الخطبة الأولى:

الحمد لله الذي شرَّف العالمينَ بأشرفِ العالمينَ، واصطفاه من خَلْقه أجمعينَ، وآدمُ بين الماء والطين، ونوَّه بذِكْرِه في الأولينَ، كما شرَّف بقدره في الآخِرين، أخَذ الميثاقَ بتصديقه على جميع النبيين، قال الحق -جل وعلا-: (فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ)[آلِ عِمْرَانَ: 81]؛ فهو -صلى الله عليه وسلم- أعرفُ الخلقِ بمقام العبودية والعبادة، وأعرفُ العِبَاد والعُبَّاد في الأخلاق الحسنة والسيادة، عُرفًا وعادةً.

أدَّبَه المولى -تبارك وتعالى- فأحسَن تأديبَه، وجعَل أجلَّ المناصب وأفخر المناقب حظه ونصيبه، ونزَّهَه عن جميع النقائص والرذائل، وفطَرَه على محاسن الأخلاق وألطف الشمائل، جعَل السَّكينة لباسَه، والتقوى ضميرَه، والحكمةَ مع قوله، والصدق والوفاء سجيتَه، والمعروف خُلُقه، والحق شريعته، والإسلام مِلَّته، وأحمد اسمه، هدى به بعد الضلالة، وبصَّر به بعد العماية، وجعل أمته خير أمة أُخرجت للناس، ليس بفظٍّ ولا غليظ ولا صخَّاب، ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح، ولن يقبضه الله -عز وجل- حتى يقيم به الملة العوجاء؛ بأن يقولوا: لا إلهَ إلَّا اللهُ، محمدٌ رسولُ اللهِ.

فتَح به أعيُنًا عُميًا، وآذانًا صُمًّا، وقلوبًا غُلفًا، ونشهد ألَّا إلهَ إلَّا اللهُ مجيب الدعوات، وراحم العَبَرات، وكاشف الكربات، وغافر الزلات.

اللهمَّ إنَّا نتوجَّه يا ربنا أن ترحمنا برحمتك الواسعة، وأن ترحم أهلنا في أرض غزة، اللهُمَّ ارحم نساءهم وأطفالهم وشيوخهم يا ربَّ العالمينَ، اللهُمَّ إنهم جياع فأطعمهم، اللهُمَّ إنهم حفاة فاحملهم، اللهُمَّ إنهم عراة فاكسهم، اللهُمَّ إنك أنت المطعم، يا ذا الجلال والإنعام، يا ذا الطول والإكرام، يا ذا المِنَنِ الجِسَامِ، ارحمهم وأطعمهم وأشبعهم وأنزل عليهم رحمتَكَ، وأنزل عليهم سَكِينتَكَ يا ربَّ العالمينَ، واجعلها بردًا وسلامًا كما جعلتها على إبراهيم.

ونشهد أنَّ سيدَنا ونبيَّنا محمدًا عبدُه ورسولُه، أوتي من القوة بما يُضرَب به المثل، كان الأقوياء يحتمون به إذا اشتدت الوغى، وحمي الوطيس، كيف لا وهو خيرة الله من خلقه، وهو القوي الأمين، صلى الله عليه، وعلى أصحابه الأخيار، وأهل بيته الأطهار، وعلى عمه العباس، ذي الشرف الشامخ، والمجد الباذخ، وعلى أزواجه الطاهرات، أمهات المؤمنين، وسلَّم تسليمًا كثيرًا، صلاة تُزكِّيهم بها إلى يوم الدين، وتجعلهم في جواره في أعلى عليين، وارضَ اللهمَّ عن التابعين منار الإسلام، ونجوم الأحكام، وارض عَنَّا معهم في أرضنا المباركة، برحمتك يا أرحم الراحمين.

أمَّا بعدُ، فيا عبادَ اللهِ: يقول الحبيب المصطفى -صلى الله عليه وسلم-: "إنما أنا رحمة مهداة"، أما خاطبه المولى بقوله: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ)[الْأَنْبِيَاءِ: 107]، فإسلامنا وديننا دين الرحمة والمحبة والمودة لا نعرف القتل، والبغي، والظلم، والاعتداء، والهدم، ديننا يحرم علينا الاعتداء على الآخَرين، ويحرم علينا قتل النفس بغير الحق، والذي نراه اليوم من غيرنا القتل والهدم والتدمير والهلاك، وهذا هو الظلم بعينه، واأسفاه! في هذه الأيام على أمة اكتفت بإحصاء أعداد الشهداء والجرحى، لم نر عملًا لوقف شلال الدماء الطاهرة الزكية.

