عناصر الخطبة
1/ ظهور الإسلام وهيمنتُه وانتصاره 2/ التأثير الدعوي للشعور بصدق الإسلام وحتمية انتصاره 3/ بعض مقتضيات هذا الشعوراهداف الخطبة
اقتباس
كلما كان الإنسان أكثر يقينًا وقناعة بالمعلومات التي يتخذها والطريق الذي يسير عليه هان عليه بعد ذلك أن يحاجّ به، وأن يدعو الناس إليه؛ بل وأن يعطي في سبيل نجاح طريقه ومنهجه فيضحي بحريته فيسجن، أو يضحي بماله فينفقه، أو يضحي بنفسه وروحه فيقتل في سبيل الله، وهذا ما ربى عليه ..
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله -تعالى- من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مُضِلَّ له، ومن يُضْلِلْ فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، جَلَّ عن الشبيه والمثيل والكفء والنظير.
وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وصفيه وخليله، وخيرته من خلقه، وأمينه على وحيه، أرسله ربه رحمة للعالمين، وحجة على العباد أجمعين، فهدى الله -تعالى- به من الضلالة، وبصَّر به من الجهالة، وجمع به بعد الشتات، وأمَّن به بعد الخوف، فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله الطيبين، وأصحابه الغر الميامين، ما اتصلت عين بنظر، ووعت أذن بخبر، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
أيها الإخوة المؤمنون: إن ربنا -جل وعلا- بعث جميع الرسل بدين واحد: أن يأمروا الناس أن يعبدوا الله -تعالى- وحده لا شريك له، ثم ختم الله -تعالى- هذه الرسالات بمبعث سيدنا -صلى الله عليه وسلم-، وأنزل الله -تعالى- عليه كتابًا مهيمنًا على جميع الكتب السابقة، بما في التوراة من حكمة، وما في الإنجيل من بيان، وما في الزبور وصحف إبراهيم وغيرها من الكتب، فكل ما فيها من حكمة وبيان قد جعله الله -تعالى- في هذا القرآن؛ بل وجعل أحسن منه، كما بين الله -تعالى- ذلك في كتابه لما قال -جل وعلا- واصفًا القرآن: (مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ) [المائدة:48]، أي: هو جامع لكل ما فيه من حكمة وتوجيه وحُسن وبيان لينزل إلى أهل آخر هذا الزمان.
وقد جعل الله -تعالى- نبينا -صلى الله عليه وآله وسلم- خاتم الرسل وخيرهم، وهو سيد ولد آدم يوم القيامة، ووعد الله -تعالى- بإظهار هذا الدين، كما قال الله -جل وعلا-: (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) [التوبة:33].
وبيّن الله -جل وعلا- العراك الذي يكون بين الحق والباطل، وبيّن الله -سبحانه وتعالى- أن الحق هو الذي ينتصر، كما قال الله -جل وعلا-: (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِق) [الأنبياء:18].
وقد فعل الله -جل وعلا- ذلك في الأولين من الأمم، ولا يزال وعد الله -تعالى- لهذه الأمة بالنصر والتمكين قائمًا.
لذا -أيها المسلمون- كان النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- يبذل ما يستطيع في سبيل هداية الناس لهذا الدين؛ لأن عنده قناعة تامة بأن هذا الدين منتصر، وأنه قائم، وأن الحق إذا قذف به على الباطل دمغه فلم يقم للباطل بعد ذلك قيام.
ولو كان -والله- ما حصل على الإسلام من حرب وتفكيك، سواء من الحرب العسكرية أو الإعلامية أو التضييق على الجمعيات الخيرية أو السجن للدعاة والعلماء أو التقتيل، لو كان هذا قد وقع خلال التاريخ -سواء في عصرنا أم في العصور السابقة- على دين غير الإسلام لما نبست لأصحابه بعد ذلك شفة، ولما تحرك لهم عضو، ولما قامت لدينهم قائمة! لكن هذا الدين مؤيد من السماء، مؤيد من عند ربنا -جل وعلا- الذي قال: (وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ) [الروم:47].
