عناصر الخطبة
1/عبرة كورونا في هذا العيد 2/مظاهر عبودية التسليم في العيد 3/من أحكام الأضحية 4/الحث على كثرة الذكر 5/سلوة لمن اشتاق الحج ولم يستطع هذا العام.اقتباس
هكذا نفوس أهل الإيمان, تسليمٌ واستجابة, فكم نحتاج إلى أن نربي قلوبنا على تعظيم الأوامر!, وبوابةُ ذلك تعظيم الآمر وهو الله, فمن قدر الله حق قدره, من أحب ربه, من خافه وخشيه, من علم أن الخير كله إليه, وأنه أرحم به من والديه؛ سيطيع أمره وينتهي عند نهيه...
الخطبة الأولى:
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه؛ كما يحب ربنا ويرضى, إلهُ الأولين والآخرين, ومدبرُ الأمور, وكاشف الضر والبلوى, العظيمُ في ملكه, الحكيمُ في تدبيره, اللطيف في قضائه, لا تخفى عليه خافية, ولا يعجزه شيء, وهو عالم السر والنجوى.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, له الحمد في الآخرة والأولى, الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله, المؤيدُ بالوحي من السماء, والنبي المجتبى, والرسول المصطفى, اللهم صل وسلم عليه وعلى آله وصحابته أولي البصائر والنهى.
الله أكبر, الله أكبر, لا إله إلا الله, والله أكبر, الله أكبر, ولله الحمد.
الله أكبر عدد ما لبى حاج وكبر, الله أكبر عدد ما خَلق من الخلق وصور, الله أكبر كبيراً.
أما بعد: فاتقوا الله -أيها المؤمنون-, واذكروا أن بلوغ مواسم الطاعات والمرءُ من ضمن الشهود, نعمةٌ وأي نعمة!, فاحمدوه أن بلغتم الموسمَ, والأبدانُ صحيحةٌ, والقوى باقيةٌ, والأمنُ محفوظٌ, والدينُ تامٌّ, ولَيومٌ يُمَدُّ في العمر لهو غنيمةٌ لمن قدّم فيه صالحاً, يجده يوم أن يلقى ربه.
عباد الله: يومٌ مشهود من أيام المسلمين, إنه يوم عيد الأضحى, يأتي هذا العيد في ظروف مختلفة, بعد ما عانى المسلمون من الوباء؛ فَمِن مصاب, ومن خائفٍ وجل, رأى الناس في هذا الوباء أن الله على كل شي قدير, وأنه غالب على أمره, وأن القوى كلَّها لا شيء أمام قوته -سبحانه-.
مسكينٌ أنت يا ابن آدم إذ تتجبر, وعلى ربك تتكبر, وتجاه أمره ونهيه تقصر!, فمن أنت أمام القوي الجبار؟! من أنت؟! واللهُ الملك القهار, يدبر الليل والنهار, ويقلّب الأحوال في لحظة, ويغيّر الحياة في طرفة, فيا بؤس من مرّت به الأزمة وهو ما عرف عظمة ربه!, ويا خسارة من ما زال يظن أن الأسباب المادية وحدها تقيه, ونسي أن الله في هذه النُذر يستعتبه ويستعفيه!.
عباد الله: العيد يمر بالمسلمين, وفيه يتجلى معلم من أشرف المعالم, وهو معلم التسليم لله, إن المقيمين يهرقون الدماء استجابة لله, والحجاج في المشاعر يقيمون الشعائر؛ فيرمون الجمار, ويذبحون الهدي, ويبيتون في مكان, ويطوفون في آخر, ويرمون حجراً بحجر, كل هذا امتثالٌ لرب البشر, الخالقِ الذي أمر وشرّع, وقدّر الأحكام لحكم وإن غابت عنا.
كل هذا وهو غنيٌ عنا, غنيٌ عن أضاحينا, وعن حجّنا وعن سائر طاعاتنا, ولكن يناله التقوى منا, يريد ذلك لنا, يبتلينا ليرفعَنا ويأجُرَنا, هو -سبحانه- يرانا, ويريد منا أن تتعلق به قلوبنا, لا تظنوا -يا مؤمنون- أن الطاعات هي بصورها الظاهرة, بل الطاعات لها لبٌّ وهو القلب, أن يكون القلب لله, وإلا فأعمالٌ بكبرٍ وبترفّع وبعُجبٍ وبرياء هي أعمالٌ إلى كونها وبالاً أقربُ من كونها طاعات.
