عناصر الخطبة
1/قصة نقل الوليد بن عقبة نبأ كاذباً عن الحارث بن ضرار وقومه 2/نزول آيات قرآنية داعية للتثبُّت والتبيُّن 3/كيفية التعامل مع الأنباء الواردة من وسائل الإعلام المختلفة 4/أهمية التطبيق العملي للتثبُّتِ من الأنباء 5/تنظيم الإسلام الفائق للمجتمعاقتباس
حتى لا يقع المجتمع في العنت والمشقة والهلاك، يقول الله للزوج: يا أيها الزوج تثبَّتْ فليس كل ما ينقل إليك عن زوجتك وأنت في الغربة أو في مكانٍ بعيدٍ هو حَقٌّ، فكم من زوج قد طلق زوجته بسبب الذين ينقلون الأخبار إليه بالخطأ، فَتَبَيَّنُوا أن تفرقوا الأسر, وتشتتوا الأطفال وتضيعوا الجيل. يا صاحب...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له وليًّا مرشدًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُ الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين وتابعيهم وسلم تسليمًا كثيرًا.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آلعمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب:70-71].
أما بعد: فإنَّ خير الحديث كتابُ الله، وخير الهدي هديُ محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أيها المسلمون: ذكر المفسرون أن الحارث بن ضرار الخزاعي -سيد بني المصطلق- لما أسلم اتفق مع النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يبعث له -في وقت اتفقا عليه- جابياً يأخذ منه زكاة قومه، فخرج رسولُ رسولِ -صلى الله عليه وسلم- لكنه خاف فرجع من منتصف الطريق، فاستغرب الحارث بن ضرار تأخر رسولَ رسولِ الله -صلى الله عليه وسلم-، وفي الوقت ذاته لما رجع الرسول إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: يا رسول الله! إن الحارث منعني الزكاة، وأراد قتلي، فغضب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وبعث إلى الحارث.
فالتقى البعث الذين بعثهم الرسول -صلى الله عليه وسلم- مع الحارث بن ضرار في الطريق، فقال لهم: إلى من بعثتم؟ قالوا: إليك! قال: ولم؟ قالوا: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان بعث إليك الوليد بن عقبة، فزعم أنك منعته الزكاة وأردت قتله! قال: لا والذي بعث محمداً بالحق، ما رأيته بتة ولا أتاني.
فلما دخل الحارث على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "منعت الزكاة وأردت قتل رسولي؟!", قال: لا والذي بعثك بالحق، ما رأيته ولا أتاني، وما أقبلت إلا حين احتبس علي رسولُ رسولِ الله -صلى الله عليه وسلم-، خشيت أن تكون كانت سخطة من الله -عز وجل- ورسوله، قال فنزل قوله -تعالى-: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ)[الحجرات:6].
أيها المؤمنون: اسمعوا إلى هذه القصة، التي تكلم عنها القرآن؛ حتى تربى النفوس وتتهذب الأخلاق وتحفظ الحقوق والأنفس والأموال والأعراض, مِما قد يعطلها من أوهام أو ظنون أو أخبار وتحليلات ليس لها رصيد سوى سوء الأفهام.
ما الفائدة لو قتل الرجال، وسفكت الدماء وانتهكت الأعراض، وخربت المعمورة؟! ما الفائدة بعد ذلك لو علمنا أن الخبر كان خطأ! يُسجن شخص أحيانا سنوات في السجن فيقول له المسؤول: عفوا! كان خطأ!, تُسلب الأموال أحيانا فيقال: لقد أخطأنا!, تقتل الأنفس فيقال: كان عن طريق الخطأ! سبحان الله! "لَنَقْضُ الكعبةِ حجراً حجراً أهون عند الله من إراقة دم امرئ مسلم".
أيها المؤمنون: انظروا كيف أدّب الله الصحابة (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا)، خطاب للمؤمنين، (إِنْ جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا)، أي: تثبتوا, فرسول الله ما استجاب للصحابة عندما قالوا: القتال يا رسول الله، أيقتلون رسولك ويمنعون الزكاة؟ ماذا قال الله -تعالى-: (وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ)[الحجرات:7]، يا أصحاب محمد! اعلموا أن فيكم رسول الله الذي أرسله الله حكيماً رحيماً، (لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الأَمْرِ)، أي: في كثير من مقترحاتكم، (لَعَنِتُّمْ)، والعنت: المشقة والتعب والهلاك والإثم وقطع الأرحام وسفك الدماء؛ لذلك يقول الله موجها لنا معشر المسلمين: (وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ)، وضع في قلوبكم الإيمان، فالإيمان لا يتفق مع سفك الدماء بالباطل ولا مع الكذب ولا مع العصيان، ولا يجتمع مع الزور ولا هتك الأعراض وسلب الأموال، الإيمان الذي وضعه الله في قلوبنا منارة ومصباحا يوجهنا ويرشدنا.
