اقتباس
فكما أن الشكر الجميل ما كان ليكون لولا السعي الحسن فكذلك السعي الحسن ما كان ليكون لولا وجود الدنيا، والأعمال جميعها خيرها وشرها لم تنمو إلا في مزرعة هذا العالم ولم تسق إلى في هذه الأرض، ويوم القيامة كل يحصد جزاء ما زرع ويجني ثمرة ما بذر.
الحمدلله رب العالمين والصلاة والسلام على رسوله الآمين وعلى آله وصحبه والتابعين وسلم تسليماً كثيراً وبعد:
دارنا هي الجنة وأمنا هي النعيم –بإذن الله- كما أن دار الناكبين عن الصراط وأمهم هي هاوية؛ لكن شاء الله -تعالى- أن يأسرنا الخصم (إبليس) قائد الغواية ورائد الضلالة من نعيم أمنا (الجنة) إلى جحيم ضرتها (الدنيا) ولم يكتف العدو بخروجنا من ذلك النعيم وتسببه بحرماننا منه، قال الله: (فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ) [البقرة: 36]؛ بل أراد أن نكون شركاءه في الضلالة ونقاسمه الغواية في الدنيا لنستوي وإياه -عياذاً بالله- في الخاتمة السيئة ونجتمع معه في النهاية المخزية (النار)، ليقوم يوماً خطيباً في جمع كبير ممن تبعوه معلناً براءته وسلامته، وأنه لم يكن سبباً في هذا المصير المخزي ولا طرفاً في هذا الجزاء الأليم.
وليس بغريب على دنيء مثل إبليس أن يتنكر لهم استجابتهم أو ينكر عن نفسه دعوتهم؛ فقد تبرأ منهم في الدنيا قائلاً: (كمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ) [الحشر: 16]، واليوم في أقسى منظر وأفظع مشهد في النار يعلنها مدوية، قال عزو وجل: (وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [إبراهيم: 22]؛ فهو بحق ماكر لئيم في الدينا وحقير ليئم في الآخرة.
فلقد تجاهل كل وسيلة بذلها لصد الخلق عن الخالق، وتغافل عن كل جناية مارسها لزج العباد في المحارق لتكون الصاعقة الكبرى عند براءته منهم، (إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ).
أيها الكرام: ومن بعد الأمر الإلهي بالسجود لآدام -عليه الصلاة والسلام- وامتناعه امتثال ذلك، ومن تلك اللحظة أظهر اللعين حقده وأبان الخبيث انتقامه؛ فقد كان الأمر الإلهي بالنسبة له مخالفاً لاعتقاده الباطل وزعمه الأفاك؛ فكان يظن وبئس ما ظن أن النار أفضل من الطين؛ وبالتالي من خلقه النار خير ممن خلقه الطين، فرأى أن السجود له أولى من آدم -عليه الصلام-؛ لذا كان الأمر الإلهي بالنسبة له غير منطقي، وحينها اعترض على هذا الأمر وامتنع عن السجود فاستحق الطرد من السماء، قال الله: (فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ) [الأعراف: 13].
فأقسم حينها يحمله الكبر ويأزُّه البطر ليواصلنَّ عداوته للجنس البشري ويستمرنَّ في عداوته للعنصر الآدمي فيجعلهم من حزبه ويصيرهم من جنوده، وفي الآخرة يرِدُهم مورده ويجعلهم جواره، قال الله -سبحانه-: (قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ) [الأعراف: 16- 17].
وفعلاً أقسم الخبيث ولم يحنث في قسمه ووعد اللعين ولم يخلف في وعده، وهو على ما حلف عليه سائر وعلى بني آدم حتى القيامة ثائر، إلا صنف من عباد الله -تعالى جعلنا الله وإياكم منهم-، ما كان لله ليتخلى عنهم فعنايته بهم حاضرة وقائمة، قال الله: (قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ * إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ) [الحجر: 41- 42].
