د. عامر الهوشان
قد لا يكون الخلق الوحيد الذي يفتقده مجتمع المسلمين اليوم لكنه بلا شك الأكثر افتقادا في ظل طغيان مادي جارف وجفاف روحي وأخلاقي واضح وانحسار ملحوظ لتمثل المسلمين بخلق متمم لشعب الإيمان .
لا تقتصر غربة هذا الخلق في المجتمع على جنس دون آخر أو جيل دون جيل فقد عمت بلوى هجره والإعراض عنه الرجال قبل النساء وانتقلت عدوى تركه إلى الفتيان والفتيات وحتى الصغار ممن هم دون سن التمييز .
إنه خلق الحياء الذي اعتبره الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم خلق الإسلام ففي الحديث عن أنس رضي الله عنه قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِنَّ لِكُلِّ دِينٍ خُلُقًا، وَخُلُقُ الْإِسْلَامِ الْحَيَاءُ ) سنن ابن ماجه وحسنه الألباني .
تبدو أزمة غربة الحياء عند النساء في مجتمعات المسلمين اليوم بادية في لباسها الذي ابتعد بدرجات ومستويات متفاوتة عن تعاليم وأوامر دين الله الإسلام , فطغت "الموضة" حتى على ملابس المسلمات الملتزمات فأخرجته عن نطاق اللباس الشرعي المأمور به , و وصل تأثير التغريب وعولمة المرأة المسلمة إلى حد تبرج بعضهن وتمييع فريضة الحجاب واختزال الاحتشام المفروض عليهن بمجرد تغطية الشعر دون الالتزام بعدم جواز لبس الضيق من اللباس أو ما يجسم أو يشف أو .....
ولم يقف أمر ابتعاد النساء عن خلق الحياء على اللباس فحسب بل تعداه إلى المنطق واللسان من خلال رفع الصوت أمام الرجال والتلفظ بفاحش القول وبذيء الكلام في بعض الأحيان ناهيك عن الخوض في أمور كانت فيما مضى خطا أحمر ومما لا يليق بالمسلمات الخوض فيه حفاظا ومراعاة لحيائهن الذي هو في الحقيقة رأسمال المرأة عموما والمسلمة على وجه الخصوص .
قد يبدو تهاون المسلمات بخلق الحياء مُستغرب ومُستعجب في ظل دين يعتبر الحياء خلقه وعقيدة تجعل من الحياء شعبة من شعبه ففي الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( الأيمان بضع وسبعون أو بضع وستون شعبة فأفضلها لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق والحياء شعبة من الأيمان ) صحيح مسلم برقم/58
وقد يزداد عجب القارئ واستغرابه من قلة الملتزمات بخلق الحياء في هذا الزمان رغم وفرة القدوات والنماذج الفريدة عن شدة حياء أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابيات الجليلات , فقد ورد عن عَائِشَةَ رضي الله عنها أنها قَالَتْ : كُنْتُ أَدْخُلُ بَيْتِى الَّذِى دُفِنَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَأَبِي فَأَضَعُ ثَوْبِي فَأَقُولُ: إِنَّمَا هُوَ زَوْجِي وَأَبِي فَلَمَّا دُفِنَ عُمَرُ مَعَهُمْ فَوَاللَّهِ مَا دَخَلْتُ إِلاَّ وَأَنَا مَشْدُودَةٌ عَلَىَّ ثِيَابِي حَيَاءً مِنْ عُمَرَ .
وفي الصحيحين عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ قَالَ : قَالَ لِي ابْنُ عَبَّاسٍ : أَلاَ أُرِيكَ امْرَأَةً مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ؟ قُلْتُ: بَلَى. قَالَ: هذِهِ المَرْأَةُ السَّوْدَاءُ أَتَتِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ : إِنِّي أُصْرَعُ، وَإِنِّي أَتكَشَّفُ، فَادْعُ الله لِي. قَالَ: «إِنْ شِئْتِ، صَبَرْتِ؛ وَلَكِ الجَنَّةُ. وَإِنْ شِئْتِ، دَعَوْتُ الله أَنْ يُعَافِيكِ» فَقَالَتْ: أَصْبِرُ. فَقَالَتْ: إِنِّي أَتكَشَّفُ: فَادْعُ الله أَنْ لاَ أَتكَشَّفَ. فَدَعَا لَهَا.
يخطئ البعض حين يظن أن التخلق بالحياء خاص بالنساء ولا علاقة للرجال أو الشباب به , ففي الصحيحين عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رض الله عنه قَالَ: ( كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَشَدَّ حَيَاءً مِنَ العَذْرَاءِ فِي خِدْرِهَا فَإِذَا رَأَى شَيْئًا يَكْرَهُهُ عَرَفْنَاهُ فِي وَجْهِهِ ) .
تتجلى أبرز مظاهر فقدان الحياء بين صفوف شباب الممجتمع المسلم في انتشار الكلام الفاحش بينهم وتفشي ظاهرة التواصل والتخاطب مع بعضهم أو غيرهم بالسباب وبذيء الألفاظ دون أن نغفل جانب الاستهتار بخلق الحياء فيما يخص اللباس سواء بكشف العورات التي أمر الإسلام أن تستر أو بتتبع واستيراد كل ما هب ودب من صرعات "الموضة" التي تخالف بمعظمها تعاليم وأوامر وآداب دين الله الخاتم في اللباس .
لم يكتف البعض بسوء التلبس بترك الحياء وجريرة المجاهرة بما يخالفه ويناقضه في هذه الأيام بل راح يستكثر على غيره أن يكون حيّيا ويستنكر عليه أن يتخلق بخلق الإسلام بدعوى أن لا مكان للحياء في هذا العصر أو أنه بات يضر بصاحبه ولا ينفعه !!!
لقد جاء الرد على هذا السلوك الخاطئ في سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم ففي الحديث عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قال : مَرَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى رَجُلٍ وَهُوَ يُعَاتِبُ أَخَاهُ فِي الحَيَاءِ يَقُولُ: إِنَّكَ لَتَسْتَحْيِي ، حَتَّى كَأَنَّهُ يَقُولُ : قَدْ أَضَرَّ بِكَ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( دَعْهُ فَإِنَّ الحَيَاءَ مِنَ الإِيمَانِ ) صحيح البخاري برقم/6118
بل إن النبي صلى الله عليه وسلم أكد في حديث آخر أن الحياء كله خير ولا يأتي إلا بخير , ففي الحديث عن عِمْرَانَ بْنَ حُصَيْنٍ قَالَ : قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( الحَيَاءُ لاَ يَأْتِي إِلَّا بِخَيْرٍ ) صحيح البخاري برقم/ 6117
إن مصدر ما قد نتعجب من وقوعه من سوء السلوك وقبيح الأفعال وفحش الكلام في عصرنا هو تهاون الناس بخلق الحياء الذي يُتوقع ممن لا يتخلق به ولا يراعيه كل سوء ولعل هذا ما أشار إليه حديث أَبِي مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِنَّ مِمَّا أَدْرَكَ النَّاسُ مِنْ كَلاَمِ النُّبُوَّةِ الأُولَى: إِذَا لَمْ تَسْتَحْيِ فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ ) صحيح البخاري برقم/6120
التعليقات