عناصر الخطبة
1/العلم سبيل الرفعة والتفوق 2/قصص رائعة في علو همة السلف في طلب العلم 3/تفريط الخلف في العلماقتباس
اعلم -بارك الله فيك-: أنك إذا كنت ترغب في سمو القدر، ونباهة الذكر، وارتفاع المنزلة بين الخلق، وتلتمس عزا لا تثلمه الليالي والأيام، ولا تتحيَّفه الدهور والأعوام، وهيبة بغير سلطان، وغنى بلا مال، ومنعة بغير سلاح، وعلاء من غير عشيرة، وأعوانا بغير أجر، وجندا بلا ديوان وفرض، فعليك...
الخطبة الأولى:
أما بعد: فحياكم الله -تعالى- وبياكم، ويسر الله -تعالى- لنا ولكم الخير، وزادنا من فضله وعلمه؛ إنه ولي ذلك، والقادر عليه جل جلاله.
حديثنا اليوم عن "علو همة السلف في طلب العلم وتفريط الخلف" فما هي منزلة العلم؟ وما هو أثره على الفرد والمجتمع؟
اعلم -بارك الله فيك-: أنك إذا كنت ترغب في سمو القدر، ونباهة الذكر، وارتفاع المنزلة بين الخلق، وتلتمس عزا لا تثلمه الليالي والأيام، ولا تتحيَّفه الدهور والأعوام، وهيبة بغير سلطان، وغنى بلا مال، ومنعة بغير سلاح، وعلاء من غير عشيرة، وأعوانا بغير أجر، وجندا بلا ديوان وفرض، فعليك بالعلم فاطلبه في مظانه، تأتك المنافع عفوا، وتلق ما يعتمد منها صفوا، واجتهد في تحصيله ليال قلائل، ثم تذوق حلاوة الكرامة مدة عمرك، وتمتع بلذة الشرف فيه بقية أيامك، واستبق لنفسك الذكر به بعد وفاتك".
واعلم أن العلم جمال لا يخفى، ونسب لا يُجف، بعيد المرام لا يصاد بالسهام، ولا يقسم بالأزلام، ولا يرى في المنام، ولا يورث عن الأعمام، ولا يكتب للغلام، يقول أبو بكر الجزائري -رحمه الله-: "إن فضل العلم لعظيم، وإن شرفه لعال رفيع، فكم من وضيع رفعه العلم إلى مصاف الشرفاء، وكم من حقير نظمه العلم في سلك العظماء، به شرف آدم في الملأ الأعلى، وبه فاز أهله بالدرجات العلى، قال الله -تعالى-: (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ)[المجادلة: 11].
ولو لم يكن العلم أشرف شيء في الحياة لما طلب الله -جل جلاله- من رسوله أن يسأله المزيد منها في قوله: (وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا)[طه: 114].
ونور العلم لا يحجبه سبع سماوات، والشمس تغيب ليلا، والقمر يخفي نهارا، ونور العلم لا يغيب ليلا ولا نهارا، بل هو في الليل آكد: (إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا)[المزمل: 7].
والقمران يفنيان والعلم لا يفني، والقمران ينكسفان، والعلم لا ينكسف، والقمران تارة يضران، وتارة ينفعان، والعلم ينفع، ولا يضر بشرطه، والقمران في السماء زينة لأهل الأرض، والعلم في قلب المؤمن وهو في التحت، ويضيء ما فوقه وما تحته، وبهما ينكشف وجود الخلق، وبالعلم ينكشف وجود الخالق وضوء هما يقع على الولي والعدو، والعلم ليس إلا للولي وشعاع الكواكب إلى أسفل وشعاع العلم يصعد إلى العلو والكواكب تطلع من خزانة الفلك والعلم يطلع من خزانة الملك والكواكب علامة والعلم كرامة والكواكب موضع نظر المخلوقين، والعلم موضع نظر رب العالمين والكواكب نفعها في الدنيا، والعلم نفعه في الدنيا والآخرة، والشمس تسود الأشياء، والعلم يبيضها، والشمس تحرق، والعلم ينجي، والقمر يبلي الثياب، والعلم يجدد المعارف لأولي الألباب، وإنما كانوا كالمصابيح في الآخرة؛ لأن الناس يحتاجون إلى العلماء في الموقف في الشفاعة، بل وبعد الدخول فينتفع بهم فيها كالمصابيح، ولذا يقال: أن ذات العلم تكسي نورا ويضيء كالمصباح حقيقة، ألا تري أن هذه الأمة تدعي غرا محجلين من آثار الوضوء، فالعالم يتميز على آحاد المؤمنين بأن تصير جنته كلها مضيئة، فنعمة العلم أفخر النعم، وأجزل القسم، ومن أوتيه فقد أوتي خيرا كثيرا".