وبيّن الله -جل وعلا- أن الرسل -وإن أصابهم ما أصابهم- تكون لهم الغلبة في النهاية، وهذا لم يذكر فقط في القرآن؛ بل حتى في الكتب السابقة كان هذا مقررًا.
ألم ترَ أن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- لما أرسل رسولاً إلى هرقل يدعوه إلى الإسلام، فنظر هرقل في الكتاب ثم قال لقائد شرطته: اقلب الشام ظهرًا لبطن وأحضِر ما ها هنا من العرب لأسألهم عن هذا النبي؛ فجاء بعشرة من قريش كانوا قد جاؤوا في تجارة إلى الشام، سألهم هرقل عددًا من الأسئلة، من ضمنها أنه سأل رأسهم وهو أبو سفيان، وقد أسلم -رضي الله عنه- بعد ذلك لكنه لما سئل في ذلك المقام كان لا يزال على دين قومه، سأل هرقل العالِم بدينه أصلاً الذي قرأ الكتاب الأول وكان عالمًا حاكمًا لقومه، سأل أبا سفيان وقال له: هل يرتد أحد من أصحاب نبيكم الذين دخلوا في الإسلام سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه؟! قال أبو سفيان: لا، لم يرتد أحد بالرغم من تعذيبنا وتخوفينا لهم.
فقال هرقل، وهو الرجل الكافر، لكنه كان على اطلاع ببعثة نبينا -صلى الله عليه وسلم- وقرأ أخبار أمته في الكتب السابقة، قال هرقل: كذلك الإيمان إذا خالطت بشاشته القلوب. إذا وصل الإيمان في القلب لم تستطع قوة في الدنيا أن تخرجه.
إننا نرى الآن أمثلة من التعذيب، ومع ذلك نرى أمثلة أكبر منها في الثبات، اقرأ عن الأسرى الذين في جوانتنامو الذين لا يزال أعداد منهم إلى اليوم في تلك الزنازين، اقرأ -بالله عليك- أخبارهم ومن يتحدث منهم بعد أن يطلق سراحه بعد ذلك، اقرأ عن ثباتهم، اقرأ عن كثرة صلاتهم وصومهم وتلاوتهم للقرآن، اقرأ عن إعطائهم مثالاً للمسلم الحقيقي، اقرأ عن دعوتهم للجنود الذين كانوا يحرسونهم.
لماذا كانت أمريكا تغير الجنود كل ستة أشهر؟! لماذا كان المحقق يغير في مدة أقصاها سنة؟! لماذا؟! ما هو التأثير الذي كانوا يؤثرونه بغيرهم؟! لقد تعجبوا وهم يحققون معهم ويحرسونهم ويرون منهم الرضا وكثرة الصلاة وتلاوة القرآن والإشباع الإيماني التام.
وانظر لما يقع على أي من المسلمين المستضعفين في أي أرض في الدنيا، وانظر إلى أساليب الثبات، كما قال الله -جل وعلا- على المؤمنين لما وصفهم في كتابه، قال -سبحانه وتعالى- عن الكفار: (وَقَدْ مَكَرُواْ مَكْرَهُمْ وَعِندَ اللّهِ مَكْرُهُمْ وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ) [إبراهيم:46].
فسمى الله -تعالى- بلالاً جبلاً، وسمى خبابًا جبلاً، وسمى سمية وعمارًا وياسرًا جبالاً، قال: (وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ) يعني مكر أمية بن خلف، ومكر أبي جهل وأبي لهب، (وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ * فَلاَ تَحْسَبَنَّ اللّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ) [إبراهيم:46-47].
تعالوا نقف عند شعور الصحابة، الشعور بأن النصر للإسلام، الشعور التام بقوة الدين، القناعة التامة بالطريق الذي يسيرون فيه، كيف أدى بهم ذلك إلى التأثير بالآخرين ودعوتهم للإسلام.
