عناصر الخطبة
1/صور من التحريش تسود في المجتمع 2/خطورة الشكاوى الكيدية 3/صور سيئة وخطيرة للشكاوى الكيدية 4/وسائل التخلص من الشكاوى الكيدية.اقتباس
إنها الدعاوى التي لا يهدف أصحابها من ورائها لمصلحة مشروعة، وإنما يريدون بها الإضرار بالخصم؛ لأخذ ماله بغير حق، أو لإلحاق الأذى به، أو إزعاجه.. الدعاوى الباطلة يرسمها قوم حسدة، ينتقمون لمبادئهم وأنفسهم، يبغون للبرآء العنت، فبدعاواهم الكاذبة الخاطئة ظُلِمَ أبرياء في أنفسهم أو أموالهم أو وظائفهم.
الخطبة الأولى:
الحمد لله رب الأرض والسموات، حرم الظلم وأحل الطيبات، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، يعلم السر وأخفى، ويطلع على الخفيات، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله نبي الهدى وخير البريات؛ صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ملء الأرض والسموات وسلم تسليماً.
أما بعد: فيا عباد الله اتقوا الله ربكم، واتقوا يومًا لا تجزي نفس عن نفس شيئًا.
"إن الشيطان أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب، ولكن في التحريش بينهم"؛ هكذا أخبرنا النبي الشافع ونطق به الواقع، صور من التحريش تسود في المجتمعات يدفع إليها رقّة في الدين ولهث وراء الدنيا وطمع في المتاع الزائل بأيّ طريق.
إنه التحريش الذي ما دخل في مجتمع إلا فرَّقه، ولا أسرة إلا مزَّقها، ولا صحبة إلا قلبَها عداوةً وبغضاء، إنه التحريش الذي يُوغِر الصدور ويذكي نيران التنافس والتصارع والتدابر، التحريش الذي لا رابح فيه من جميع أطرافه، التحريش الذي تغتال به بيوت ورفاق ورجالات ونساء، التحريش الذي يضرّ ولا ينفع ويفتق ولا يرقع، وينكأ ولا يضمد، ويُفسد ولا يُصلح ويحزن ولا يفرح، ويُبكي ولا يُضحك.
إنه التحريش بكل صوره ومظاهره، حادثة الإفك من ثماره، وقتل عثمان من نتائجه وسجن الإمامين أحمد وابن تيمية من غوائله.
إنه التحريش في كل جيل يتخذ صورًا وأشكالاً، وفي عصرنا تنوعت مظاهره وتعددت حالاته، وأشهرها اليوم تلك الشكاوى الكيدية التي يذكي نارها قوم رضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها وهم عن الآخرة هم غافلون، لا يجدون متعتهم إلا في الخصام والجدال، ولا يطيب هواؤهم إلا مع هواهم وفي أروقة المحاكم والجهات العدلية والمؤسسات الحكومية، شعارهم "إن لم أستفد فلن أخسر".
إنها الدعاوى التي لا يهدف أصحابها من ورائها لمصلحة مشروعة، وإنما يريدون بها الإضرار بالخصم؛ لأخذ ماله بغير حق، أو لإلحاق الأذى به، أو إزعاجه.
الدعاوى الكيدية روّادها رجال يستغلون قدرتهم على الجدال ليأكلوا أموال الناس بالباطل فكم ذهب حق لأرملة أو مسكين أو يتيم أمام مجادل عليم اللسان!
ومنهم فتيات يدعين التعنيف ليهربن من عزّ القوامة وشرف الولاية إلى تلك الحرية الزائفة؛ حيث يُقَدْنَ كالبهائم إلى مزابل الشهوات والشبهات.
ومنهم زوجات يدعين على أزواجهن العقوق والتقصير في الحقوق؛ ليهربن من سكينة الحياة الزوجية إلى سكّينة الحياة العبثية والعيشة الفوضوية.
الدعاوى الباطلة يرسمها قوم حسدة، ينتقمون لمبادئهم وأنفسهم، يبغون للبرآء العنت، فبدعاواهم الكاذبة الخاطئة ظُلِمَ أبرياء في أنفسهم أو أموالهم أو وظائفهم.
أصحاب الدعاوى الكيدية هم الذي يخاطبهم الله في كتابه (وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ)[البقرة: 188].
وهم الذين يخاطبهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بقوله: "إنَّما أنا بَشَرٌ، وإنَّه يَأْتِينِي الخَصْمُ، فَلَعَلَّ بَعْضًا أنْ يَكونَ أبْلَغَ مِن بَعْضٍ أقْضِي له بذلكَ، وأَحْسِبُ أنَّه صادِقٌ، فمَن قَضَيْتُ له بحَقِّ مُسْلِمٍ فإنَّما هي قِطْعَةٌ مِنَ النّارِ فَلْيَأْخُذْها أوْ لِيَدَعْها"(صحيح البخاري ٧١٨٥).