وإذا تقرر هذا فكم نحتاج إلى درس التسليم تجاه كل أوامر الدين!, فالله خالق الخلق ولن يأمرهم أو ينهاهم إلا وفي ذلك صلاحهم, نقول هذا في زمن صرت تسمع فيه من يجادل ويخوض, ومن يهوّن من شأن الأمر والنهي, ويشكك في الشريعة, بحججٍ واهية, ويقين المسلم أن المشرّع هو الذي خلق, والله أعلم بما يشرّع.
كم نحتاج إلى أن نوطن أنفسنا على التسليم تجاه الأحكام, وإن خالفت الهوى والرغبة, فإن كنا لا نتعبد إلا بما يوافق رغبتنا فأين معنى العبودية إذن؟! فنحن عبيد الله, والله في الدنيا يختبرنا, فهل يليق بنا أن نخالف ونجادل في الاختبار؟!.
وهكذا كان السلف السابقون, إذا جاء النص عن ربهم أو عن نبيهم توقفوا, فلا مِراء ولا اعتراض؛ لأن الشارعَ الله, واللهُ حكيم.
جاءهم تحريم الخمر وقلوبهم مغمورة بحبّها, وأجوافهم مملوءةٌ بها؛ فما ترددوا في إهراقها, فما غربت الشمس حتى جرت سكك المدينة بما أراقوا, جاء النساءَ الأمرُ بالحجاب فما جاوزن مكانهن؛ حتى شققن مروطهن وغطين وجوههن, ومن لم يكن معها أعطتها أختها.
قال ابن مسعود -رضي الله عنه-: "كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ -عليه الصلاة والسلام- فَعَسَى أَنْ لَا يَعْزِمَ عَلَيْنَا فِي أَمْرٍ إِلَّا مَرَّةً؛ حَتَّى نَفْعَلَهُ", لا تردُّدَ ولا تلكؤ, بل تسليمٌ وامتثال.
غَضِب ابن عمر على ابنه أشد الغضب حين نقل له نهياً نبوياً فعارضه, فقال ابن عمر لابنه: "أحدثك عن النبي -عليه الصلاة والسلام- وتعارضه, والله لا كلمتك أبداً", ويُلقِي النبيُ -عليه الصلاة والسلام- خاتمَ أحدهم -وقد كان مِن ذهب- في الأرض, وقال: "يعمد أحكم إلى جمرة من نار فيضعها في يده", وحين مضى النبي -عليه الصلاة والسلام- قال الناس له: "خذ خاتمك انتفع به", فقال: "لا والله لا آخذه أبداً؛ وقد طرحه النبي -عليه الصلاة والسلام-".
هكذا نفوس أهل الإيمان, تسليمٌ واستجابة, فكم نحتاج -يا مؤمنون- إلى أن نربي قلوبنا على تعظيم الأوامر, وبوابةُ ذلك تعظيم الآمر وهو الله, فمن قدر الله حق قدره, من أحب ربه, من خافه وخشيه, من علم أن الخير كله إليه, وأنه أرحم به من والديه؛ سيطيع أمره وينتهي عند نهيه.
عباد الله: نحن في هذه الدنيا في سباقٍ, سباقٍ مع الزمن, أيامنا تطوى وهنّ قلائل, كل يومٍ ينتهي فلن يعود, ومُكْثُك في الدنيا قليلٌ محدود, هو اختبارٌ وما أسرع ما تنتهي مدته, وترحلُ عن دنياك إلى قبرٍ تثوي فيه طويلاً, وتكون فيه منعّماً أو معذباً, هناك لن يصلك إلا عملك, ولن يراك ويدبّرك إلا ربك, وسيقف على شفير قبرك كل من كان يشغلك عنه.
أما والله إنه أمرٌ لا ينبغي أن يحزننا لأجل الفراق, وإنما ينبغي أن يجعلنا نستعد ونتهيأ, فهناك في الآخرة الحياةُ الكاملة, هناك حيث النعيم السرمدي, واللقاء الذي لا تفقد فيه أحبابك المسلمين, وهناك حيث التفاوت الكبير, حين يتمايز أهل الجنة في منازلهم, فتود لو أكثرت, ولو سارعت وسابقت؛ لترتفع في الجنة درجتك, وليعظم فيها أجرك ومنزلتك, وها نحن الآن في مكان الامتحان, فاعمل ما دمت في الإمكان.
