عناصر الخطبة
1/ معانٍ لتسلُّم الأمة المحمدية الخلافة 2/ مَكْرُمات إلهية لأمة الخلافة 3/ سورة البقرة وتاريخ الاستخلاف 4/ خسة خلافة الإسرائيليين 5/ اختصاص الخلافة المحمدية بالدعوة 6/الخلافات السابقة رسائل للأمة المحمدية 7/ أهمية ارتباط أمة الخلافة بقائدها معرفةً وحُبَّاً واتِّباعاً 8/ وجوب ارتقاء أمة الخلافة لمستوى شهادتها على الأمماهداف الخطبة
اقتباس
وإنَّ الأمة المحمدية هذه هي أمة الخلافة، بل وكُلُّ سُوَرِ القرآن، مِن مُفْتَتَحها ومُختتمها، ظاهرها وباطنها، كلها تدور على معنى خلافتك عن الله! اقرأ القرآن، رسالة من الله إليك، خطاب من الله إليك، وجهة من الله إليك، اقرأ على هذا الحال تجد معانيَ في معنى خلافتك في أدقِّ التفاصيل إلى أعلاها، من أخص الشئون إلى أكبرها!.
الحمد لله على واسع فضله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أدَّى الأمانةَ، وتركَنا على المـَحَجَّة البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102].
وبعد: فإن هذا الشهر الكريم الذي لا نزال نعيش آثار تنزلاته، وعطاء الملـِك الكريم فيه، ونشهد فيه قول الله تعالى في سورة البقرة: (قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا) [البقرة:144]، وإن مسألة تحويل القبلة من بيت المقدس إلى البيت الحرام في عنوان الجمع بين القبلتين، وفي آثار الخلافة للأمة المحمدية التي تأذَّن -سبحانه وتعالى- فقال: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا) [البقرة:143].
فالأمة المحمدية هي آخر الأمم من حيث الظهور الزماني على سطح الأرض في مسرح الحياة، لكنها أول الأمم جوازاً للصراط، قال -صلى الله عليه وسلم- إنه أول مَن يجوز الصراط يوم القيامة، إلا أنها أكثر الأمم سقوطاً في أرض المحشر، أهل الجنة كما قال -صلى الله عليه وسلم- أهل الجنة مائة وعشرون صفاً، ثمانون صفاً من المسلمين، بل وغالب أهل الجنة، من منازلها ودرجاتها وقصورها وخيامها، هم من أهل هذه الأمة المباركة المحمدية.
إن معنى تسلم الأمة المحمدية للخلافة عن الأمم، ومعنى أن يكون النبي الأول المقدم -صلى الله عليه وسلم- رائدها وإمامها وقائدها وسيدها له دلالات ومعاني، لذا كان مفتتح كتاب الله من سورة البقرة مقاليد التسليم للأمة الخلافة، وكأن الله -سبحانه وتعالى- يخاطبنا في سورة البقرة: يا أمة أحمد! يا أمة محمد! يا أيتها الأمة الخاتمة، يا أيتها الأمة التي في أحكامها أنزلت شرائعي، وأكملت ديني، وأتممت نعمتي، ورفعت قدركم، وبلغتكم، جعلت لكم من الأحكام ما لم أجعل من قبلكم، رفعت لكم من الأجور ما لم أرفع من سبقكم، ضاعفتُ لكم في الحسنات ما لم أضاعف للأمم التي سلفتكم.
الخبر ورد في سورة البقرة، سورة البقرة سورة الخلافة عن الله ذكر الله، فيها أول خليفة في الأرض، آدم: (إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) [البقرة:30]، ذكر الله فيها أحسن خليفة على عهد الأنبياء جد حبيبنا خليل الله إبراهيم، ذكر الله خبره وكيف ابتلاه بكلمات فأتمهن، (قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) [البقرة:124].
الصالح منهم يرث الأرض في الدنيا، ويرث الكوثر في الآخرة، والظالم منهم فلا حظ له عندي، ولا مجال لديه، بل إن من ذرية ابنك اسحق مَن تاه على أبواب بيت المقدس أربعين سنة، وذكر الله في سورة البقرة خبر أطول خلافة وأنفسها وأخسها، كل ما جاءهم نبي قتلوه، كلما ورد إليهم رسول شاكسوه، ذكر خبر الخلافة في بني إسرائيل.