ولكن -أيها الأحبابُ- تذكَّرُوا قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا يَضُرُّهم مَنْ خذَلَهم"؛ لقد وقعت الفتنُ، وليس لها من دون الله كاشفةٌ، قال نبيُّنا -عليه الصلاة والسلام-: "إن أمتي أمة مرحومة، مقدَّسة مبارَكة، لا عذابَ عليها يومَ القيامة، إنما عذابُهم بينَهم في الدنيا بالفتن"، ويقول معاوية بن أبي سفيان -رضي الله عنه-: "سمعتُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إنه لم يبقَ من الدنيا إلا بلاءٌ وفتنةٌ".

طالت الفتنة، وسُفكت فيها الدماء، وقُطعت فيها الأرحامُ والسُّبُلُ، إنه الابتلاء يا عبادَ اللهِ، نحن في فتنة عظيمة، الأطفال والنساء والرجال يقتلون، ونحن نائمون كأصحاب الكهف، نحن في فتنة اقشعرت لها الأرض، واغبر لها أفق السماء، وضنت المراضع على أولادها، فكم سفكت منا دماء بريئة، وكم ضَمَّتْ تلك الدماءَ لُحُودٌ، وكم ضمَّ بطنُ البحر أشلاءً جمَّةً، تمزق أحشاء لها وكبود، وكم صار شمل البلاد مشتَّتًا، وضُرب قصرٌ في البلاد مشيد!.

عبادَ اللهِ: مصابنا جلل، لقد تناسانا الأهل والأصحاب والأقرباء، ومن ذا الذي يبقى على العهد في هذه الأيام؟! إنها أيام خدَّاعة، طال الجدب، ومنعت الخصب.

قيل لهذه الدار: "رُوحِي بأهلكِ فإنكِ لستِ لهم بدار، يا واهبة الموت، يا مورثة الأحزان، يا مفرقة الأحبة، يا مخربة العمران".

يا أهلنا: إن كنتم ترضون بالذي نَبَا من الأسى وصبرنا ولا شيء أمرّ من الصبر، لقد أسلمتمونا للقتل، ثم تبكون علينا، وَيْحَكُمْ كيف تصبرون؟! ما لكم لا تتذكرون نعمة؟! ولا تشكرون معروفًا؟! هل استخفَّكم الشيطانُ؟! أو استغواكم غاوٍ؟! أو استفزَّكُم عاصٍ؟! أو استنصركم ظالم ونفرتم إليه خفافًا وثقالًا؟! وفرسانًا ورجالًا؟!

إيَّاكُم أن يلقى أحدكم أخاه غدًا فيقول: انج سعد، فقد قتل سعيد.

ألَا من كان له قلب فليتفطَّر اليومَ أسفًا على الحياة، من كانت له عين فلتبك على الدماء، مَنْ كان له عقل فليفكر بعقله، فما بالفجور يكون عز الوطن، وضمان الاستقلال، ولكن بالأخلاق تُحفَظ البلادُ، وتسمو الأوطان.

لقد بكت السماء، واسودت، وظهرت الكواكب نهارًا، وسقطت التراب الأحمر، ولا يوجد حجر إلا تحته دم، لقد بكت الجن، لقد أصاب الجنون والخبل والجذام والمرض والفقر وأنتم ترون ذلك بأعينكم.

مَنْ أعان على دم مسلم بشطر كلمة كتب بين عينيه يوم القيامة: "آيس من رحمة الله".

عبادَ اللهِ: قال حذيفة -رضي الله عنه-: "تعوَّدُوا الصبرَ، تعوَّدُوا البلاءَ، فيُوشِكُ أن ينزل بكم البلاءُ، مع أنَّه لا يُصيبكم أشدّ مما أصابَنا ونحن مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-"، "إن المريض لتحاتُّ خطاياه كما تحاتُّ ورقُ الشجرِ".

عبادَ اللهِ: مَنْ عزَّى مصابًا فله مثل أجره، فلله ما أخذ، وله ما أعطى، وكل شيء عنده بمقدار، قولوا جميعًا: إنَّا لله وإنا إليه راجعون، وحسبنا الله ونعم الوكيل، اللهُمَّ ثبنا على أمرك، واعصمنا بحبلك، وارزقنا من فضلك، توجهوا إلى المولى الكريم بالدعاء والتسليم، فيا فوزَ المستغفرينَ استغفِرُوا اللهَ.