وانظر كيف ذكر الله هذا الوصف (وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ), حبب إليكم الإيمان وجعله زينة في القلوب والألسن والأيدي والآذان والمعاصم، فتمتنع العين عن النظر إلى الحرام بسبب الإيمان، مَن صح إيمانه ورأى امرأة أمام عينيه متبرجة, فإن الإيمان يقول له: قف هذا حرام ولا يجوز.
الإيمان ألا نأكل الربا، ويمنعنا عن قول الكذب والوقوع في الحرام وقطع الأرحام وعقوق الوالدين وأذية الجيران، (وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ)، يقول لك: إن كنت مؤمنا فأحب الإيمان والمؤمنين واكره الكفر والعصيان والفسوق، (وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ)[الحجرات:7].
عباد الله: الناس في نقل الأخبار عبر التلفاز والصحف والمجالس ثلاثة: صادق وكاذب وفاسق، فالصادق صدِّقوه، والكاذب كذبوه، والفاسق المشكوك في أمره، أحيانا يأتي بكلمة كذب وأحيانا بكلمة صدق، فهذا تثبتوا منه، إذا نقل إليكم الخبر فلا تصدقوه ولا تكذبوه، تثبتوا منه.
فلذلك كان أشد وسائل نقل الأخبار: القنوات الفضائية والمجلات والإذاعات، كم فيها من الصادقين؟ وكم فيها من الكاذبين؟ وكم فيها من الفاسقين؟
فالمسلسلات والأغاني هذه كلها كذب وفسق فهذه اتركها جانبا, ثم نأتي إلى نشرات الأخبار إن كانت عن أوضاع اقتصادية منتعشة ومزدهرة ومتقدمة فهذا كذب، وإن كانت عن خدمات تُفعل وشوارع تمهد فإن هذا من الكذب، واقتصاد سيقوى وأمة ستتحضر وعزة ستقوم فهذا كذب، لا تصدقه إلا ما رحم الله، عشنا في هذا سنين، ونحن في نكال ومذلة وفي اقتصاد فاشل وفقر مدقع، كثر فينا الذين يسألون الناس، وكثر المتسولون، ولم نسمع من أخبارنا إلا اقتصاداً مزدهراً وإصلاحات اقتصادية وإدارية وفنية، ونحن نعيش في ظلم وفساد، لم يبقَ أحد منا يصدق ما ينقل إلينا عن مشاريع ستفتح، وعن مستشفيات ستقام، وعن أعمال ستزدهر!.
أما إذا أخبرونا عن مسلسلات ينتجونها ومسارح سيقيمونها ومباريات رياضية ينظمونها ومغنيات سيجلبونها فصدقوهم، أما هذا فهم صادقون فيه، لا نكذبهم فيه أبداً، ولا نعلم أنهم كذبوا في هذا أبدا، ما وعدونا مرة من المرات أنهم سيأتوننا براقصة أو فنانة ماجنة وكذبوا في ذلك علينا، فقد تربوا في ذلك تربية عميقة وقوية! لا يعدوننا بذلة ومهانة وكذبوا في ذلك؛ لأنهم لا يكذبون في هذه الأمور، لأن الذي يقودهم إبليس وهو لا يكذب في هذه الأشياء، لأنه أقسم لله: (فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ)[ص:82].
عباد الله: كم وكم استفدنا من الأخبار؟ (إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ) يعني واحد، فكيف الذي عنده في بيته ثلاثة مليون فاسق! عنده مائتا قناة فضائية في كل واحدة منها كذا وكذا من الآلاف من الأخبار ومن المخبرين، ومن المذيعين والمذيعات، كم سيكذب ويصدق؟!.