ولذا نجد أن سورة البقرة سميت على قصة جاءت في سيرة بني إسرائيل جسدت المعالم الأساسية لأخطائهم الكبرى، ماديتهم، نفاقهم، كثرة سؤالهم، إيذاءهم لأنبيائهم، اعتراضهم على خالقهم، ذكر الله هذه المعاني في سورة البقرة في قصة البقرة لينبئنا ويخبرنا: هذه خلافة آدم، وهذه خلافة جدّ نبينا إبراهيم، وهذه خلافة بني إسرائيل؛ واليوم أنتم مرشَّحُون للخلافة، أظهِرُوا شرفَكُم، أظهِرُوا عبادتكم، اغرسوا عقيدتكم.
وجعل الله من الأحكام في تلك السورة من المعاملات، والزواج، والأمور المختلفة جماعية فردية، ليلية، نهارية، عبادات، معاملات؛ حتى نجد أن أغلب أحكام الدين ذُكرت أصولها في هذه السورة، بل الدين الذي يكون بين الإنسان وصاحبه ذكر في تلك السورة المباركة.
وجعل الله أحكام الأمة المستخلفة المحمدية دائرة في سورة البقرة بين حدَّيْن: حد أدني لا تنزل إليه، وحد أعلى فلا تصعد فوقه؛ (تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا) [البقرة:187]، (تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا) [البقرة:229]، وجعل مدار الأحكام في العبادات على التقوى: (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [البقرة:63]، وأنت تتدبر في كتاب الله تجد أن كل عبادة من العبادات مرادها التقوى، (إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ) [العنكبوت:45]، (وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ) [الحج:32].
فالشعائر من العبادات من صلاة وصيام وحج وزكاة إنما مدارها على التقوى، على مراقبة الله، على الاستقامة، على الطهر في الباطن والظاهر، على مراقبة الملِك، على القنوت إلى الرب الغافر، ثم تأتي المعاملات المادية، الجوازات، الجهاد، السلم، العلاقات الدولية، مدارها كما ذكر الله في سورة البقرة على البر.
المسألة ليست شرقية وليست غربية، لكنها وجهة إلى الله -سبحانه وتعالى- كما ذكر في كتابه، فمدار عباداتنا ومعاملاتنا داخلٌ على البر والتقوى بين يدي عالِم السر والنجوى -سبحانه وتعالى-.
الله -سبحانه وتعالى- أورثنا خلافة الأمم الماضية، وذكر لنا في كتابه الكريم أحوالهم وتقلبهم، بل أمرنا أن ننظر في عاقبة الأقوام، ولذا تجدون أن أحكامنا تختلف عن أحكام الأمم السابقة؛ لأن الأمم السابقة أمم عبادة، أما نحن معاشر الأمة المحمدية أمة دعوة؛ لذلك فالصلاة عندهم لا تكون إلا في أماكن مخصصة، أما نحن كما أخبر -صلى الله عليه وسلم-: "وجعلت لي الأرض مسجداً وتربتها طهورا".
بل إن الأمم السابقة كان ينزغ بينهم خلاف يتعدى إلى القتال، لكن إذا غنم أو حصل الفيء لأحدهم فإن الله ينهاه أن يكون كسبه من هذا، بل يجمعون الغنائم، فإما أن يحرقوها، أو ينزل الله صاعقة فيحرقها.
لذا جاء في الخبر أن الليالي التي سار فيها يوشع فتى موسى كما في البخاري أنه دخل بيت المقدس، وحبس الله له الشمس... لما أفلت، خرج من القدس محرراً، فإذا بالله يوحي إليه أن من الغنائم من الممتلكات مَن قد سلبه وغله بعض أصحابك ممن معك، فنادى قادة الجيش ورؤوس الأركان: هلا بايعوني ومدوا أيديكم، فمن لصقت يده بيدي فإن الغلول عنده، فأخذ يصافح قادة جنده وعسكره فإذا بيد أحدهم تلصق بيده، قال: عندكم، هات لي كتيبتك. وأخذ يصافحهم حتى اكتشف الغنم عند اثنين، فعاقبهما، وجمعت تلك الأمور التي أخذت وأحرقت، وربما في أقوام نزلت عليها صاعقة.
أما نحن فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "أُحِلَّتْ لي الغنائم"، وإذا كان يقول -عليه الصلاة والسلام-: "جُعِل رزقي تحت ظل رمحي"، وهو القائل -عليه الصلاة والسلام-: "الجنة تحت ظلال السيوف".
