اقتباس
ويرتبط الاتصال باللغة ارتباطًا وثيقًا؛ حتى علّل موسى -عليه السلام- طلبه إشراك أخيه هارون معه في النبوة بأنه أفصح منه لسانًا. واللغة مهمة في الحديث، والكتابة، وفي التفكير والفهم والتحليل والترميز، ومن خلال اللغة يمكن تكثيف المعنى بأقل قدر من الكلمات، ويبدع في التصريح والتعريض، ومن خلال اللغة...
التواصل عمل بشري لحظي، يؤديه الكافة، بطرق مختلفة، وقنوات عديدة، فالطفل يتصل بأمه وهو جنين في أحشائها بالحركة الراجفة، ثمّ بالبكاء في سن الرضاع، ويمارس حريته الاتصالية بعلو لن يتهيأ له فيما بعد. والراشد يتصل بمحيطه بالكلام والإشارة أو بالإشارة فقط إذا حُرم من نعمة النطق، وعليه فالناس في سلسلة من الاتصال والتواصل لا تنقطع، ولا يُتوقع منها أن تنقص كمًا؛ بل إنها تزيد وتزيد، فمدنية أبناء آدم، وحاجاتهم، وشهوة الحديث، كلها تدفع نحو الاتصال دفعًا.
إذًا الاتصال ومهاراته مسألة مترافقة مع البشرية منذ نشأتها، وإنما عُرف العلم بهذا الاسم، واستخدم لأغراض مادية في أغلب أحواله، وبنيت مصطلحاته ونماذجه على هذا الأساس عندما بزغ من ضمن العلوم الإنسانية الوافدة للعالم من تحت عباءة الحضارة الغربية بما فيها من حمولة ثقافية وقيمية؛ فانصبغ علم مهارات الاتصال بلوازم تلك الحضارة، وهو أمر منسجم مع سياقه الغربي لا يُستغرب، وإنما الذي لا يُفهم هو أن يتلقاه أهل الحضارات الغنية بموروثها كما هو بلا تمحيص ولا عرض عمّا لديهم، أو أن يهملوا الإفادة من المسطور في كتبهم، والمنقول من الصدور، وفي بعضه غنية لمستغنٍ، وكفاية لمستكفٍ غير مستنكف.
فمثلًا لو تتبعنا قصص الأنبياء في القرآن الكريم، لوجدنا في الآيات الخاصة بنبي الله وخليله إبراهيم -عليه السلام- مع قومه أو مع النمرود دروسًا بليغة في الحوار والإقناع، ويتكرر ذلك في سياق أخبار نبي الله وكليمه موسى -عليه السلام- مع قومه وفرعون وقارون، وفيها حجاج وإفحام وهروب بالمراوغة الحوارية من قبل الفرعون الذي يخرج من موضوع إلى آخر كلما فُلج أو بهت لضعف حجته ودحوض رأيه. وأيّ نظر في سورة يوسف سيوقفنا على مهارات اتصالية وفنون في الحوار والخطاب، ومن أخفاها وأعجبها أن الملك طلب لقاء نبي الله يوسف -عليه السلام- بعد تعبيره الرؤيا كي يكلمه قبل أن يستخلصه لنفسه، وصنيعه هذا شبيه بالمقابلة التي يراد منها اكتشاف الشخصية ومعرفتها.
وفي السيرة النبوية والسنة المطهرة أمثلة اتصالية تعز على الحصر، فمنها قصة إقناع الشاب الذي طلب استثناءه من تحريم الزنا، وكذلك التفاوض مع وفد يثرب في بيعة العقبة، ومع كفار قريش في الحديبية، والحوار الداخلي مع الأنصار بعد فتح مكة وإكرام المؤلفة قلوبهم. وفيها نماذج من الخطابة الرفيع بيانها والمتين أداؤها إن في حجة الوداع، أو في الاستعداد لمعركة بدر، أو حينما غشي النبي عليه الصلاة والسلام منازل العرب في موسم الحج قبل الهجرة لدعوتهم، أو في استقبال الوفود خلال العام التاسع من الهجرة. وفي الاتصال الكتابي نجد الرسائل النبوية للملوك والزعماء في الجزيرة العربية وما وراءها، وقبلها وثيقة المدينة بين سكانها، ومن تدبر كتب السنة والسيرة فلن يعدم الشواهد المضيئة دلالة المنيرة حضورًا.
كما كان للعرب سبل الاتصال العالية قبل ظهور الإسلام، مثل الشعر الذي يُعدّ الديوان الحاوي للتاريخ العربي بمآثره ومكارمه وفخره ونسيبه، وعلى رأس هذا الشعر تتربع المعلّقات المحفوظة منذ خمسة عشر قرنًا إلى يومنا. ومن الاتصال بالنثر والشعر ما كان يجري في الأسواق العربية التي تقع على طريق الحج وتتصل بزمانه، وأشهرها سوق عكاظ، وهي أسواق يأخذ بعضها برقاب بعض زمانًا ومكانًا، وتحرص عليها القبائل كافة، ويتشارك في إحيائها الفصحاء البلغاء من الخطباء والشعراء.
ولدى حضارات العالم القديمة في مصر والعراق والشام وفارس، وفي الهند واليونان والصين، كلمات خالدة، وآراء اتصالية ناضجة، وهي محفوظة بآداب تلك الشعوب، وبعضها مترجم للعربية، وتمثل إمدادًا عذبًا غزيرًا لمن شاء الاقتباس من عقول الآخرين التي عركتها التجارب، وأحكمتها السنون المتعاقبة، وأنضجها التوالي؛ حتى وعى فئام منهم المعاني العميقة واستبطنوها ثمّ نطقوا بها، فصارت لهم سلطة ثقافية ومعرفية بما فتح الله عليهم به وحُفظ عنهم.