الخطبة الثانية:

الحمد لله المَلِكِ الحقِّ المبين، ونشهد ألَّا إلهَ إلَّا اللهُ ولي الصالحين، وناصر المظلومين، ونشهد أنَّ سيدَنا ونبيَّنا محمدًا عبدُه ورسولُه، الصادق الأمين، صلى الله عليه وعلى آله السادات الكرام، ذوي الشيم العظام، وجميع الصحابة الأخيار، من المهاجرين والأنصار.

أمَّا بعدُ، فيا أهلنا في أرضنا المقدَّسة: أنتم الجُنَّة والرداء، أنتم الملاءة والعباء، أنتم الأولياء والأنصار، والشِّعار دون الدثار، بكم نذُبُّ عن المقدَّسات، وبكم تُرمى مكائدُ الأعداء، فنِعَمُ اللهِ عليكم عظيمةٌ، ومِنَنُه جسيمةٌ، ابتلاكم بفلذات أكبادكم فصبرتُم، ابتلاكم بهدمِ بُيُوتِكم فكنتُم على قَدْرِ المسؤوليَّةِ، ونحن من هنا نقول لكم: ألقُوا الضغائنَ والتخاذلَ بينَكم، ألقوا العداوة بتواصل وتراحم، اجعلوا كلمتكم واحدة؛ حتى تلين قلوبكم، كونوا يدًا واحدة.

إن القِدَاحَ إذا اجتمعنَ يَصْعُبُ كَسْرُها *** وإذا افترقَتْ تكسَّرَتْ آحادَا

وتذكَّروا أنكم مقبلون على شهر عظيم، شهر مبارك، أنزل الله -تبارك وتعالى- فيه القرآن، وسنَّ نبيُّنا -عليه الصلاة والسلام- فيه صلاة التراويح.

المسجد الأقصى المبارَك هو مسجدكم، ومكان عبادتكم، وهو خاص بالمسلمين، ولا يجوز بحال من الأحوال منع المسلمين من الوصول إليه، وأداء شعائرهم الدينيَّة، بسَكِينة ووقار وأمن ومحبة وسلام واحترام.

وأنتم يا أهلنا في أرض غزة: من هذه الرحاب الطاهرة، نتوجه إلى المولى الكريم أن يحفظكم، وأن يرعاكم وأن يثبتكم، وأن يكون معكم، فإذا كان الله معكم فمِمَّنْ تخافون؟! هددوكم بالجوع والعطش، ويد الله فوقكم مانعة، أوليس الله -تعالى- هو المطعم؟! منعوكم من المساعدات، وزرق الله مبذول؛ (إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ)[ص: 54].

فيا أيها المسلمُ: لا تُكثِرْ همَّكَ، ما يُقدَّر يكون، وما تُرزَق يأتيكَ.

اللهُمَّ احفظهم من بين أيديهم ومن خلفهم، وعن أيمانهم وعن شمائلهم، واحطط أوزارهم، وأَعْظِمْ أُجُورَهم يا ربَّ العالمينَ.

عبادَ اللهِ: صبرًا جميلًا، ما أقرب الفرجَ، مَنْ راقب الله في الأمور نجا، من صدق الله لم ينله أذًى، ومن رجاه يكون حيث رجَا، مَنْ لَزِمَ الاستغفارَ جعَل اللهُ له من كل ضيق مخرجًا، ومن كل هم فرجًا، ومن كل عسر يسرًا؛ أما قال نوح لقومه: (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا)[نُوحٍ: 10-12].

عبادَ اللهِ: جلاء القلوب بتلاوة القرآن والاستغفار، قال لقمان الحكيم لابنه: "أي بني، عَوِّدْ لِسَانَكَ: اللهُمَّ اغفر لي، فإنَّ لله ساعاتٍ لا يَرُدُّ فيها سائلًا".

اللهُمَّ إنَّا نسألك الفوز عند القضاء، ونزل الشهداء، وعيش السعداء، ومرافقة الأنبياء، والنصر على الأعداء، اللهُمَّ إنَّا نسألك فرجًا قريبًا وصبرًا جميلًا، ونسألك العافية من كل بلية، ونسألك الدوام على العافية، ونسألك الغنى عن الناس، ونسألك السلامة من كل شيء، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

وأنتَ يا مقيمَ الصلاةِ: أقم الصلاة؛ (إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ)[الْعَنْكَبُوتِ: 45]، فاذكروا الله الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم؛ (وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ)[الْعَنْكَبُوتِ: 45].