أقولُ ما سمعتم فاستغفروا اللهَ يغْفر لي ولكم؛ إنَّه هو الغفورُ الرحيمُ.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, إله الأولين والآخرين, وقيّوم السماوات والأرضين, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله المصطفى الأمين, صلى الله عليه وعلى آله وصحابته أجمعين, أما بعد:
والتسليم يتجلى في الأضاحي؛ فالمسلم يضحى في وقت محدد, وللأضحية عمرٌ وجنس وأوصاف محددة, والمسلم يمتثل هذا ولا يجادل, يرجو من ربه الأجر, ويسلم لله الأمر, ويعلم أن الله يناله التقوى منا, فما أروع التسليم!.
وفي سياق الحديث عن الأضاحي فإن مما ينبغي التذكير به لكل مُسلِمٍ مُسلّم أن يحسن الذبح, بحدّ الشفرة, والرفق بالذبيحة وإضجاعها على جنبها الأيسر, وأن يتولاها من يُحسِن, والسنة أن يكون أولَ ما يأكله المسلم هذا اليومَ مِن أضحيته, وأن يتصدق وأن يهدي منها, وأن يتولى ذبحها بنفسه, أو يحضُرَها عند الذبح, ولا يعطي جازرها أجرته منها, بل من عنده.
ويجب أن يسمي عند ذبحها, ويستحب أن يكبر, فيقول: "بسم الله, والله أكبر, اللهم هذا منك ولك, اللهم هذا عنّي وعن أهل بيتي", أو من نواها له, ولو اكتفى بالتسمية أجزأه, وإن ترك التسمية عمداً لم تحل, وإن نسيها فعند جمهور العلماء أن الذبيحة يحلّ أكلها.
وليس له أن يبيع شيئاً من الأضحية مِن لحمها ولا جلدها؛ لأنها مما أخرجه لله -تعالى-, وليذكر المضحي وهو يضحي قول الحق -سبحانه-: (لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ)[الحج: 37], فلتطب نفسه بها؛ فإنها تقع عند ربه موقعاً.
ضحوا فإن لحومها ودمائهــا *** سيناله التقــوى بــلا نقصـــان
العيد أضحى فالدماء رخيصة *** مُهراقـــة للـــواحــــد الديـــان
عباد الله: يومكم هذا هو خاتمة العشر, قال جمع من أهل العلم: إنه أفضل أيام العام, وقد قال -عليه الصلاة والسلام-: "أَعْظَمُ الْأَيَّامِ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمُ النَّحْرِ، ثُمَّ يَوْمُ الْقَرِّ", وتليه أيام التشريق, وهي أيامٌ أكل وشرب وذكر لله, فاعمر -يا موفّق- أيامك بذكر الله بكل صيغة, وداوم على اللهج بالتكبير فيها في أدبار الصلوات, وفي كل الأوقات.
واذكر أن من القربات والطاعات في هذه الأيام صلةَ الأرحام؛ فأنت في أيام عيدٍ وصلة, وأيامِ طاعة وقُربة, فصفّ اليوم قلبك, وصِل اليوم رحمك, واحتسب في ذلك خُطاك, ومن لم تصله الأقدام, فليصله منك الكلام والسلام.
أيها المسلمون: يا من قعدتم عن الحج أوقن أن قلوب الكثير منكم تحن إلى المشاعر, وأن العين تكاد تدمع وهي تسمع عبر الإعلام أصوات الملبّين وصورَ المحرمين, ومشاهدَ الواقفين والرامين, ولكن أبشروا فربكم كريم, يعطي على النوايا الصادقة ما يعطي على العمل, وحين تعذّر عليك الوصول, فربك قريب, يسمعُ دعاءك أينما كنت, ويرى مقامَك أينما حللت, ولئن كان الحجاج اليوم ينحرون هديهم فأنتم اليوم تذبحون أضاحيكم, وما تدري حين حُرمت الحج هذه السَنَة عن حِكمة الله؛ فتدبيره كله خير, واختياره فيه الخيرة دنيا وآخرة, والله نسأل أن يكشف عنا الغمة.
وبعد: فأذكر الجميع بأن يومكم هذا قد اجتمع فيه عيدان, فمن شاء أجزأته هذه الصلاة عن صلاة الجمعة, ويبقى عليه صلاة الظهر, وأما نحن فمجمعون إن شاء الله.
فامضوا اليوم لعيدكم, وأبشروا وأملوا الخير من ربكم, واحمدوه أن خصكم فجعلكم مسلمين, معافين, آمنين, مطمئنين, أسأل الله أن يتقبل منكم هديكم وأضاحيكم.
التعليقات