اقتباس
ذم الترف
د. أمين بن عبدالله الشقاوي
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله.
وبعد:
قال تعالى: ﴿ وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا ﴾ [الإسراء: 16].
المترف: هو المتنعم المتوسع في ملاذ الدنيا وشهواتها، والمعنى أن الله تعالى أمر هؤلاء المترفين بطاعته فلم يمتثلوا أمره، بل فسقوا وأفسدوا، فحق عليهم العذاب والدمار، وقد أخبر - عز وجل - عن حال هؤلاء المترفين، وأنهم أتتهم آيات الله ونذره فأعرضوا عنها واستكبروا عليها، فأخذهم العذاب، قال تعالى: ﴿ حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ * لَا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لَا تُنْصَرُونَ * قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ * مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ ﴾ [المؤمنون: 64 - 67].
وقد أخبر - عز وجل - أن الترف من صفات الكفار، قال تعالى: ﴿ وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ * فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ * وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ * لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ ﴾ [الواقعة: 41 - 44].
أي منعمين مقبلين على الشهوات والملذات، وقد بين سبحانه أن عاقبة الترف وخيمة في الدنيا والآخرة، فقال عن نبيه صالح، وهو يخاطب قومه ثمود، وكانوا عربًا يسكنون مدينة الحجر التي بين واد القرى وبلاد الشام، ومساكنهم معروفة، وتسمى الآن مدائن صالح: ﴿ أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ * فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ * وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ ﴾ [الشعراء: 146 - 149].
إلى أن قال: ﴿ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ﴾ [الشعراء: 158، 159].
قال ابن كثير - رحمه الله -: يقول تعالى واعظًا لهم، ومحذرهم نقم الله أن تحل بهم، ومذكرًا بنعم الله عليهم فيما رزقهم من الأرزاق الدارة، وجعلهم في أمن من المحذورات، وأنبت لهم من الجنات، وفجر لهم من العيون الجاريات، وأخرج لهم من الزرع والثمرات ولهذا قال: ﴿ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ ﴾ [الشعراء: 148] قال: إذا رطب واسترخى، وتنحتون من الجبال بيوتًا فارهين، قال ابن عباس وغير واحد: حاذقين، وفي رواية عنه: شرهين أشرين، وهو اختيار مجاهد وجماعة، ولا منافاة بينهم، فإنهم كانوا يتخذون تلك البيوت المنحوتة في الجبال أشرًا وبطرًا وعبثًا من غير حاجة إلى سكناها، وكانوا حاذقين متقنين لنحتها ونقشها، كما هو المشاهد من حالهم لمن رأى منازلهم. اهـ[1].
الشاهد أنهم كانوا يعيشون حياة الترف، فكذبوا رسولهم، فكان عاقبتهم الهلاك في الدنيا والآخرة.
ولقد أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن المترفين في الدنيا ينسون ما كانوا فيه من النعيم في الآخرة، روى مسلم في صحيحه من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "يؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار يوم القيامة فيصبغ في النار صبغة ثم يقال: يا ابن آدم هل رأيت خيرًا قط؟ هل مر بك نعيم قط؟ فيقول: لا والله يا رب ويؤتى بأشد الناس بؤسًا في الدنيا من أهل الجنة فيصبغ صبغة في الجنة فيقال: يا ابن آدم هل رأيت بؤسًا قط؟ هل مر بك من شدة قط؟ فيقول: لا والله يا رب ما مر بي بؤس قط ولا رأيت شدة قط"[2].
ولقد كان نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - من أبعد الناس عن الترف، روى البخاري ومسلم من حديث عمر- رضي الله عنه -: أنه أتى النبي - صلى الله عليه وسلم، فرآه على رمال حصير قد أثر بجنبه، فابتدرت عيناه بالبكاء، وقال: يا رسول الله هذا كسرى وقيصر فيما هما فيه، وأنت صفوة الله من خلقه، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - متكئًا فجلس، وقال: "أو في شك أنت يا ابن الخطاب؟"، ثم قال - صلى الله عليه وسلم -: "أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في حياتهم الدنيا"، وفي رواية: "أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة"[3].
ومن مظاهر هذا الترف في وقتنا الحاضر:
• الإغراق في الكماليات بشكل عجيب، فعلى سبيل المثال بعض الأسر تغير أثاث المنزل بشكل سنوي حتى لو كان بحالة جيدة، وتدفع في ذلك المبالغ الطائلة.
• ومنها قيام بعض الأسر بشراء المأكولات والمشروبات بشكل يومي من المطاعم الغالية الثمن من غير حاجة إلى ذلك.
ومنها أن بعض النساء تقوم بتغيير ملابسها بشكل مستمر في كل مناسبة أو عرس، حتى لو كان هذا الثوب لم يستعمل إلا مرة واحدة، وتدفع في ذلك المبالغ الطائلة.
• ومنها سفر بعض الناس للسياحة سنويًا، ويدفعون في ذلك المبالغ الطائلة حتى لو كانت هذه المبالغ بالدين، وغير ذلك من مظاهر الترف.
ومن المفاسد التي تنتج عن الترف:
أولًا: الأمراض الكثيرة في وقتنا الحاضر، كمرض السمنة، وأمراض القلب، والجلطات، وغيرها.
ثانيًا: أنه يؤدي إلى الكسل، والراحة، والتعلق بالدنيا، مما يسهل على الأعداء التسلط على الأمة، وإفساد عقيدتها، ونهب خيراتها، وثرواتها، وأمة الإسلام ينبغي أن تكون أمة مجاهدة قوية تعد نفسها للدعوة إلى الله ونشر هذا الدين في مشارق الأرض ومغاربها، وإخراج الناس من ظلمات الشرك إلى أنوار التوحيد، ولا يكون هذا إلا بالعمل الجاد، وليس بالترفه والراحة، قال تعالى: ﴿ وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ ﴾ [التوبة: 105].
ثالثًا: أنه يؤدي إلى ضياع ثروات الأمة، ومقدراتها، فيما لا فائدة فيه، والأمة بأمس الحاجة إلى استغلال هذه الثروات، في بناء قوتها الاقتصادية، والعسكرية لتأخذ مكانتها بين الأمم، قال تعالى: ﴿ وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ ﴾ [الأنفال: 60].
رابعًا: أن الترف يؤدي إلى ضعف الأمة، وحاجتها إلى مساعدة الآخرين، وعدم اعتمادها على شبابها ومقدراتها، وهذا يؤدي بدوره إلى تسلط الأعداء عليها، ونهب خيراتها، وإفساد دينها، وغير ذلك من المفاسد.
وهذا كله فيما إذا كان الترف مقتصرًا على التوسع والانبساط في المباح، فأما إذا تجاوز ذلك إلى الشهوات المحرمة فإن الأمر يكون قد وصل إلى مرحلة الخطر، ومنذر بالهلاك والدمار، كما مر في الآيات السابقة.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
[1] تفسير ابن كثير (10/362-363).
[2] برقم (2807).
[3] البخاري برقم (4913)، ومسلم برقم (1479).
التعليقات