لقد باشر الخبيث مهمته بكل تحد وإصرار ومنحه الله طول البقاء وصلاحية الإغواء، وها هو -للأسف- يفلح منذ الوهلة الأولى؛ فقد زين لأبينا آدم الخطيئة فأكل من الشجرة التي نهي عنها فكانت النتيجة، (اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى) [طه: 123]؛ فصارت الدنيا محط رحال الخصمين ومبيدان مبارزة الفريقين؛ إذ السماء لا يليق أن يكون فيها مثل هذا التعالي أو الاعتراض، ولا يجوز فيها من المخالفات التي يسع أن تكون في الدنيا قدراً كونياً لا قدراً شرعياً، قال الله: (لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ) [الأنفال: 42].
فلما نزلا إلى الأرض كانت المفاجأة بالنسبة لآدم؛ حيث أن هذه الدار لم تكن كتلك الدار التي عاشها وأن الدنيا ليست كالعليا، (إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى * وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى ) [طه: 118- 119].
أما الدنيا فقد كانت وما زالت داراً ملئت بالأكدار والأقذار وطفحت بالآلام والأحزان، وليس هذا بغريب فيها خصوصاً عند من يدرك حقيقتها ويفهم طبيعتها؛ فهو يعتبرها دار فتنة وبلاء وامتحان وعناء وأنها دار ممر لا مقر، وأنها لم تكن سوى جزاء وعقوبة؛ أما غيره ممن أرادها للسكن والبقاء وطلبها للصفاء والنقاء فهي تزيده ضنكاً وشقاء.
ومع ما حوت دار الدنيا من آلام ومحن، وما ذكر عنها من قدح وذم مما هو مستفيضٌ في نصوص القرآن والسنة وعلى ألسنة الزهاد والأئمة والحكماء والعباد، وخلال حياة السابقين فيها واللاحقين؛ إلا أنه لا يعني ذلك أن نذمها بإطلاق ولا ينبغي أن نسقط عليها كل عبارات الذم دائماً ولا ننزل بها ألفاظ القدح كلياً؛ ففيها جوانب إيجابية وصوراً مشرقة وصفحات ناصعة، ولولا هي لما وجد ذلك ولا كان أولئك.
ألا وإن أعظم محاسن هذه الدنيا وأفضل صنائعها أنها أهَّلت عباداً عملوا الصالحات فيها لرؤية الكريم المنان، وتهيأ فيها قوم بفعل القربات لجوار النبي العدنان وقدموا عليها من المعروف والإحسان ما جعلهم من أهل جنة الرضوان، قال الله تعالى: (وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ) [الزمر: 74]؛ فكانت عبوراً لهم إلى دار السلام وطريقاً إلى رحمة الملك العلام.
أيها الفضلاء: وهنا تأتي المناسبة لطرح سؤالنا المهم؛ متى تكون الدنيا دار ذم وموضع نقد؟!
قد أجاب القرآن الكريم إجابة شافية واضحة للأفهام جلية للأبصار وبين في أي الظروف والأحوال تكون مذمومة، قال عز وجل: (فَأَمَّا مَنْ طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى * وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى) [النازعات: 37 - 41].
وفي تفسير القرطبي حيث روى جويبر عن الضحاك قال: قال حذيفة: أخوف ما أخاف على هذه الأمة أن يؤثروا ما يرون على ما يعلمون. ويروى أنه وجد في الكتب: إن الله - جل ثناؤه - قال: "لا يؤثر عبد لي دنياه على آخرته، إلا بثثت عليه همومه وضيعته، ثم لا أبالي في أيها هلك".
وفي تفسير الطبري: فأما من عتا على ربه، وعصاه واستكبر عن عبادته. وقوله: (وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا)، يقول: وآثر متاع الحياة الدنيا على كرامة الآخرة، وما أعد الله فيها لأوليائه، فعمل للدنيا، وسعى لها، وترك العمل للآخرة، (فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى)، يقول: فإن نار الله التي اسمها الجحيم، هي منزله ومأواه، ومصيره الذي يصير إليه يوم القيامة.
