د. عبد اللطيف تلوان
الحمد لله الكافي من استكفاه، الواقي من اتقاه، الجازي من عمل لنيل رضاه، والصلاة والسلام على سيد الرجال، وأستاذ المجتهدين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبع هديه إلى يوم الدين، وبعد:
فإن كان هناك من شيء في الدين الحنيف أحفظ وأدل على سيرورة الإسلام وصلاحية نصوصه –المتمثلة في الكتاب والسنة الصحيحة- لكل الأزمنة والأمكنة، فإن الاجتهاد يحتل المرتبة الأسمى في هذا خدمة لكتاب الله تعالى وسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، وحفظهما من كل شائبة وتحريف وسوء فهم.
وهذا المقال المتواضع تطرقت فيه إلى قضية مفهوم الاجتهاد ومزالقه في العصر الحديث معتمدا بالخصوص على كتابي([1]) الدكتور يوسف القرضاوي في هذا المجال.
أولا: الاجتهاد لغة واصطلاحا
1-الاجتهاد لغة: الاجتهاد في اللغة مشتق من مادة: (ج،هـ،د) بمعنى: بذل الجهد (بضم الجيم) وهو الطاقة أو تحمل الجهد (بفتح الجيم) وهو المشقة.
وصيغة (الافتعال) تدل على المبالغة في الفعل، ولهذا كانت صيغة "اجتهد" أدل على المبالغة من صيغة "جهد".
فالاجتهاد إذن في اللغة: استفراغ الوسع في أي فعل كان، ولا يستعمل إلا فيما فيه جهد. فيقال: اجتهد في حمل حجر الرحى، ولا يقال: اجتهد في حمل خردله([2]).
2-الاجتهاد اصطلاحا:
ترد في تعريفاته عند الأصوليين عدة عبارات متفاوتة، لعل أقربها ما نقله الشوكاني في كتابه "إرشاد الفحول" بقوله: «الاجتهاد بذل الوسع في نيل حكم شرعي عملي بطريق الاستنباط» وهذا التعريف بهذه العبارة هو أيضا تعريف الإمام الزركشي في البحر المحيط، كما في كتاب "الاجتهاد" للدكتور سيد محمد موسى قراتا ص: 99.
وزاد الإمام الآمدي على هذا التعريف فقال: «هو استفراغ الوسع في طلب الظن بشيء من الأحكام الشرعية على وجه يحس في النفس العجز عن المزيد عليه»([3]).
قال الشوكاني في شرح تعريفه: (الاجتهاد بذل الوسع في نيل حكم شرعي عملي بطريق الاستنباط).
فقولنا: بذل الوسع: يخرج ما يحصل مع التقصير، فإن معنى بذل الوسع، أن يحس من نفسه العجز عن مزيد طلب.
ويخرج بـ(الشرعي) اللغوي والعقلي والحسي. فلا يسمى من بذل وسعه في تحصيلها مجتهدا اصطلاحا.
وكذلك بذل الوسع في تحصيل الحكم العلمي (الاعتقادي) فإنه لا يسمى اجتهادا عند الفقهاء، وإن كان يسمى اجتهاداً عند المتكلمين.
ويخرج بطريق (الاستنباط) نيل الأحكام من الأحكام من النصوص ظاهرا، أو حفظ المسائل أو استعلامها من المفتي، أو بالكشف عنها في كتب العلم، فإن ذلك وإن كان يصدق عليه الاجتهاد اللغوي لا يصدق عليه الاجتهاد الاصطلاحي.
وقد زاد بعض الأصوليين في هذا الحد لفظ (الفقيه) فقال: «بذل الفقيه الوسع..» قال الشوكاني: «ولابد من ذلك، فإن بذل غير الفقيه وسعه لا يسمى اجتهادا اصطلاحا»([4]) والمراد بالفقيه هنا: المتهيء للفقه الممارس له.
ثانيا. من مزالق الاجتهاد في العصر الحالي:
للاجتهاد المعاصر بنوعيه: الحقيقي والادعائي مزالق يتعرض فيها للخطأ من أهله في محله بشرطه ،أو للانحراف إذا صدر من غير أهله، أو غلب فيه الهوى. أو لم يستفرغ الفقيه وسعه في معرفة الحكم الشرعي.
أولا: الغفلة عن النصوص: التي يجب اتباعها من كتاب الله تعالى وسنة رسوله
أما الاجتهاد بالرأي قبل البحث عن النص فهو خطأ.
