عناصر الخطبة
1/الإسلام دين القِيَم والأخلاق الحميدة 2/الإنصاف من أنبل وأفضل الأخلاق 3/مراتب الإنصاف 4/الأثر السيئ لقلة الإنصاف 5/الأخلاق الحميدة سبيل الأمم للتقدم والرقي 6/من أراد الإنصاف فليطهِّر نفسَه من الحسد والغلوّ في حب الذاتاقتباس
إنَّ قِلَّةَ الإنصافِ تُبعِد ما بينَ الأقاربِ والخِلَّانِ، وكَمْ من خلافٍ نشَأ بين أَخَوينِ أو صاحبَينِ، بسبب جُحُود أحدِهِما بعضَ ما يَتحَلَّى به الآخرُ من فضلٍ، أو رَدِّهِ عليه رأيًا أو روايةً، وهو يعلم صوابَه فيما رأى، وصِدقَه فيما روى...
الخطبة الأولى:
اللهم لكَ الحمدُ، لا حمدَ إلا دون نعمائكَ، ولكَ الشكرُ، لا شكرَ إلَّا يقصُر عن آلائكَ، لك المَنُّ والإفضال والملك ربَّنا، فلا شيء أعلى منك وأمجد، مليك على عرش السماء مهيمن، لعزته تعنو الوجوه وتسجد، وأشهد ألَّا إلهَ إلا الله وحدَه لا شريك له، شهادةً تعصم من الشقاء حتمًا، وتقصِم في السعادة قصمًا، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسولُه، بعثَه اللهُ نفسًا أنفس البشر عربًا وعجمًا، وأرجحهم عقلًا وعلمًا، وأوفرهم حِلمًا وفهمًا، صلى الله وسلم عليه، صلاةً تنمو، وسلامًا يُنمى، وعلى آله وصحبه ومَنْ تَبِعَه بإحسان وسلَك إلى الحق سبيلًا وسُلَّمًا.
أما بعدُ: فأوصيكم -أيها الناس- ونفسي بالتقوى؛ فهي الحِمَى الأحمى، والعزُّ الأسمى؛ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)[الْحَدِيدِ: 28].
أيها المؤمنون: دينُ الإسلامِ دينُ الأخلاقِ النبيلةِ، والآدابِ الجميلةِ، دينٌ يُقرِّر ثباتَ الأخلاقِ الكريمةِ ويُوجِبُها، ويُنشئ بَنِيهِ عليها، أخلاق تزكو الأمم بشذاها، وسجايا تبلُّ النفوس بنداها، إنها أصل أصيل في الاعتقاد الحق، قال شيخُ الإسلامِ ابنُ تيمية -رحمه الله- في بيانِ منهجِ السلَفِ: "ويدعُون إلى مكارمِ الأخلاقِ ومَحَاسنِ الأعمالِ، ويعتقِدون معنى قولِهِ -صلى الله عليه وسلم-: "أكملُ المؤمنين إيمانًا أحسنُهم خُلُقًا"" انتهى كلامه.
ومما يُنبئُ عن منزلتها ومكانتها، أن النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- حَصَرَ بِعثتَه في تتميمِ مَكارمِ الأخلاقِ فقال: "إنما بُعثتُ لأتمِّمَ صالحَ الأخلاق"(أخرجه الإمامُ أحمدُ وصحَّحه الحاكم)، وكان عليه الصلاة والسلام بالمحلِّ الأرفَعِ من جَمالِ الخُلُقِ وحُسْنِه، قال سبحانه ممتدحا إياه: (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ)[الْقَلَمِ: 4]، وسُئلتْ عائشةُ -رضي الله عنها- عن خُلُقه فقالت: "كان خُلُقُه القرآن"(أخرجه الإمامُ أحمدُ).
