاءَ أنْ يحفظني اللهُ فيك.
ونذكرُ في استحضار العناية بالأولاد في الذهن و الاهتمام بشأنهم قولَ قيس بن عاصم حين سمعَ وصية النبي صلى الله عليه وسلم لبني تميم: وددتُ لو كان هذا الكلام شعراً نعلِّمه أولادنا. وقد بادر الصحابيُّ الصلصالُ بن الدلهمس فجعله شعراً رائعاً.
ونذكرُ من الدعاء لهم والتماسه كذلك حملَ أمِّ إبراهيم بن أدهم له حين وضعته في مكة و طوافَها به على الحِلَق في المسجد الحرام وقولها: ادعوا لابني أن يجعله الله عبداً صالحاً.
ونذكرُ من عرضهم على الصالحين قولَ المُسْنِد الكبير حنبل بن عبد الله البغدادي: لما وُلِدتُ مضى أبي إلى الشيخ عبد القادر وقال له: قد وُلِدَ لي ابن ما أسميه؟ قال: سمِّهِ (حنبل) وإذا كَبِرَ سمعه "مسند أحمد بن حنبل" فسمَّاني كما أمره، فلما كبرت سمعني "المسند"، وكان هذا من بركة مشورة الشيخ.
وقد زار حنبلٌ دمشقَ، واجتمع لسماع "المسند" منه جماعةٌ لا يُعلم اجتماعها في مجلس سماعٍ قبله بدمشق، بل لم يجتمع مثلُها لأحدٍ ممَّن روى "المسند".
ونذكر من إطابة مطعمهم انزعاجَ والد إمام الحرمين مِنْ رضعة رضعها ممَّن لا يحل لها التصرفُ في لبنها.
ونذكرُ في توجيههم إلى العلم والعمل نصحاً وتطبيقاً قولَ أمِّ سفيان الثوري له: يا بني اطلب العلم وأنا أكفيك بمغزلي.
ونذكرُ في تفخيم أمر العلم في قلوبهم قولَ الإمام عبد الأول بن عيسى السِّجزي: إني رحلتُ لسماع "صحيح البخاري" ماشياً مع والدي، من هراة إلى الداودي ببوشنج، ولي من العمر دون عشر سنين، فكان والدي يضع على يديَّ حجرين، ويقول: احملهما. فكنت من خوفه أحفظهما بيدي، وأمشي وهو يتأملني، فإذا رآني قد عييت أمرني أن ألقي حجراً واحداً، فألقي ويخف عني، فأمشي إلى أن يتبين له تعبي، فيقول لي: هل عييت؟ فأخافه وأقول: لا، فيقول لم تقصِّرُ في المشي؟ فأسرع بين يديه ساعة، ثم أعجِز، فيأخذ الحجرَ الآخر فيلقيه، فأمشي حتى أعطب، فحينئذ كان يأخذني ويحملني، وكنا نلتقي جماعةَ الفلاحين وغيرهم فيقولون: يا شيخ عيسى، ادفعْ إلينا هذا الطفلَ نركبه وإياك إلى بوشنج، فيقول والدي: معاذ الله أنْ نركبَ في طلب أحاديث رسول الله بل نمشي، وإذا عجز أركبته على رأسي إجلالاً لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم. فكان ثمرةُ ذلك من حسن نيته أني انتفعتُ بسماع هذا الكتاب وغيره، ولم يبقَ من أقراني أحدٌ سواي، حتى صارت الوفودُ ترحل إليَّ من الأمصار.
ونذكرُ في النفقة عليهم في تعلم العلم النافع خبرَ جريرٍ الطبري والد الإمام الكبير محمد، وخبر عمار بن نُصير الدمشقي والد الإمام هشام، وفاطمة والدة الشيخ عبد القادر الجيلي.
ونذكرُ في متابعتهم في أمورهم الكبيرة والصغيرة قولَ تاج الدين السبكي العجيب: كنتُ جالساً بدهليز دارنا في دمشق فأقبل كلبٌ، فقلت: اخسأ كلبَ بن كلب. فزجرني الوالدُ من داخل البيت، فقلت: أليس هو كلب بن كلب؟ فقال: شرطُ الجواز عدمُ قصدِ التحقير. فقلتُ: هذه فائدة.
ونذكرُ في العمل على تكوين شخصيته الاجتماعية قولَ السيد عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي لأبيه: إنَّ ابني حذق. فقال الحسنُ: كان الغلام إذا حذق قبل القوم نحروا جزوراً وصنعوا طعاماً للناس.
ونذكرُ في ربطهم بالله سبحانه قولَ أمِّ محمد بن الحسين السلمي حين توجهه إلى الحج: توجهتَ إلى بيتِ الله، فلا يكتبنَّ عليك حافظاك شيئاً تَستحي منه غداً.
ونذكرُ في معاملتهم بعدالة تامة قولَ إبراهيم النخعي: كانوا يستحبون أن يسوّوا بين أولادهم حتى في القُبل.
ونذكرُ في التأليف والكتابة لهم جهودَ أبي الوليد الباجي، وابن الجوزي، والفخر الرازي، وابن الملقن، وأبي الحجاج البلوي، وكامل الغزي، وابن حجر العسقلاني الذي ألف لابنه "بلوغ المرام من أدلة الأحكام" ليحفظه، وفرغ منه ولولده نحو ثلاث عشرة سنة.
ونذكرُ في تضافر أفراد الأسرة على الرعاية جهودَ العمّات والأعمام، والخالات والأخوال.
وفي عناية العلماء والصلحاء والرؤساء نذكرُ صنائعَ سفيان الثوري، وعمر الدهستاني، ومعروف الكرخي، والوزير ابن جهير.
وفي تلبية متطلبات الفطرة والغريزة نذكرُ قولَ قتادة بن دعامة السدوسي: كان يُقال: إذا بلغ الغلامُ فلم يزوِّجْه أبوه فأصابَ فاحشةً أثم الأبُ.
وأخيراً نذكرُ في برِّهم ورعاية مشاعرهم مسارعةَ سفيان الثوري لطلب ابنه إياه من مكة ومبادرته إلى تلبية طلبه، وقوله: إنما سُمُّوا الأبرار لأنهم برُّوا الآباء والأبناء.
توصيتي الملحة جردُ التاريخ الإسلامي جرداً كاملاً لاستخراج أساليبِ الأمّة المدهشة في تطبيق قوله تعالى: ? قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ? [التحريم: 6] ممّا مكَّن للأسرة أجلَّ تمكين.
[*] ألقيت هذه الكلمة في مؤتمر (تمكين الأسرة في الشريعة الإسلامية) الذي أقامته كلية الشريعة بجامعة دمشق في 12 تموز 2008م، وهي ملخص للبحث المقدم إليه بالعنوان المذكور.
التعليقات