ويتطلب الاتصال مهارات ذهنية مثل الذكاء وسرعة البديهة، وأخرى لغوية بثراء الألفاظ وجودة سبك الكلام، وثالثة جسدية بضبط إيقاع حركة العين واليد والجسد عامة، ورابعة عاطفية بنقل المشاعر والأحاسيس بحيويتها ودفئها وتدفقها، وخامسة خُلُقية بالصدق ومراعاة الحال والأمانة، وخاتمتها مهارات إدارية بالتنظيم وحسن التوجيه، والحجم المطلوب من هذه المهارات يزيد وينقص حسب مضمون الرسالة، وتوقيتها، وأطرافها، ودرجة الخطورة أو الأهمية فيها، بيد أن لكل قسم منها حدّ أدنى لا مناص من تحققه.
ويرتبط الاتصال باللغة ارتباطًا وثيقًا؛ حتى علّل موسى -عليه السلام- طلبه إشراك أخيه هارون معه في النبوة بأنه أفصح منه لسانًا. واللغة مهمة في الحديث، والكتابة، وفي التفكير والفهم والتحليل والترميز، ومن خلال اللغة يمكن تكثيف المعنى بأقل قدر من الكلمات، ويبدع في التصريح والتعريض، ومن خلال اللغة يمكن معرفة المستوى العلمي والفكري والأخلاقي لمستخدمها، ويمكن أيضًا قياس درجة اعتزازه القومي حين يأنف قدر الاستطاعة من استخدام الأجنبي أو الهجين، وحكاية الاعتزاز باللغة أثناء الاتصال تبرز حتى لدى الساسة دون أن يأبهوا للأعراف الدبلوماسية.
مما يشار إليه أيضًا أن مهارات الاتصال في هذا العلم تنصرف أشد الانصراف إلى جانب إداري ومادي؛ ولذا تغفِل العناية بعمليات اتصالية يومية ضرورية ومركزية في حياة الإنسان، مثل اتصال المرء بمولاه وخالقه إذ تدع هذا الشأن للعلوم الدينية، ومنها اتصال الواحد بنفسه وحديثه إلى روحه الذي يُحال إلى علوم النفس، والاتصال التربوي مع الأبناء الذي اختصّ به علم التربية، وبعض شؤون الاتصال المجتمعي أو الجماهيري أو السياسي لا يأخذ ما يستحقه من حيز اكتفاء بالموجود في علوم الاجتماع والإعلام والسياسة، وهذه النواحي الاتصالية مؤثرة تأثيرًا بالغًا على الفرد ومحيطه، ولا أنفي تقاطعها مع صلب هذا العلم؛ وربما التنصيص عليها أحيانًا؛ بيد أن أهميتها شفيع للتنويه عنها.
ومن الجوانب اللافتة في مهارات الاتصال أن العناية تنصرف صوب إتقان مهارات الحديث واصطفاء الألفاظ أزيد من التفاتها إلى إجادة الاستماع والإنصات بإصغاء مع عظم أثر هذه الحاسة وأعمالها في عملية الاتصال، ومع كون الإنصات من سمات القادة المؤثرين الناجحين. ومما لا يُعتنى به كثيرًا في هذا العلم ضوابط الاتصال بين الجنسين بحكم المنطلق الحضاري لهذا العلم الخارج من رحم الثقافة الغربية، وفي ديننا نلاحظ منهج موسى -عليه السلام- إبان الكلام مع الفتاتين عند ماء مدين، ثمّ عندما جاءته إحداهما ورافقها الحياء بمشيتها الساكنة وهو اتصال غير لفظي، ورافقها الحياء بقولها الخفيض المختصر وهو اتصال لفظي.
أخيرًا فكما يحتاج المرسل إلى انتقاء الوسيلة والتوقيت والطريقة لأداء رسالته، ويرفدها بالقصص والاستشهاد والأرقام، مع الحرص على الإيجاز والوضوح والموضوعية؛ فإن المستقبل يلزمه التأني بالاستقبال، وفحص الرسالة ومضمونها، وإمرارها داخل مرشحات ثوابته ومصالحه ومستودعه الثقافي والمعرفي وقدراته الفكرية، قبل أن يطلق العنان لنفسه بالاستجابة لها بالقبول أو الرفض أو الاشتراط أو الاستمهال، وهذه الاستجابة بأنواعها هي ما يسمونه أحيانًا “التغذية الراجعة” وهي ترجمة هزيلة لن يفهمها عربي من القدماء.
أسأل الله أن يوفقنا لأحسن القول، وأنفع الاستماع، وأصوب التفاعل، وأن يُجري الحق على ألسنتنا وأقلامنا، حتى يحالفنا التوفيق والسداد في جميع شؤوننا، ومنه الاتصال الذي لا نكفّ عنه بوسائل قديمة وأخرى مستحدثة؛ حتى غدت برامج التراسل الفوري، ووسائل التواصل الاجتماعي، من أكبر قنوات استيعاب الرسائل الصادرة من الإنسان أو الواردة إليه؛ بأشكال مختلفة، ومحتويات متباينة، والسعيد من حفظ وقته وعقله ودينه عمّا لا ينفع ولا يفيد، ولا يكون منه غير شتات الوقت والجهد، أو سوء المزاج بالمقارنة، والتجربة تفيدنا أن الإنسان يملك نفسه حينما يسيطر على اتصالاته أيًا كانت اتجاهاتها.
أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض
ahmalassaf@
الثلاثاء 10 من شهرِ صفر عام 1444
06 من شهر سبتمبر عام 2022م
التعليقات