فالعلم هو أساس التقدم، والرقي بالإنسان، وازدهار الحياة، وإحداث التغيير الإيجابي الذي يحقق للأفراد والمجتمعات السعادة والحياة الكريمة، والعالم اليوم أحوج ما يكون إلى الاستثمار في العلم والمعرفة لمواجهة التحديات العديدة التي يوجهها، فلا سبيل إلى ذلكم إلا بالعلم والأخذ بأسبابه، فالعلم هو النور في الظلم، والأنيس في الوحدة، والوزير عند الحادثة، فإن اشتغل القلب به دله على المعبود الحق -سبحانه وتعالى-، فإن القلب له مواطن يجول فيها، يقول ابن القيم -رحمه الله- في بيان منزلة العلم وأهله: "استشهد سبحانه بأولي العلم على أجل مشهود عليه وهو توحيده، فقال سبحانه: (شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)[آل عمران: 18].
وهذا يدل علي فضل العلم وأهله من وجوه: أحدها: استشهادهم دون غيرهم من البشر. الـثـانـي: اقتران شهادتهم بشهادته.
الثالـث: أن في ضمن تزكيتهم وتعديلهم فإن الله لا يشهد من خلقه إلا العدول ...".
وروي عن علي -رضي الله عنه- قوله: "العلم أفضل من المال لسبعة أوجه، هي: العلم ميراث الأنبياء، والمال ميراث الفراعنة. العلم لا ينقص بالنفقة، والمال ينقص بها. المال يحتاج إلى الحافظ، والعلم يحفظ صاحبه. إذا مات الرجل خلف ماله وراءه، والعلم يدخل معه في قبره. المال يحصل للمؤمن والكافر، والعلم لا يحصل إلا للمؤمن. جميع الناس محتاجون إلى العالم في أمور دينهم، ولا يحتاجون إلى صاحب المال. العلم يقوي صاحبه عند المرور على الصراط، والمال يمنعه منه".
وروي عن مصعب بن الزبير قال لابنه: "يا بني! تعلم العلم فإنه إن يك لك مال كان لك العلم جمالاَ، وإن لم يكن لك مال كان لك العلم مالا"، أخرج مسلم عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له طريقا إلى الجنة، وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده، ومن بطأ به عمله لم يسرع به نسبه"(أخرجه أحمد ومسلم)
وعن زر بن حبيش إذا جاء فيه: "أتيت صفوان بن عسال المرادي -رضي الله عنه- فقال: ما جاء بك؟ قلت: أنبط العلم (أطلبه) قال: فإني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "ما من خارج خرج من بيته في طلب العلم إلا وضعت له الملائكة أجنحتها رضا مما صنع"(رواه أحمد، وابن ماجه، وصححه الألباني في "صحيح الترغيب").
هيا -أيها الآباء والإخوة الكرام-: لنقف على صور مشرقة من علو الهمة وقوة إرادة في نيل العلم، والترقي في درجاته، فليس الأمر بالسهل ولا بالهين، وإنما يحتاج إلى عزيمة وإرادة فولاذية.