عبادَ اللهِ: ويأتي في طَلِيعةِ الأخلاقِ الكريمةِ، والخِلالِ العظيمةِ: خَلَّةٌ حميدةٌ، وخُلُقٌ جليلٌ، يُورِثُ النُّبْلَ والخيرَ، ويُصِيبُ صاحبَه مِن ورائه الصوابُ؛ إنه: الإنصاف، الإنصافُ يا -رعاكم الله- يعني العدل، ووضعَ الشيءِ في موضعه، وإعطاءَ المرءِ غيرَه من الحق مثلَ الذي يُحِبُّ أن يأخذه منه، ولقد أتت النصوصُ الشرعيةُ حاضَّةً عليه، آمرةً به، قال الحق -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ)[الْمَائِدَةِ: 8]، وقال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ)[النَّحْلِ: 90]، وقال سبحانه لنبيه -عليه الصلاة والسلام-: (وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ)[الشُّورَى: 15]، قال عمارُ بنُ ياسر -رضي الله عنه-: "ثلاثٌ مَنْ جَمَعهن فقد جَمَع الإيمانَ: الإنصافُ من نفسك، وبذلُ السلام للعالَم، والإنفاقُ من الإقتار"(أخرجه البخاري تعليقًا)، وقال أبو الزِّناد -رحمه الله-: "إنَّ العبدَ إذا اتَّصَفَ بالإنصاف لم يترك لمولاهُ حقًّا إلا أدَّاهُ، ولم يترك شيئًا ممَّا نهاه عنه إلا اجتنَبَه؛ وذلك يَجمعُ أركانَ الإيمانِ"، وقال الإمامُ أحمدُ -رحمه الله-: "ما أحْسنَ الإنصافَ في كل شيء"؛ إنه بُرهان على سُمُوِّ النفس، والتجرُّدِ من الأثَرَةِ والهوى، وعاقبتُه عُلُوُّ الهِمة، وبَراءةُ الذِمَّةِ، وهو سببٌ في شُيُوعِ المحبةِ بينَ الناسِ، وعاملٌ مُهمٌّ في هَنائهم وسعادتهم.
وتحلَّ بالإنصافِ أفخرِ حُلَّةٍ *** زِينَتْ بها الأعطافُ والكَتِفانِ
معاشرَ الفضلاءِ: إنَّ للإنصافِ مراتبَ عِدة؛ فأَوَّلُها وأَوْلاها: الإنصافُ مع الله -جل جلاله-، بعبادتِهِ وحدَه لا شريك له، فالشركُ به -سبحانه- يُضادُّ الإنصافَ، وهو أقبحُ الظلمِ وأسوؤه، قال تعالى: (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ)[لُقْمَانَ: 13]، وسأل ابنُ مسعودٍ -رضي اللهُ عنهُ- رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: "أيُّ الذنبِ أعظمُ؟ قال: أن تجعلَ لله نِدًّا وهو خَلَقَكَ"(أخرجه البخاري ومسلم)، وثانيها: الإنصافُ مع النبيِّ -صلى الله عليه وسلم-، بالقيامِ بحقوقه كافة، إيمانًا به، ومحبةً له وإجلالًا وطاعةً وتوقيرًا، وتقديمًا لأمرِه وقولِه، على أمرِ غيرِه وقولِه.
وثالثُ المراتب عباد الله: إنصافُ المرءِ نفسَه من نفسِه، وتلك مرتبةٌ ساميةٌ، فَمَنْ لا يستطيع إنصافَ نفسِه لا يستطيعُ إنصافَ غيرِه؛ إذْ فاقدُ الشيءِ لا يُعطيهِ!
يُنصِفُ المرءُ نفسَه بألَّا يدَّعِيَ لها ما ليس لها، ولا يُدنِّسُها بارتكاب الرذائل والمعاصي، وأن يرفعَها بطاعةِ اللهِ -عز وجل- وحبِّهِ وخوفهِ ورجائِه، والتوكلِّ عليه، والإنابةِ إليه، وإيثارِ مرضاتِه على مرضاةِ غيره.
ورابعُ مراتبِ الإنصاف: إنصافُ الناس؛ بأن يُنصِفَ المسلمُ غيرَه من نفسه، بالتجرُّدِ في الحُكمِ عليه، والبحثِ عن قصدهِ في الكلام الذي يسمعُهُ منه أو يَبْلُغُه عنه، مع التبيُّنِ والتثبُّتِ قبل الحُكمِ؛ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ)[الْحُجُرَاتِ: 6]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا)[النِّسَاءِ: 94]، يُنصِف المسلمُ غيرَه بإحسانِ الظنِّ به، وحملِ كلامِه على أحسنِ الوجوهِ، قال سعيدُ بنُ المسيِّب -رحمه الله-: "كتَب إليَّ بعضُ إخواني من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أنْ ضعْ أمرَ أخيكَ على أحسنِه، ما لم يأتِكَ ما يَغلِبُكَ، ولا تظُنَّنَّ بكلمةٍ خَرَجَتْ من امرئٍ مسلمٍ شرًّا، وأنتَ تجدُ لها في الخير مَحْمَلًا".
