اقتباس
وثالثها: نعمة الترويح وتغيير نمط الحياة ورتابتها: ففي العيد تتروح النفس وتترجل عن صهوة جواد جديتها وسعيها الدؤوب وكدها المتواصل... فتتبسط النفس وتنفتح الروح وترتاح من عنائها وتتخفف من أعبائها، ولقد قدَّم نبينا -صلى الله عليه وسلم- النموذج المثالي لذلك؛ فعن عائشة، قالت: دخل علي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعندي جاريتان تغنيان بغناء بعاث...
يعود بفرحة، ثم يعود بفرحة، ثم يعود بفرحة... عامًا من بعد عام من بعد عام... لذلك سُمي العيد عيدًا، قال ابن الأعرابي: "سمي العيد عيدًا لأنه يعود كل سنة بفرح مجدد"(تهذيب اللغة، للأزهري)، فعلى ذلك: ليس كل ما يعود يُسمى عيدًا؛ ولكن كل ما يعود بالفرح على الناس فهو العيد، ونقل القاضي عياض نفس الرأي قائلًا: "سمي العيد عيدًا لأنه يعود ويتكرر لأوقاته، وقيل: يعود به الفرح على الناس"(مشارق الأنوار، للقاضي عياض).
وهناك أراء أخرى في سبب تسمية العيد عيدًا، فمنها: "إنه سمي عيدًا لأنهم قد اعتادوه"(معجم مقاييس اللغة، لابن فارس)، ومنها: أنه "سمي عيدًا تفاؤلًا؛ ليعود ثانية"(المطلع على ألفاظ المقنع، للبعلي).
فها قد علمنا لما سُمي العيد عيدًا، لكن لماذا سمي بعيد "الفطر"؟ والإجابة سهلة ميسورة مشهورة معروفة؛ لقد سمي: بـ"عيد الفطر" لأن المسلمين الصائمين طوال شهر رمضان بأكمله فلم يأكلوا ولم يشربوا ولم يقربوا نساءهم في نهاره أبدًا... يفطرون فيه، فيحل لهم ما كانوا ممنوعين منه من المباحات الطيبات، وفي صحيح مسلم أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "وللصائم فرحتان يفرحهما: إذا أفطر فرح بفطره، وإذا لقي ربه فرح بصومه".
يقول ابن عابدين: "سمي العيد بهذا الاسم لأن لله -تعالى- فيه عوائد الإحسان؛ أي أنواع الإحسان العائدة على عباده في كل عام؛ منها: الفطر بعد المنع عن الطعام وصدقة الفطر... ولأن العادة فيه الفرح والسرور والنشاط والحبور غالبًا بسبب ذلك"(رد المحتار، لابن عابدين).
***
ففي عيد الفطر المبارك من كل عام نحتفل بنعمة البذل بعد الحرمان، نعمة الإباحة بعد الحظر، نعمة المنح بعد المنع؛ نعم، لقد حُرمنا من شهواتنا الحلال ومُنعنا من قربانها نهار شهر كامل، ثم أبيحت اليوم لنا، فما أحلاها من لذة، فإن للمنح بعد المنع لذة وحلاوة ومذاقًا خاصًا وفرحة عميقة لا يعرفها إلا من جربها وذاقها.
ويعزز تذوقنا لهذه النعمة وإحساسنا بها تلك الذكرى التي ما زالت تلوح في وجداننا بعد أن تركت فيه أثرًا غائرًا؛ إنها ذكرى جائحة كورونا، تلك التي أخذت منا بعض أحبابنا، تلك التي منعتنا أعوامًا من حج البيت الحرام واعتماره، بل حالت بيننا وبين صلاة الجمعة والجماعة في المساجد حين أُغلِقت، بل حرمتنا من الاختلاط بإخواننا وأصفيائنا... ثم جاء المنح بعد المنع، ورفع الله -تعالى- الوباء بمنته وفضله وتكرمه.