إن وراثة الأمة المحمدية للأمم السابقة يجعلنا نفهم أن في إعدادها وتكوينها ودورها ومهماتها كانت الأمم السابقة رسائلها، دعوتها، حدود لقائها، مجال انتشارها، إما قبيلة أو قوم أو يزيد، لكن لم تتعدى الخطابات والرسالات لنقول للعالم أجمع: هذه رسالة محمد الشافع المشفع، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم؛ لذلك قال: "بُعِثْتُ للناس كافة"، بعث للعرب والعجم، بعث للشرق والغرب، بعث للجن والإنس فهو رسول الثقلين، صلى الله عليه وصحبه وسلم.
إن معنى فهمنا لمهمتنا يجعلنا نقرأ كتاب ربنا، ونستشري سنة نبينا، فكل واحدٍ مِنَّا ومنكم مخاطَب بهذه الخلافة عن الله، خوطب بها نوح، خوطب بها هود، خوطب بها صالح، خوطِب بها داود وقال الله له: (إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ) [ص:26].
الله -جل وعلا- جعلنا خلفاءه في الأرض، وأمَرَنا بعبادته، (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) [الذاريات:56]، أمَرَنا بعمارة الأرض، (هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا) [هود:61]، عَرَضَ الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها، مَن الذي حملها؟ حملها أنا وأنت: (وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا) [الأحزاب:72].
كيف تستشري مظاهر هذه الخلافة؟ وكيف نتهيأ لها لنلبس التاج نيابة عن أنبياء الله، نحمل فيها الهم، وندرك فيها المهمة، وتنفعل فينا الهمة في شأن ما أقامنا الله؟ المعنى في هذا أن الله -سبحانه وتعالى- قد جعل أكمل خلفائه في الأرض أنبياءه عليهم الصلاة والسلام، وأعلى وأشرف الأنبياء هو مقدمهم وإمامهم وسيدهم، صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم.
فالذي منا ومنكم يريد أن يكون على الأقدام والآثار فلابد له أن يرتبط بصلة مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، رتبة بعد رتبة، درجة بعد درجة، الأَوْلى أن تعرف نبيك، الله -سبحانه وتعالى- يقول: (أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ) [المؤمنون:69]، لو قيل لك: صف لنا نبيك، صف إمامك، ستلتقي به غدا على الحوض، ستقف تحت لوائه، ما صفته من منبت رأسه حتى مخمص قدميه؟ ولعله يقول: وما شأني أنا وصفة رسول الله؟! ما شأنك؟! هذه الآيات التي فيها مظاهر تحويل القبلة يذكر الله فيها وجه نبيك، والله في كلامه وخطابه لا يريد عبثا أو لعبا، (قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا) [البقرة:144].
بل الله -سبحانه وتعالى- ذكر أعضاء وأشلاء أخرى لنبيك ورسولك، (لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ) [الحجر:88]، (وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ) [الحجر:88]، (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ) [الشرح:1]، (الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ) [الشرح:3]، (وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ) [العنكبوت:48]، (لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ) [القيامة:16]، هذه أعضاء وأشلاء من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
هذا الوجه الذي من اجله جعل الله توجيه القبلة لمرغوبه -صلى الله عليه وسلم- إذا بالقبلة ترجع إلى عهدها الأول، إلى أول بيت وضع للناس، لأول بيت تأتي إليه الأفئدة؛ هذا الوجه تقول عنه عائشة -رضي الله عنها- إنها في ليلة من الليالي فقَدَتْ إبرة وقعت منها، وليست إضاءة كما اليوم، أخذت تتحسسها وتبحث عنها، فإذا بلحظة تنزاح الستارة وتضيء الغرفة، وجدت الإبرة ونظرت، فإذا بوجه رسول الله اطلع على الغرفة فأضاء ما فيها. قالت له: يا رسول الله! ما أنور وجهك! قال: "الويل يا عائشة لمن لم يرني يوم القيامة"، قالت: ومن هذا الذي لا يراك؟ قال: "من ذُكرْتُ عنده ولم يصلِّ عليّ".
اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد صاحب الوجه المرغوب، صاحب الجبين المطلوب، الحبيب المحبوب. رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد ذكر الله أوصافه، وذكر الله أحواله، بل إن الله -سبحانه وتعالى- أقسم بسنيِّ عمره في الأرض فقال: (لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ) [الحجر:72]، (أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ) [المؤمنون:69].