إنَّ قِلَّةَ الإنصافِ تُبعِد ما بينَ الأقاربِ والخِلَّانِ، وكَمْ من خلافٍ نشَأ بين أَخَوينِ أو صاحبَينِ، بسبب جُحُود أحدِهِما بعضَ ما يَتحَلَّى به الآخرُ من فضلٍ، أو رَدِّهِ عليه رأيًا أو روايةً، وهو يعلم صوابَه فيما رأى، وصِدقَه فيما روى.
ولم تزل قلة الإنصاف قاطعةً *** بين الرجال وإن كانوا ذوي رَحِمِ
اللهم اهدنا لأحسنِ الأخلاقِ، لا يهدي لأحسنها إلا أنتَ، واصرف عنا سيئها، لا يصرف عنها سيئها إلا أنتَ، وبارك اللهم لنا في السُّنة والقرآن، وانفعنا بما فيهما من الهُدى والبيان، أقول ما سمعتُم، وأستغفِر اللهَ لي ولكم، ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة فاستغفروه، إنه كان للأوَّابين غفورًا.
الخطبة الثانية:
الحمد لله حقَّ الحمد وأوفاه، وأصلِّي وأسلِّم على عبده ومصطفاه، وعلى آله وصحبه ومَنْ سلَك سبيلَه واقتفاه.
أما بعدُ، فيا عباد الله: إنَّ الأُممَ التي تَنشُدُ الرُّقِيَّ والتقدُّمَ تحتاجُ أرواحُ بَنِيها إلى زادٍ هنيءٍ طيِّبٍ من الأخلاقِ المجيدةِ، والشمائلِ الحميدةِ، كما تحتاج أجسامُهُم إلى الغذاء الجيِّدِ من الطعام؛ لتَقوى به على طلب المَعَايش، والإنصافُ غِذاءٌ لا غِنى عنه.
ومَنْ أرادَ أن يتحلَّى بخُلُق الإنصافِ فلْيبحَثْ في نفسه عن عِلَّتَي الحسدِ والغلُوِّ في حُبِّ الذَّاتِ، فَإِنْ وجَد لهما أثرًا راضَ نفسَه وقَهَرَها حتى ترجِع إلى فِطرتها، وخيرُ ما يُنفى به الحسدُ: أن يعلمَ المرءُ أن حكمةَ اللهِ -تعالى- اقتضتْ جَعْلَ هذا الفضلِ في هذا الإنسانِ، فلا يَعترضُ ولا يَكرهُ ما اقتضتِ الحكمةُ الإلهيةُ؛ لئلَّا يَقعَ في المأثم، وأمَّا الغُلُوُّ في حُبِّ الذاتِ فدواؤهُ التهذيبُ؛ لتكونَ عاطفةً معتدلةً، تجلِبُ له الخيرَ، وتأبى أن ينالَ غيرَه بمكروه، قال ابنُ حزمٍ -رحمه الله-: "مَنْ أرادَ الإنصافَ فلْيتوهَّمْ نفسَه مكانَ خَصْمه، فإنه يلُوحُ له وجهُ تعسُّفِه".
هذا وصلوا وسلموا على الرحمة المهداة، والنعمة المسداة؛ نبيكم محمد بن عبد الله، فاللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله بيته الطيبين الطاهرين، وأزواجه أمهات المؤمنين، وصحابته الغر الميامين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بمنك وكرمك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، واحمِ حوزةَ الدِّين، وانصر عبادَكَ المؤمنين، اللهم فرِّج همَّ المهمومين من المسلمين، ونفِّس كربَ المكروبينَ، واقضَ الدَّينَ عن المدينين، واشف مرضانا ومرضى المسلمين، برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم آمنَّا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، وأيِّد بالحق والتوفيق والتسديد إمامَنا ووليَّ أمرنا، اللهم وفِّقه ووليَّ عهده لما فيه صلاح البلاد والعباد يا رب العالمين.
اللهم سدِّد جندَنا المرابطينَ في الحدود والثغور، اللهم كن لهم معينًا ونصيرًا، ومؤيِّدًا وظهيرًا.
(رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا)[الْكَهْفِ: 10]، (رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)[الْبَقَرَةِ: 201]، (سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)[الصَّافَّاتِ: 180-182]، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
التعليقات