والخطأ الأكبر منه أن تدع النص المعصوم، وتجري وراء الرأي الذي لا عصمة له، وأسباب ترك النص الصريح متعددة منها: الجهل بثبوت النص ويحدث هذا مع السنة المطهرة لقلة المعنيين بها، وجراءة كثير ممّن ينسبون أنفسهم إلى الاجتهاد وإلى الفقه، عليها. ومنها: الغفلة والذهول عن النص نتيجة سوء فهم أو غلبة هوى أو تحكم عصبية أو دعوى مصلحة. وأقرب مثال على هذا قضية جواز استلحاق اللقطاء حيث أفتت المحكمة الشرعية العليا في "البحرين" بأن يستلحق الرجل اللقيط ويضمه إلى نسبه ويصبح بذلك ابنا له، تترتَّبُ له وعليه كل حقوق البنوة وواجباتها.
وهذه الفتوى مخالفة لنصوص القرآن الحاسمة القاطعة التي حرمت التبني وأبطلته، وأجمع على ذلك المسلمون من جميع المذاهب وفي جميع الأزمان.
ثانيا: سوء فهم النصوص أو تحريفها عن موضعها: كأن يخصصها وهي عامة، أو يقيدها وهي مطلقة أو بالعكس. أو ينظر إليها معزولة عن سابقها وسياقها، أو عما ورد في موضوعها من نصوص أخرى تحدد مدلولها وتبين المراد منها، أو عما يؤيدها من إجماع يقيني لم يخرقه أحد على توالي العصور، وقد لا يقف الأمر عند حد سوء الفهم بل يصل إلى حد التحريف الجائر لكلام الله تعالى، وكلام رسوله e، وإخراجه عن المراد تماما، كمسألة التحريف التي تطال آيات الحدود، كقولهم مثلا في قوله تعالى في حد السرقة: ]والسارق والسارقة فاقطعوا أيدهما جزاء بما كسبا نكالا من الله[ ([5])، وقوله تعالى في حد الزنا: ]الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ولا تاخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تومنون بالله واليوم الآخر[ ([6]). فهل لنا أن نجتهد في الأمر الوارد في حد السرقة وهو قوله تعالى: "اقطعوا" والأمر الوارد في حد الزنا وهو قوله تعالى "فاجلدوا" فنجعل كلا منهما للإباحة لا للوجوب، ويكون الأمر فيهما مثل الأمر في قوله تعالى: ]يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين[ ([7])، فلا يكون قطع يد السارق حدا مفروضا، لا يجوز العدول عنه في جميع حالات السرقة، بل يكون القطع في السرقة هو أقصى عقوبة فيها، ويجوز العدول عنه في بعض الحالات إلى عقوبات أخرى رادعة، ويكون شأنه في ذلك شأن كل المباحات التي تخضع لتصرفات ولي الأمر، وتقبل التأثر بظروف كل زمان ومكان. وهكذا الأمر في حد الزنا.
وهذا الاجتهاد المزعوم مردود على صاحبه، لأنه اجتهاد فيما لا مجال للاجتهاد فيه لأنه أمر قطعي، ثابت بالكتاب والسنة وإجماع الأمة، ومعلوم من الدين بالضرورة.
ثالثا :الإعراض عن الإجماع المتيقن:
ومن مزالق الاجتهاد في العصر الحديث: تجاوز ما أجمعت عليه الأمة في عصور الاجتهاد، غفلة عن هذا الإجماع وجهلا به، أو إعراضا متعمدا عنه. والإجماع المتيقن الذي استقر عليه الفقه والعمل جميعا، واتفقت عليه مذاهب فقهاء الأمة في عصورها كلها، وهذا لا يكون عادة إلا في إجماع له سند من النصوص، فالنص هو الحجة والمعتمد. ومن ذلك ما قيل من جواز زواج المسلمة في عصرنا بالكتابي، واستدلوا على ذلك بالقياس على إباحة زواج المسلم بالكتابية، وأيضا استدلوا على ذلك بأن القرآن إنما حرم (المشركات) والكتابيات غير مشركات.
وهذا زعم باطل لأن المسلم يعترف بأصل دين الكتابية، فهو يحترمها ويرعى حقها ولا يمنعها من حريتها العقدية، أما الكتابي فهو لا يعترف بدين المسلمة ولا بكتابها ولا برسولها، فكيف تعيش هذه المسلمة في ظل رجل لا يرى لها أي حق باعتبارها مسلمة؟!
وكذلك ينقض هذا الزعم قوله تعالى في كتابه العزيز: ]فإن علمتموهن مومنات فلا ترجعوهن إلى الكفار لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن[ ([8])، فهنا رتب الحكم على الكافر لا على الشرك حيث قال: ]فلا ترجعوهن إلى الكفار[ ([9])، وإذا كانت العبرة بعُموم اللفظ لا بخصوص السبب، فلفظ الكفار هنا يشمل الكتابي كما يشمل الوثني، فكل من لم يؤمن برسالة محمد صلى الله عليه وسلم فهو –بالنسبة لأحكام الدنيا- كافر بلا نزاع.