فإذا أردت أن تحسس أوصاف نبيك وتتعرف على شمائل نبيك، وتبحث في معجزات نبيك، بل لتعرف كيف مرت أيامه على الأرض، ما الذي كان يحبه من المأكل؟ كيف كان يفعل في الملبس؟ كيف كان يعامل أزواجه؟ كيف كان يربي أولاده؟ كيف كان يخاطب أصحابه؟ كيف كان يرحم الأمة؟ كيف كان يعتني بالكبير والصغير؟ كيف كان يجبر الخاطر؟ كيف كان يحمل الكَلّ، ويعين على نوائب الحق؟ كيف كان يومه من أول الصباح إلى أخر الليل؟ كيف كانت صلاته؟ كيف كان قيامه؟ كيف كان نومه؟ أين يحب أن يجلس؟ أين كان نظره؟ ما هي كلماته؟.
اليوم إذا تعشق منا الواحد أحدا من أهل الأرض، نجماً أو صاحب مال أو جمال، فإنه يشتري الأخبار، ويبحث عن المعلومات، ويسأل من الناس ما يجمع به أخباراً كثيرة عمَّن يُحِب، ما حالي وحالك وأولادي وأولادك مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟.
وفوق المعرفة المحبة، النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم، أولى من كل الناس، ما حال محبتي له؟ ما حال قربي منه؟ سيدنا عمر قال: أنت أحب إلى من والدي وولدي. قال: ونفسك يا عمر؟ قال: إلا نفسي يا رسول الله! ما هي إلا لحظات حتى أدرك المعنى وقال: حتى من نفسي يا رسول الله.
لَيْتَهُ خَصَّنِي بِرُؤْيَةِ وَجْهٍ *** زَالَ عَن كُلِّ مَنْ رَآهُ الشَّقَاءُ
وبعد المعرفة والمحبة لابد أن تكون ثمرتهما الاتباع، (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ) [آل عمران:31]، أن تتبع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في جميع حركاته وسكناته، وأقواله وأفعاله وصفاته، ونفرح بمعنى المشابهة والمقاربة من حال هذا النبي عليه الصلاة والسلام.
يا من اسمك محمد يا من اسمك أحمد، عظم حالُك! لأن اسمك معظَّم، أن يعيش الإنسان معنى أنه من هذه الأمة المحمدية، "الله اختار العرب من الأمم، واختار بني كنانة من العرب، واختار قريشاً من بني كنانة، واختار بني هاشم، واختار أبي وأمي، فأنا خيار من خيار"، (إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آَدَمَ وَنُوحًا وَآَلَ إِبْرَاهِيمَ وَآَلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ) [آل عمران:33]، لله حكمة فيما يخلق ويصطفي ويختار، اللهم صلِّ وسلم وبارك على خيار الخيار.
هذه المعرفة، ثم المحبة، ثم الاتباع، تجعلنا من أهل وراثة النبي -صلى الله عليه وسلم-، فتنسحب هذه المعاني، وتنسحب هذه المحبة على قدر الصلاة على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وما النتيجة؟ أقربكم مني مجلسا يوم القيامة أكثركم عليَّ صلاة.
أقربكم مني مجلس يوم القيامة: أحسنكم أخلاقا. قال العلماء: أيها الأفضل، صاحب الخلق الحسن، أم الصلاة على جَد الحسن -صلى الله عليه وسلم-؟ قالوا: إن من أكمل الصلاة على رسول الله يحصل له نوع من المشابهة، فتحسن أخلاقه، وتطهر صفاته، وتصفو نفسه التي بين جنبيه، لأنه من كثرة الصلاة والسلام على رسول الله يبدأ يفكر في من صلي عليه، كيف كان يعامل جيرانه؟ كيف كان يتكلم مع والديه؟ كيف كان يتكلم مع أسلافه؟ كيف كان يكلم الكبير والصغير؟ كيف كان يعامل الجارية والخادم؟ فنأخذ نبحث عن معاني هذه الصفات فتتنور بصائرنا فندنوا -بإذن الله- من أقرب الناس مجلس من رسول الله يوم القيامة، والمجلس يوم القيامة مجلسه؛ لأنه صاحب الشفاعة بين يدي الله.
إن معنى الصلة برسول الله -صلى الله عليه وسلم- ينسحب على الصورة الظاهرة، وينسحب على السريرة الباطنة، وينسحب على سيرة الإنسان، فتغدو صورته، وتغدو سيرته، وتغدو سريرته محمدية أحمدية، إذا رؤي من بين الأمم قيل: هذا من أمة أحمد.