ذكر ابن كثير في تاريخه أن عبد الله بن مسعود -رضي الله تعالى- عنه مشى يومًا في طريق، وإذا برجل اسمه زاذان، وكان معه أصحابه حوله، وكان يضرب بالطنبور، بآلة عازفة، ويغني لأصحابه وهم يطربون معه، فلما رأوا عبد الله بن مسعود من بعيد هابوه وتفرقوا عن زاذان، فأقبل عبد الله بن مسعود إلى زاذان، قال: لو كان ما يسمع من حسن صوتك يا غلام بالقرآن كنت أنت أنت... ثم جاوزه، فعاد أصحاب زاذان إليه، قال لهم: من هذا؟! قالوا: هذا عبد الله بن مسعود صاحب رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-... فبكى زاذان ثم أقبل إلى عبد الله بن مسعود وأخذ آلة عزفه وكسرها بيده، فاعتنقه عبد الله بن مسعود، قال: مرحبًا بمن أحبه الله.
لأن الله إذا أحب عبدًا قربه إليه، إذا رأيت الله يوفقك لصلاة الضحى، وتلاوة القرآن، ونصح الناس، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ فاعلم أن الله قد أحبك.
قال: مرحبًا بمن أحبه الله، ثم ضمه إليه ومضى به إلى بيته، قال: وأخرج له تمرًا وماءً ولبنًا، يعني أكرمه، ثم أصبح زاذان بعد أن كان مغنيًا مطربًا أصبح من خيار أصحاب عبد الله بن مسعود -رضي الله تعالى عنه-.
وذكر أبو نعيم في حلية الأولياء أن امرأة أقبلت يومًا إلى سفيان الثوري وكان في مجلس علمه، أقبلت إليه وقالت: يا إمام: إن عندي ولدًا قد أتعبني، يشرب الخمر ويترك الصلاة ويفعل ويفعل، ويعقني. هل أجيئك به تعظه؟! لم يقل لها سفيان الثوري: ديني دين ضعيف لا أستطيع أن أحاجج به والهداية أمر صعب، لا! سفيان الثوري ليقينه بقوة الدين والإسلام مستعد أن يحاجج به أكثر الناس، قال: جيئيني به، فجاءته بالغلام، فجلس الولد بين يديه فوعظه سفيان ونصحه، وإذا كان المرء صادقًا في قلبه، مبتغيًا وجه الله -تعالى- بدعوته وبنصحه، لا يسعى وراء ثناء أو شهرة أو ظهور، وكان صادقًا، خرج الكلام من القلب إلى قلوب الناس.
قال: فجعل يعظه فبكى الغلام، ثم قام من عند سفيان الثوري، فجاءت المرأة بعد وقت إلى سفيان فسألها عن ولدها فذكرت من أمره خيرًا، ثم جاءته بعد وقت فسألها عن ولدها فقالت: نعم، لكن الولد الآن يسهر الليل ولا يكاد ينام في النهار. قال لها: لمَ؟! قالت: يطلب العلم، وفي الليل ينسخ الحديث.
فعلم سفيان أن هذا الغلام قد وفق إلى خير فقال لها: أما الآن فاحتسبيه عند الله -تعالى-، احتسبي أن الله -تعالى- يرفعك بأن يكون ولدك عالمًا من العلماء.
كان المسلمون لشدة قناعتهم في قلوبهم بصحة وسلامة الطريق الذي يسيرون عليه، وبأن الله -تعالى- مؤيد دينه وناصر كلمته ومعلٍّ شريعته، كانوا يقدمون الدين للناس بكل جرأة.
وقرأت قريبًا عن الأستاذ سيد قطب -رحمه الله تعالى- أنهم كانوا في سفينة وكانوا مبحرين إلى بلدة في أمريكا، قال: وكان عدد الذين في السفينة لا يتجاوز مائة شخص، قال: وكان المسلمون عددهم قليلاً بينهم، قال: فلما أقبل علينا وقت الجمعة قلت للمسلمين: لماذا لا نصلي الجمعة؟! قالوا: هل يأذن لنا القبطان أن نجتمع ونصلي ونحن في سفينة للنصارى وهي مليئة بهم؟! قال: فذهبت إلى قبطان السفينة وتحدثت معه فأذن لنا بذلك، قلت له: أستأذنك أن تأذن لمن في السفينة من طباخين وعمال مسلمين أن يصلوا معنا، قال: نعم.