إن بعض الأخبار التي تنقل إلينا أحيانا تكون تحليلات وليست وقائع وحقائق، فالوليد بن عقبة عندما عاد إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وقال: يا رسول الله، إنهم قد عادوا عن الإسلام، وإنهم أرادوا قتلي، ما قال ذلك كذبا، لكن هذا توقع وتحليل وظن، قال: ما خرج الحارث من بيته ومعه سيفه وجنوده إلا وقد عادوا عن دين الله، وإن قاتلتهم سيقتلونني؛ لذلك أخبر رسول الله. فكم من الأخبار التي ينقلها الناس بلفظ: أظن أتوقع وأرى ولعل وربما وقد يحصل! فهذه كلها ليست أخبار وإنما هي تحليلات، فينبغي أن نتيقظ.
أسأل الله أن يصلح أحوالنا وأقوالنا وأفعالنا.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله؛ وبعد:
أيها المؤمنون: حتى لا يقع المجتمع في العنت والمشقة والهلاك، يقول الله للزوج: يا أيها الزوج تثبَّتْ فليس كل ما ينقل إليك عن زوجتك وأنت في الغربة أو في مكانٍ بعيدٍ هو حَقٌّ، فكم من زوج قد طلق زوجته بسبب الذين ينقلون الأخبار إليه بالخطأ، فَتَبَيَّنُوا أن تفرقوا الأسر, وتشتتوا الأطفال وتضيعوا الجيل.
يا صاحب العمل: ليس كل ما ينقل إليك من بعض العمال صحيحاً، فلا تقبل الخبر مباشرة، (فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ)، تقطع رزق عامل من العمال؛ فتشتت به الأسرة, وتحرم الأطفال والزوجة, مما جعل الله لهم من العمل والرزق!.
يا أيها الجار: انتبه فليس كل ما ينقله إليك عن جارك الآخر حقاً, فتثبت وتبين؛ حتى لا تقطع جارك أو تؤذيه ويمتلأ قلبك عليه بغضاء وشحناء.
كم من امرأة طلقت! وكم من عامل طرد من عمله! وكم من شابة لم تتزوج! بل كم من دماء قد سفكت بسبب نقل الكلام الخطأ! وكم من أعراض قد انتهكت! وكم من أموال قد سلبت! وكم من تاجر أحيانا قد مات، جاءته سكتة قلبية بسبب نقل الأخبار، طلعت الأسهم أو نزلت، ضاعت بضاعته وغرقت سفينته.
إنَّ الإسلامَ وضع معالمَ كاملةً لِعالَمٍ ومجتمعٍ رفيعٍ كريمٍ نظيفٍ سليمٍ، متضمِّنَّةً للقواعد التي يقوم عليها هذا المجتمع المسلم، والتي -والله!- تكفل قيامه أولاً، وصيانته ثانياً، وأخيراً؛ عالم ومجتمع مسلم يصدر عن الله، ويتوجه إلى الله، ويليق أن ينتسب إلى الله؛ مجتمع مسلم تقي القلب، نقي الفؤاد، نظيف المشاعر، عَفّ اللسان، وقبل ذلك عفيف السريرة.
مجتمع مسلم مؤدب مع الله ورسوله، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ)[الحجرات:1]، (إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَاء الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ * وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ)[الحجرات:4-5]، (إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ)[الحجرات:3]، يحترمون ويقدرون رسول الله، فهو مجتمع مسلم مؤدب مع الله ورسوله، ومؤدب مع نفسه ومع غيره، (إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا)، ومؤدب في البواطن والظنون والتوقعات، كما قال -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ)[الحجرات:12].
إن الإسلام له شرائعه المنظمة لأوضاعه، وله أنظمته التي تكفل صيانته، وهي شرائع وأنظمة تقوم على ذلك الأدب، وتنبثق منه، وتتسق معه، فتوافق باطنه مع ظاهره، سلامة السرائر مع سلامة الألسن والجوارح.
وتتلاقى شرائع الإسلام مع مشاعره، وتتوازن دوافعه وزواجره وهو يتجه إلى الله، ومن ثم لا يوكل قيام هذا المجتمع السليم لمجرد أدب وضمير؛ بل يتجه هذا إلى نظافة الشعور، وإلى سلامة التشريع والتنظيم، في انسجام بينهما.
أسأل الله العلي العظيم أن يصلح ألسنتنا وبيوتنا، وأن يحفظ علينا أعراضنا وبناتنا وأولادنا.
هذا؛ وصلوا وسلموا على رسول الله...
التعليقات