وأقول: إن الله -تعالى- من خلال الآية الكريمة لم يتوعد بالجحيم لمن عمل في الدنيا أو اشتغل فيها أو أعطاها من وقته أو من تفكيره أو جهده؛ بل كان توعده حصراً لمن آثرها على آخرته ومقصوداً على من قدمها على رضى ربه وهدى نبيه؛ فمن كانت حاله كذلك فذلك الإثم وثم الوزر.
فالدنيا حين تكون وسيلة مباحة للعيش الطيب الكريم، فالله يقول عنها: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) [الملك: 15]؛ ولما تكون عائقاً أمام السائرين إلى الله ومشغلة لهم عن الحياة الآخرة؛ فهي كما قال الله: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ) [فاطر: 5].
وحين تكون التجارة والتكسب رزقاً حلالاً بقصد عفة النفس والأهل وفق الضوابط الشرعية، فالله يقول في مدح أهلها: (رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ) [النور: 37]؛ لكن لما تلههم عن طاعة الله ورسوله، فهي كما قال الله: (وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ) [الجمعة: 11]، وكقوله: (لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ) [المنافقون: 9].
وحين كانت الزوجة عفاف وسكن وخير صاحب وطيب منبت، يقول الله عنها: (فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ) [النساء: 3]، ولما صارت شغلاً عن طاعة الله ورسوله وملهاة عن ذكره وعبادته، فهي كما قال الله: (إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ) [التغابن: 14].
ولما كان الأولاد أنس وقوة وسرور للنفس وكسب طيب، وصفهم الله بقوله: (الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ) [الكهف: 46]، لكن لما كانوا صوارف عن طاعة الله ومجبنة عن لقاء العدو، نعتهم الله بقوله: (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ) [الأنفال: 28]، وقال تعالى: (فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ) [التوبة: 55].
إذاً فحين تكون الدنيا سبباً في صرف العباد عن ربهم ونسيانهم خالقهم وتفريطهم في شريعته وغفلتهم عن غايتهم التي خلقوا من أجلها وآخرتهم التي سيُردون إليها تصبح مذمومة بحق وحقيرة بصدق. حين تصبح الدنيا ضرة للآخرة وعائقاً أمام السائرين إلى الله وحجرة عثرة أمام المقبلين إليه تكون عدوة. وحين تصرف العباد بزخرفها وتأخذ لبابهم بشهواتها فتلسب أفكارهم حتى تصبح في قلوبهم مقدسة والآخرة في أيديهم مهانة تصبح الدنيا نكبة وكارثية. حين يصبح الولاء والبراء لأجلها يخاصمون من أجلها ويحزنون بسببها تصبح فتنة. حين يرتكبون لأجلها ما حرم الله ويتركون بسببها ما أوجب الله تصير بلاء. حين تصد عن كتاب الله وتشغل عن الذكر وتلهي عن الصلاة تصبح لهواً ولعباً. حين تشكل تهديداُ للآخرة فتصبح الآخرة ثمناً لها هناك تصبح مسخاً. حين تزاحم الله في قلوب عباده فيكون لها من المحبة والتعظيم حتى يعبدها الناس دينارها ودرهمهما تكون حينئذ لله نداً.
فهذه الحالات وأمثالها لا تستحق الدينا وصفها بحقيرة ودنية فقط ولا بفتنة وبلاء وزينة وتفاخر فحسب؛ بل تكون حينها مستحقة لكل أوصاف الذم وألقاب القدح، ويستحق أصحابها الوعيد القرآني في الدنيا، قال الله: (فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ) [التوبة: 55]، وقال: (فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا) [النجم: 29]، وفي الآخرة توعدهم بقوله: (أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ) [البقرة: 86].
أما إذا عرف الإنسان قدرها ولم يعطها فكره وهمه ولم يسلمها هواه وقلبه، ولم ينغمس فيها أو ينكفئ عليها؛ إنما قصر نفسه فيها بقدر حاجته منها بما يبلغه إلى الله ويقربه منه، ويمكنه من تحقيق الغاية الكبرى من وجوده وبلوغ المقاصد العظمى من خلقه وظفره بالدرجات العلى من آخرته، وتعاطي معها في إطار المباح وتعامل معها في دائرة المشروع، فلا إشكال يومئذ في التعامل معها ولا أخذ نصيبه منها؛ فلولا الدنيا بعد الله لما بلغ أهل الفضل منازلهم، ولولاها لما استلم أهل المعروف مقاعدهم، ولولاها لما تبوأ المتقون المقام العظيم وحازوا على رؤية وجهه الكريم؛ فعلى قدر الاجتهاد في الدنيا كان الجزاء في الآخرة وعلى قدر السباق كان مع المقربين اللحاق وعلى قدر العمل كان الثمن.