ومن نماذج ذلك أيضا في هذا الباب قول بعضهم أن الزكاة واجبة في أموال النفط الحكومية ومقدارها الخمس، وهذا لا زكاة فيه بالإجماع لأنه من أموال الدولة.
رابعا: القياس في غير موضعه: ومن مزالق الاجتهاد المعاصر: القياس الفاسد، كأن يقيس النص القطعي على الظني في جواز الاجتهاد فيه أو يقيس الأمور التعبدية المحضة على أمور العادات والمعاملات في النظر إلى حكمها ومقاصدها، واستنباط علل لها بالعقل ترتب عليها الأحكام، كالذين يجيزون للحكومة بأن تستقرض من الشعب بالفوائد الربوية مستدلين بالقياس على أنه (لا ربا بين الوالد وولده) فكذلك لا ربا بين الحاكم والشعب.
والحق أن هذا الحكم (لا ربا بين الولد وولده) لم يثبت بنص ولا إجماع، إنما هو أمر قال به بعض الفقهاء وخالفه الأكثرون، فكيف نقيس على غير أصل؟ وإذن هذا الزعم باطل ولا أساس له من الصحة.
خامسا: الغفلة عن واقع العصر: ومن مزالق الاجتهاد عند بعض الناس: انسياقهم وراء الواقع القائم واستسلامهم لتيارات العصر، وإن كانت دخيلة على المسلمين ومناقضة للإسلام، ومحاولتهم تبرير هذا الواقع بإعطائه سندا من الشرع استساغا وقصرا. وفي مقابل هؤلاء نجد أيضا قوما يريدون أن يجتهدوا في غفلة عن واقع هذا العصر لأسباب شتى، واجتهادهم هذا ينتهي غالبا بالتشديد والتعسير على عباد الله حيث يسر الله عليهم.
كالذين حرموا ذبح "المجزر الآلي" وأوجبوا أن يكون الذبح باليد والسكين المعتادة ولابد. أو كالذين اجتهدوا في تحرير التصوير الفتوغرافي الذي اشتدت إليه الحاجة في العصر الحالي وأصبح من الضروريات.
ونحو هؤلاء نجد بعض العلماء مازالوا يرددون إباحة التدخين، بناء على قاعدة أن الأصل في الأشياء الإباحة، وما قاله بعض الفقهاء أول ظهور التدخين منذ قرون خلت.
سادسا: الغلو في اعتبار المصلحة على حساب النص: وتقديمها على محكمات النصوص أحيانا، وهذا ما جعل هؤلاء يحيون ذكرى نجم الدين الطوفي الذي بالغ في تقدير المصلحة حتى قدمها على النصوص والإجماع، وخالف في هذا كل من أخذ بالمصلحة من قبله ممّن اعتبرها أصلا وطيدا، من المالكية ومن وافقهم، فهم لا يعتبرونها إلا بشرط عدم معارضتها للنصوص والقواعد، ومن ثم سموها "المصلحة المرسلة" أي المرسلة عن اعتبار الشارع لها أو إلغائها إياها ومن ذلك المصلحة التي أراد بعضهم يوما أن يحللوا الربا وهو من الموبقات السبع، والذي أذن القرآن مرتكبه بحرب من الله ورسوله. أو كالذي اشترك في ملتقى الفكر الإسلامي السابع عشر بالجزائر، واقترح نقل صلاة الجمعة للمقيمين في أمريكا إلى يوم الأحد مراعاة لمصلحة اجتماع أعداد كبيرة من المصلين وهو اعتبار مزعوم([10]).
ومن ذلك أيضا إلغاء بعضهم الرخص المشروعة لعدم الحاجة إليها كما زعموا، ومنه أيضا: محاولة بعضهم تحريم الزواج بأكثر من واحدة والدعوة إلى التسوية بين البنت والابن في الميراث.
([1]) "الاجتهاد في الشريعة الإسلامية"، وكتاب "الاجتهاد المعاصر بين الانضباط والانفراط".
([2]) المستصفى للغزالي: 2/350.
([3]) الأحكام في أصول الأحكام للآمدي: دار الكتب العلمية – بيروت، 4/218.
([4]) إرشاد الفحول، ص: 25.
([5]) سورة المائدة، الآية: 38.
([6]) سورة النور، الآية: 2.
([7]) سورة الأعراف، الآية: 31.
([8]) سورة الممتحنة، الآية: 10.
([9]) الآية نفسها.
([10]) الاجتهاد في الشريعة الإسلامية، ص: 161.
التعليقات