قال: فأذّنتُ، فاجتمع فوق أصحابي ضِعفهم ممن كانوا يعملون في السفينة من عمال مسلمين من بلدان شتى، قال: اجتمعوا فخطبتُ بهم، واجتمع أولئك علينا ينظرون، في عصر سيد قطب -رحمه الله تعالى- لم يكن هناك إنترنت ولا فضائيات؛ وبالتالي لم يروا مسلمين يصلون من قبل.
قال: فخطبت بهم، ثم صلينا الجمعة، فأقبلوا إلينا يصافحوننا ويشكروننا على هذا القداس، يقولون: أنتم عملتم شيئًا مقدسًا، يشكروننا على نجاحه، لم تحصل فيه مضاربة بين الناس ولا تخريب.
قال: فكنت أقول لهم: هذه صلاة، فلا يفهمون، قال: فأقبلَتْ إليّ امرأة واضح عليها التأثر، وقالت: أبارك لك أن نجح قداسكم، يعني هم استغربوا من أن هذه المجموعة قد اجتمعت وما حصلت بينهم مشكلة، وقد ركعوا في وقت واحد وسجدوا في وقت واحد، عملوا كل الحركات بانتظام، كيف؛ وهم لا يعرف بعضهم بعضًا؟!
قال: هنأتني على نجاح القداس، فوضحت لها أن هذه صلاة، قالت: أنت القسيس الذي صليت بهم؟! قلت لها: أنا الإمام، نحن نسميه إمامًا، قالت: لا عليك؛ لكنك في أثناء القداس –تقصد أثناء الخطبة– كنت تكرر كلمات مؤثرة تغني بها، هذه الكلمات جعلتني أبكي ويخشع قلبي معك وأنا لا أفهم هذه الكلمات!!
قال: فتلوت لها بعض الآيات التي كانت في أول الخطبة، قال: فتأثرت، قالت: هذه هي! ما هذه؟! قال: فأوضحت لها أن هذا هو القرآن، وأن هذا الدين قد جعل الله -تعالى- فطرته في قلوب الناس أجمعين، كما قال الله -جل وعلا-: (فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ) [الروم:30]، وقال -عليه الصلاة والسلام-: "كل مولود يولد على الفطرة"، يولد على التوحيد وعلى معرفة الله وحبه، "فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه".
قال: وما زلت أتحدث معها عن الإسلام حتى دخلت في الإسلام ونحن في السفينة، لو لم يقِرّ في قلب سيد قطب -رحمه الله- أو أصحابه قوة هذا الدين وسلامة الطريق الذي يسيرون عليه، كما قال الله: (فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ) [النمل:79]، لو لم يكن في قلوبهم اليقين التام بسلامة هذا الطريق؛ فبالله عليكم، هل كانوا يجرؤون على أن يصلوا أمام الناس بمثل هذه الطريقة؟!
أيها المسلمون: كلما كان الإنسان أكثر يقينًا وقناعة بالمعلومات التي يتخذها والطريق الذي يسير عليه هان عليه بعد ذلك أن يحاجّ به، وأن يدعو الناس إليه؛ بل وأن يعطي في سبيل نجاح طريقه ومنهجه فيضحي بحريته فيسجن، أو يضحي بماله فينفقه، أو يضحي بنفسه وروحه فيقتل في سبيل الله، وهذا ما ربى عليه النبي -صلى الله عليه وسلم- أصحابه حتى نصر الله -تعالى- هذا الدين: (فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ) [النمل:79].
أسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يثبتنا وإياكم على ديننا، وأن يزرع الإيمان في قلوبنا، أقول ما تسمعون وأستغفر الله العظيم من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وإخوانه وخلانه، ومن سار على نهجه واقتفى أثره واستن بسنته إلى يوم الدين.