وكما قال ابن عمر: "إن هذه الدنيا دار التواء لا دار استواء، ومنزل ترح لا منزل فرح فمن عرفها لم يفرح لرخاء، ولم يحزن لشقاء، قد جعلها الله دار بلوى، وجعل الآخرة دار عقبة فجعل بلاء الدنيا لعطاء الآخرة سببا، وجعل عطاء الآخرة من بلوى الدنيا عوضا فيأخذ ليعطي ويبتلي ليجزي" (من كنز العمال)
إن الدنيا مزرعة الآخرة والدنيا أرض والإنسان فيها فلاح فيها وهو فيها كادح؛ فمن زرع فيها طيباً أنتجت له فيها معروفاً وأثمرت له في الأخرى رضى ونعيماً، ومن زرع فيها شراً حصد منها شراً وفي الآخرة سحقاً وجحيماً، قال الله في كتابه الكريم: (وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا). [الإسراء: 19].
فكما أن الشكر الجميل ما كان ليكون لولا السعي الحسن فكذلك السعي الحسن ما كان ليكون لولا وجود الدنيا، والأعمال جميعها خيرها وشرها لم تنمو إلا في مزرعة هذا العالم ولم تسق إلى في هذه الأرض، ويوم القيامة كل يحصد جزاء ما زرع ويجني ثمرة ما بذر.
يقول صاحبُ الظلال في تفسير قوله تعالى: (اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ...) [الحديد: 20] ما مختصره: "والحياة الدنيا حين تُقاس بمقاييسها هي، وتُوزن بموازيننا، تبدو في العين وفي الحسِّ أمرًا عظيمًا هائلاً، ولكنها حين تُقاس بمقاييس الوجود، وتُوزن بميزان الآخِرة تبدو شيئًا زهيدًا تافهًا، وهي هنا في هذا التصوير تبدو لعبةَ أطفال بالقياس إلى ما في الآخرة مِن حدٍّ تنتهي إليه مصايرُ أهلها بعدَ لعبة الحياة. لعب، ولهو، وزينة، وتفاخر، وتكاثر، هذه هي الحقيقةُ وراءَ كل ما يبدو فيها مِن جد حافِل واهتمام شاغل" اهـ.
وخلاصة القول أيها الكرام: أن المذموم في الدنيا هو الركون إليها والتعلق بها وإيثارها على غيرها والانبهار بمتاعها الزائل وما فيها من شهوات ومضلات والانشغال بها عن طاعة رب العالمين واتباع سيد المرسلين، ونصوص الذم التي وردت فيها لا يعني العزوف عنها وترك عمارتها وبنائها وحسن الاستخلاف فيها والحرص على التفوق فيها والاستفادة من مخزونها وما أودعه الله فيها من منافع؛ وفق منهج الله -تعالى- وتعاليم شرعه وهدي نبيه وخطى أصحابه وأئمة الهدى من بعده إلى يوم الدين.
نسأل الله -تعالى- أن يقينا شر أنفسنا وشر الشيطان وشركه وشر ما حوت عليه الدنيا ومن شر غاسق إذا وقب ومن شر النفذات في العقد ومن شر كل ذي شر ومن شر كل طوارق الليل والنهار إلا طارقا سيطرق بخير يا رحمن. اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا غاية رغبتنا ولا تجعل إلى الناصر مصيرنا واجعل الجنة دارنا. اللهم لا تعلق قلوبنا إلا بك ولا جوارحنا إلا بطاعتك والإحسان إلى خلقك.
وسلام على المرسلين والحمدلله رب العالمين
التعليقات