ها هو حبر الأمة وترجمان القرآن عبد الله بن عباس يسمو بهمته، ويرتقي بعزيمته في مصاف العلماء قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "لما توفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قلت لرجل من الأنصار: يا فلان هلم فنسأل أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- فإنهم اليوم كثير، فقال: واعجبا لك يا ابن عباس أترى الناس يحتاجون إليك وفي الناس من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- من ترى؟ فتركت ذلك، وأقبلت على المسألة، فإذا كان يبلغني الحديث عن الرجل فآتيه وهو قائل فأتوسد ردائي على بابه فتسفي الريح على وجهي التراب، فيخرج فيراني، فيقول: "يا بن عم رسول الله ما جاء بك؟ ألا أرسلت إلى فأتيتك؟ فأقول: أنا أحق أن آتيك... فأسأله عن الحديث قال: "فبقي الرجل حتى رآني وقد اجتمع الناس علي، فقال: كان هذا الفتى أعقل مني"(أخرجه الدارمي في سننه، وإسناده صحيح).
وها هو سيد من سادت الصحابة، وبحر من بحور العلم؛ أوقف نفسه منذ أن أسلم على طلبه ورضي من الدنيا بأقل قليل، ولزم النبي -صلى الله عليه وسلم- فكان الصحابة يشتغلون بأمور الدنيا، وأبو هريرة يربط على بطنه الحجر والحجرين من الجوع حرصا منه على ألا يفوته شيء من أحاديث النبي -صلى الله عليه وسلم-، حتى شهد له بذلك النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "ألا تسألني من هذه الغنائم التي يسألني أصحابك؟" قلت: أسألك أن تعلمني مما علمك الله؟ فنزع نمرة كانت على ظهري، فبسطها بيني وبينه حتى كأني انظر إلى النمل يدب عليها، فحدثني حتى إذا استوعبت حديثه قال: "اجمعها فصرها إليك" فأصبحت لا أسقط حرفا مما حدثتني"(أخرجه أبو نعيم في الحلية، وهو في تاريخ ابن عساكر) (والنمرة: شملة فيها خطوط بيض وسود).
وذلك بحر لا ساحل له في العلم والمعرفة بالسنة المشرفة، وأحد الحصون التي صدت الأعادي عن سنة النبي -صلى الله عليه وسلم-: ابنه أبو حاتم الرازي ما وصل إلى تلك المنزلة إلا على جسر من التعب والجد والاجتهاد، وعلو الهمة، ذكر الحافظ الذهبي في ترجمة أبي حاتم الرازي محمد بن إدريس المتوفى سنة 277ه: أن أبا حاتم قال: قال لي أبو زرعة، يعني الرازي "ما رأيت أحرص على طلب الحديث منك، فقلت له: أن عبد الرحمن ابني لحريص، فقال: من أشبه أبا فما ظلم، قال الرمام وهو أحمد بن على أحد رجال إسناد الخبر -فسأل عبد الرحمن عن اتفاق كثرة السماع له وسؤالاته لأبيه، فقال: ربما كان يأكل وأقرأ عليه، ويمشي واقرأ عليه، ويدخل الخلاء واقرأ عليه، ويدخل البيت في طلب شيء واقرأ عليه".
وها هو مكحول -رحمه الله- يقول رحمه الله: عالم أهل الشام، يكنى أبا عبد الله، وقيل: أبو أيوب، وقيل: أبو مسلم الدمشقي الفقيه، وداره بطرف سوق الأحد يقول عن نفسه -رحمه الله- عتقت بمصر فلم أدع بها علما إلا حويته، فيما أري ثم أتيت العراق، ثم المدينة فلم أدع بها علما إلا حويت عليه ثم أتيت الشام فغربلتها".
وعلو همة عروة بن الزبير بن العوام -رحمه الله- من سادات التابعين، أحد الفقهاء السبعة في المدينة، عالما صالحا، قال عمر بن عبد العزيز: ما أحد اعلم من عروة بن الزبير، قال الزهري: عروة بحر لا تكدره الدلاء. عن هشام عن أبيه -عروة- أنه كان يقول لنا ونحن شباب ما لكم لا تعلمون، إن تكونوا صغار قوم يوشك أن تكونوا كبار قوم، وما خير الشيخ أن يكون شيخا وهو جاهل، لقد رأيتني قبل موت عائشة بأربع حجج وأنا أقول: لو ماتت اليوم ما ندمت على حديث عندها إلا وقد وعيته، ولقد كان يبلغني عن الصحابي الحديث فآتيه فأجده قد قال، فأجلس على بابه، ثم أسأل عنه".