أما بعد:
أيها الإخوة الكرام: إن من نظر في سيرة رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-، ونظر في سير أصحابه الكرام، ونظر في سير من اتبع ذلك الجيل المبارك، وجد هذا المبدأ قائمًا تمامًا في قلوبهم، لم يكن عندهم شك في سلامة الطريق الذي يسيرون عليه، وأن ربهم -جل وعلا- هو الإله الحق، وأن الله -جل وعلا- قد أنزل شريعته سليمة من النقصان، وأن الإنسان باستقامته والتزامه بها يزيد عفة ورفعة، وإن مات في أثناء الطريق فإلى جنة عدن التي وعد الله -تعالى- بها أنبياءه ورسله.
لذلك تجد في سير الصحابة -رضي الله عنهم- هذه الحقيقة، فهذا مصعب بن عمير -رضي الله عنه- يوصي أصحابه باتباع رسول الله -عليه الصلاة والسلام- والجهاد معه والبذل لهذا الدين، وها أنت تسمع مثل هذا الكلام من سعد بن الربيع، وهو من سادة الأنصار.
لا تجد أحدًا عند موته وقد ترك أهله وماله والعز الذي كان فيه، لا تجده ندم على أن سار في هذا الطريق الذي ضحى فيه بروحه وأهله وماله؛ وذلك لِما جعل الله -تعالى- من اليقين التام في قلوبهم.
إذا استقر هذا في قلوبنا فهو يدعونا إلى عدة أمور:
أولاً: اليقين التام بأن هذا الدين ظاهر، ترى ما يقع في سوريا وما يقع في غيرها فتتيقن تمامًا أن هذا الدين ظاهر، وأنه قائم، وأن الغلبة في آخر الأمر للإسلام والمسلمين، وأن الأمر هو كما قال الله -تعالى-: (وَلَكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ * سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ * وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ) [محمد:4-6].
يجب أن يكون هذا اليقين قائمًا في قلبك، لا يقع شك في قلبك كلما سمعت حربًا على المسلمين أو تضييقًا على علمائهم أو دعاتهم أو قبضًا على مجاهديهم أو غير ذلك مما لا يزال يقع.
الأمر الثاني: أن تعمل على دعوة الناس إليه، طالما أنت مقتنع أن الإسلام هو الحق وأنه طريق الله -تعالى- صدقًا، وأن الغلبة له في النهاية، ادع الناس إليه من خلال ما بين يديك من وسائل، سواء الدعوة المباشرة أو نصح المسلمين المقصرين كتاركي الصلاة وعاقي والديهم والواقعين في الفواحش، أو من خلال وسائل الإنترنت، المهم أن تبذل ما تستطيع.
الأمر الثالث: إن الله -جل وعلا- قال: (اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ) [آل عمران:102]، يقول بعض الصحابة: "والله ما نزلت علينا آية أشد من هذه الآية".
ولما سئلت عائشة -رضي الله تعالى عنها- عن أكثر دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم-، قالت: "كان أكثر دعائه: يا مقلب القلوب، ثبِّتْ قلبي على دينك".
لقد سمعتَ أن هذا الدين حق، وأن الغلبة له، وأنه لن يدع الله -تعالى- بيت مدر ولا وبر إلا أدخله هذا الدين؛ فادعُ الله -تعالى- دائمًا أن يثبتك عليه؛ كما قال ابن عباس لما قرأ قول الله -جل وعلا- عن إبراهيم -عليه السلام- لما كان يبني البيت الحرام بأمر الملك العلام، كان وهو يبني الكعبة يقول: (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ) [إبراهيم:35]، يطلب من الله أن يجنبه عبادة الأصنام وهو الذي حطمها صغيرًا، وحاربها كبيرًا، ومع ذلك يقول: (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ) [إبراهيم:35].
قناعتك بدينك تجعلك تسأل الله -تعالى- دائمًا الثبات عليه، الثبات على الصلاة، الثبات على عدم سماع الحرام، عدم النظر إلى الحرام، الثبات على نفقتك في سبيل الله، الثبات على الدعوة، الثبات على الأمر بالمعروف والنهي عن منكر. "يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك"، ليكن هذا في دعائك أبدًا.
أسأل الله -سبحانه وتعالى- أن ينصر بنا دينه...
التعليقات