الدعاوى الكيدية بكل صورها وأشكالها ومصادرها هي نوع من الكذب والبهتان والافتراء وقد قال الله: (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا)[الأحزاب:58]، وقال: (وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا)[النساء:112].
إنها صورة من صور الظلم والله لا يحب الظالمين، وقد قال: "إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرمًا"، و"الظلم ظلمات يوم القيامة"، إنها وسيلة لليمين الغموس وشهادة الزور وتلك عظائم من كبائر الذنوب.
فإلى أولئك الذين تاهوا في سراديب التأليب والتحريش والنميمة والوشاية، وإلى أولئك الذين أشغلوا الجهات الحكومية والدوائر العدلية بقضايا كاذبة عبر دعاوى كيدية يظلمون بها بريئًا أو يُبطلون بها حقًّا أو يثبتون باطلاً، أو يأخذون مال غيرهم عبر بوابة الجدال والخصام وبألسنة حداد، إلى هؤلاء نقول: ربما كسبت من دعواك نصيبًا من الدنيا، لكن تذكَّر أنك تتقلب في دنياك وهناك دعوات تخترق الغمام يستجيبها الله ولو بعد حين.
احذر أن تأتي يوم القيامة فتطوق من سبع أرضين بشبر من الأرض أخذته بغير حق، تذكر قول نبيك: "مَن حالَتْ شَفاعَتُه دونَ حَدٍّ مِن حُدودِ اللهِ، فقد ضادَّ اللهَ، ومَن خاصَمَ في باطِلٍ وهو يَعلَمُه، لم يَزَلْ في سَخَطِ اللهِ حتى يَنزِعَ، ومَن قال في مُؤمِنٍ ما ليس فيه، أسكَنَه اللهُ رَدْغةَ الخَبالِ حتى يَخرُجَ ممّا قال"(سنن أبي داود ٣٥٩٧، وصححه الألباني)، وقوله: "مَنْ أعانَ على خصومَةٍ بظُلْمٍ، لَمْ يزَلْ فِي سَخَطِ اللهِ حتى ينْزِعَ" (صحيح الجامع: ٦٠٤٩). ولا خير في لذة من بعدها النار.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم..
الخطبة الثانية:
أما بعد:
فيا عباد الله: إن الدعاوى الباطلة التي بُلِيَ بها فئات من مجتمعات المسلمين لضعف في دينهم وحسد في أنفسهم وقسوة في قلوبهم، إنما توأد بسوط الترهيب الشرعي، بالتربية الحسنة والموعظة بالتي هي أحسن، ستختفي هذه الدعاوى الكيدية حينما يتسلح الناس بسلاح الإيمان بالله واليوم الآخر، ويتدرعون بلباس الخوف من الله ومراقبته والحياء منه وهيبة الوقوف بين يديه في يوم يحاسب فيه على مثاقيل الذر والخردل وعلى القطمير والنقير، في يوم يتجلى فيه الإفلاس الحقيقي لقوم يأتون بحسنات أمثال جبال تهامة بيضاء يجعلها الله هباء منثورًا؛ بسبب ظلمهم للناس وأكلهم أموالهم بالباطل، وجلبهم الأذى النفسي والبدني والمالي لهم بدعاوى كاذبة ووشايات ظالمة.
الدعاوى الكيدية يقطعها سوط السلطان، و"إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن"، وذلك حينما يرتب عليها عقوبات صارمة وتشديدات بالغة تكفل للمحقّ نَيْل حقّه، وتحفظ للضعيف مستحقّه وتردع المتلاعبين الذين يمتهنون الخصومات والدعاوى ليأكلوا فريقًا من أموال الناس بالإثم وهم يعلمون.
الدعاوى الكيدية علاجها نبوي "البينة أو حد في ظهرك"، علاجها (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ)[الحجرات: 6]، علاجها ما فعله التابعي حينما جاءه واشٍ فقال له: "أمَا وجد الشيطان رسولاً غيرك"؟!
وبهذه القسوة الحكيمة نقضي على غرس العداوة والبغضاء التي يرمي بذورها وكلاء إبليس من بني آدم ممن يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا، ويستكثرون على حساب الضعفاء والمساكين.
الدعاوى الكيدية ستختفي حينما ترتفع راية الاحتساب والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويقوم كلٌّ منّا بواجبه في نُصْح المقصرين وتنبيه الغافلين، ولو أنهم (وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا * وَإِذًا لَآَتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا * وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا * وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا * ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا)[النساء: 66- 70].
اللهم صَلِّ وسَلِّم وبارك على عبدك ونبيك ورسولك نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
التعليقات