وطلب الإمام مالك العلم وهو ابن بضع عشرة سنة، وتأهل للفتيا، وجلس للإفادة، وله إحدى وعشرون سنة، وحدث عنه جماعة وهي حي شاب طري، وقصده طلبه العلم من الآفاق في آخر دولة أبي جعفر المنصور وما بعد ذلك وازدحموا عليه في خلافة الرشيد وإلى أن مات.
استغفر الله لي ولكم وللمسلمين والمسلمات فاستغفروه وتوبوا إليه إن ربي رحيم ودود.
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:
أَمَّا بَعْدُ: فإذا تأملنا أحوال الخلف وما هم عليه لوجدنا البون شاسعا، والفرق واضحا بين السلف والخلف، فلو دخلت مسجد جماعة وسألت كثيرا من الحاضرين عن نواقض الوضوء أو سننه أو آدابه لما وجدت جوابا شافيا، ولو نظرت إلى مدارسنا وجامعتنا لرأيت طلابا للدنيا لا طلابا للعلم، بل إن كثيرا منهم لا يحسن قراءة سورة الفاتحة التي لا تصح الصلاة إلا بها، والسبب في ذلك يرجع إلى غفلة هؤلاء عن أمر دينهم وسنة نبيهم، وكذلك تلك الهمم التي لا هم لها إلا إشباع رغبتها من اللهو اللعب وإضاعة الأوقات في سماع الأفلام والمسلسلات والنوم حتى الصباح.
واعلم -علمني الله وإياك-: أن ضعيف الهمة ضعيف الإرادة ضعيف العزم في طلب ما ينفعه، ويرفع من شأنه، والسبب الذي يجعل كثيرا من الناس يطلبون الأدنى من الأمور، ويقصدون ما لا يملك لهم ضرا ولا نفعا؛ فساد العلم، وكثرة الجهل، وضعف الهمة، فكلما صح العلم انتفى الجهل، وصحت العزيمة، وعظمت الهمة في طلب الإنسان معالي الأمور، فبعض الناس همة لقمة يسد بها جوعته، وشربة روية تذهب ظمأه وفي مثل هؤلاء يقول حاتم الطائي:
لحـى الله صعــلوكـاً منـاهُ وهمـه *** من العيش أن يلقى لبوسا ومطعما
ويرى الخمص تعذيبا وأن يلقى شبعه *** يبيت قلبه من قـلـة الهم مبهمـــا
فيا أحفاد السلف: عليكم بطريقهم والسير على دربهم والجد في طلب العلم، فالعلم هو تلك الفريضة الغائبة التي غابت عن حياة المسلمين، ويتساهلوا في شأنها.... هيا لننفض الوهن والكسل فقد فات زمن الراحة، وجاء زمن السعي الحثيث للعمل للأمة لإخراجها من تيه الغفلة، ومن ظلمة الجهل إلى نور العلم، قال عبد الله بن يحيى بن أبي كثير، قال: سمعت أبي يقول: "لا ينال العلم براحة البدن"(رواه مسلم في صحيحه).
وفي عصر كثرة فيه المعارف وقل العارف، فالأسباب التي تهيئ للمسلم نيل العلم الشرعة دون مشقة ولا عناء كثيرة، وعلى الرغم من رفاهية الوسائل إلا أنك ترى ضعف الهمة وقلة السائل عن أمر دينه، في زمن أصبح المسلم يستطيع أن يسأل أي عالم على وجه الأرض وهو جالس على سريره من خلال وسائل الاتصال الحديثة إلا أنك ترى ميل إلى الراحة والدعة وانغماسا في الشهوات والاشتغال بالمحرمات؛ فإن سألته عن أمر من أمور اللهو مثل الكرة تجده مجودا لكل صغيرة وكبيرة فيها، وكذا أمور الدنيا وأضحى حال كثير منهم ما أخبر به النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله يبغض كل جعظري جواظ، سخاب في الأسواق، جيفة بالليل، حمار بالنهار، عالم بالدنيا جاهل بالآخرة"(أخرجه البيهقي، وصححه الألباني في صحيح الجامع).
الدعاء...
التعليقات