قالوا له: يا رسول الله! كيف تعرف أمتك يوم القيامة؟ فذكر لهم وصف الخيول لو كانت كلها على هيئة الدُّهْم البُهْم في سواد، ثم ظهر الأبيض منها، ألا يعرف؟ قالوا: نعم، قال: "كذلك تقدم أمتي غُرَّا مُحَجَّلين من آثار الوضوء". يزيدون في وضوئهم على رؤوسهم، يرفعون الماء قريباً من مناكبهم، إلى قريب من أنصاف ساقهم؛ فتتنور بأنوار الوضوء أعضاؤهم، حتى إذا وردوا إلى أرض المحشر عرفت فيهم تلك العلامةـ وحصلت لهم السلامة، وحفظوا من الخزي والندامة، وجمعوا على إمام الجماعة -صلى الله عليه وسلم-.
إن آثار خشوعك في الوضوء، وآثار الصبر على هذا الماء الذي يتناول أعضاءك، لا يعني حالة الطهارة اليوم، بل يعني حالة من الطهارة للاستعداد لاستقبال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فأنت تتوضأ هنا وتعرف آثار وضوئك هناك غدا.
إن سائر أعمالنا وعبادتنا ومعاملاتنا مربوطة بالبر والتقوى، لها أثار تظهر في برازخنا وأخرانا، حتى إذا جمعت الأمم، وكما جاء في السورة، فيُسأل الأقوام والأمم: هل جاءتكم رسلي؟ هل بلغت أنبيائي؟ قالوا: لا يا رب، فيقول عز وجل: "يا نوح ألم تبلغ قومك؟ يا هود... يا صالح..."، يارب بلغنا يا رب أدينا، ما لهم يكفرون؟ ما لهم ينكرون؟ مَن شهودكم؟ محمد وأمته، تعالوا يا أمة، ما تقولون في شأن دعوة الأنبياء؟ لبيك يا رب، بلَّغ الأنبياء أقوامهم. من أين عرفتم هذا؟ أنت أخبرتنا في كتابك يا رب بلسان نبيك -صلى الله عليه وسلم-، (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا) [البقرة:143].
إن معنى شهادتنا على الأمم هو معنى تفوقنا وتقدمنا، فعار علينا ونحن الذين معروف عنا التقدم أن نتأخر في أيامنا، شهادتنا عدل، شهادتنا قسط، شهادتنا أدب، شهادتنا رحمة، شهادتنا قوة، شهادتنا لها معنى كبير في مشاهد القيامة وعرصاتها، كيف نحمل دعوة هذا النبي إلى العالم؟ كيف نقدم في ذواتنا ترجماناً من أخبار ما أراد الله منا، وما أظهر الله فينا، وما جعل لنا من أحكام وشرائع؟ وهو الذي امْتَنَّ علينا أن أظهر فينا نبيه ليرفع عنا الآصار والأغلال، وليردنا إلى اليسر بعد العسر، ويجعلنا في المنحة بعد المحنة.
إن الله -سبحانه وتعالى- قد أكرمنا بهذا النبي، وأكرمنا بما بلغنا ورفعنا، فعسى أن نرتفع إلى ما جعل لنا، وهيأنا وقدمنا، وأن يجعل لنا وراثة أرضه، ويجعلنا من الذين يرثون الفردوس الأعلى. اللهم إنا نسألك من فضلك وكرمك، ألا وإن الساعة مفتوحة، والعطايا ممنوحة، فهنيئاً لمن استغفر ربه فجلى آثار الأوزار، واستغفر عما مضى من ذنوب كبار، اللهم إنا نستغفرك ونتوب إليك. استغفروا ربكم إنه كان غفارا.
الخطبة الثانية:
الحمد لله، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده. اقتضت سنة الله وحكمته في عبادة المرسلين أنهم لهم المنصورون، وأن جندهم هم الغالبون، فهنيئاً لمن غلب نفسه وغلب شهوته، وهنيئا لمن رتب نفسه على العبودية لله، وهنيئاً لمن فهم أنه مستخلف.
وإن الأمة المحمدية هذه هي أمة الخلافة، بل وكُلُّ سُوَرِ القرآن، مِن مُفْتَتَحِها ومُختتمها، ظاهرها وباطنها، كلها تدور على معنى خلافتك عن الله، اقرأ القرآن، رسالة من الله إليك، خطاب من الله إليك، وجهة من الله إليك، اقرأ على هذا الحال تجد معاني في معنى خلافتك في أدق التفاصيل إلى أعلاها، من أخص الشئون إلى أكبرها!.
ألا إن الله -سبحانه وتعالى- قد أمرنا بأمر بدأ به بنفسه، وأمر به ملائكته؛ تشريفا لقدر نبيه وتعظيما: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب:56].
لبيك الله! اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد.
التعليقات