وفي عيد الفطر لذة أخرى، هي لذة انتظار الأجر العظيم، لذة توقع الفضل العميم من أكرم الأكرمين الحيي الجواد ذي الخزائن المملوءة خيرًا وبركة -سبحانه وتعالى-، فقد وعد -عز وجل-، ولا أحد أوفى بعهده ولا أصدق في حديثه وقوله من الله -تعالى الله-، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "كل عمل ابن آدم يضاعف؛ الحسنة عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، قال الله -عز وجل-: إلا الصوم، فإنه لي وأنا أجزي به، يدع شهوته وطعامه من أجلي"(متفق عليه).
***
والعيد شعيرة من شعائر الإسلام، وراية تُرفع من رايات ديننا، ورمز من رموزه وميزة من مميزاته تميز المسلمين عن غيرهم، وعلامة تفرد للأمة لا تتشبه فيه بغيرها، فعن أنس -رضي الله عنه- قال: قدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المدينة ولهم يومان يلعبون فيهما، فقال: ما هذان اليومان؟ قالوا: كنا نلعب فيهما في الجاهلية، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله قد أبدلكم بهما خيرًا منهما: يوم الأضحى، ويوم الفطر"(رواه أبو داود، وصححه الألباني).
***
ولأن العيد نعمة من نعم الله -عز وجل- فلابد من مقابلتها بالشكر: (وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)[البقرة: 185]، يقول ابن كثير في تفسيره: "وقوله: (ولعلكم تشكرون) أي: إذا قمتم بما أمركم الله من طاعته بأداء فرائضه، وترك محارمه، وحفظ حدوده، فلعلكم أن تكونوا من الشاكرين بذلك".
والحق: أنه كانت هناك أكثر من نعمة في هذا الشهر الذي رحل تحتاج إلى شكر، فأولها: نعمة الإمهال: فقد بلغنا الله -تعالى- رمضان في حين مات كثيرون قبل أن يبلغوه، ثم أمهلنا -تعالى- حتى انقضى الشهر ورحل، وقد مات آخرون في أوله وفي وسطه وفي آخره ولم يكملوه، فلله الحمد على نعمة الإمهال.
وثانيها: نعمة "إتمام النعمة"؛ فالله -عز وجل- هو الذي أعاننا فصمنا نهار رمضان، ثم أعاننا فقمنا ليله، ثم أعاننا فاجتنبنا ما يخل بالصيام والقيام فيضيع أجره؛ فـ"رب صائم ليس له من صيامه إلا الجوع، ورب قائم ليس له من قيامه إلا السهر"(رواه النسائي في الكبرى، وصححه الألباني).
وثالثها: نعمة الترويح وتغيير نمط الحياة ورتابتها: ففي العيد تتروح النفس وتترجل عن صهوة جواد جديتها وسعيها الدؤوب وكدها المتواصل... فتتبسط النفس وتنفتح الروح وترتاح من عنائها وتتخفف من أعبائها، ولقد قدَّم نبينا -صلى الله عليه وسلم- النموذج المثالي لذلك؛ فعن عائشة قالت: دخل علي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعندي جاريتان تغنيان بغناء بعاث، فاضطجع على الفراش، وحول وجهه، ودخل أبو بكر، فانتهرني وقال: مزمارة الشيطان عند النبي -صلى الله عليه وسلم-، فأقبل عليه رسول الله -عليه السلام- فقال: "دعهما"، فلما غفل غمزتهما فخرجتا.
وكان يوم عيد، يلعب السودان بالدرق والحراب، فإما سألت النبي -صلى الله عليه وسلم-، وإما قال: "تشتهين تنظرين؟"، فقلت: نعم، فأقامني وراءه، خدي على خده، وهو يقول: "دونكم يا بني أرفدة"، حتى إذا مللت، قال: "حسبك؟"، قلت: نعم، قال: "فاذهبي"(متفق عليه).
***
وها هم خطباؤنا الأحباب يشاركوننا فرحة العيد وبهجته، ويرسمون معنا رونقه وبريقه ومظاهر سعادته، فيتحفوننا بخطبة عيد الفطر المبارك أعاده الله على جميع المسلمين بالخير واليُمن والبركات.
التعليقات
زائر
22-09-2024جزاكم الله خير وبارك الله فيك وحفظكم الله اخوكم خالد إسماعيل جادالسيد آل عبدالرحمن