عناصر الخطبة
1/ فضائل دين الإسلام 2/ أهمية كِتابُ الله تعالى 3/ وجوب الرجوعِ إلى الكتابِ والسُنَّة ففيهِما النَّجاةُ والفلاحُ في الدارَين 4/ ذِكر بعضِ محاسِن هذا الدين العظيم وشريعتِه المُطهَّرة.اقتباس
إن الشريعةَ قد جاءَت بما يحفَظُ الأمنَ والاستِقرارَ في كل المجالاتِ؛ فحَفِظَت الأمنَ العقدِيَّ، والأمنَ الفِكريَّ، والأمنَ السياسيَّ، والأمنَ الأخلاقيَّ، جاءَت بحفظِ الأمنِ في الدول والأوطان، بل جاءَت الشريعةُ بزراعةِ محبَّة الخيرِ في القلوبِ، فيتمنَّى المرءُ لأخيهِ ما يتمنَّاهُ لنفسِه؛ فالتحاسُدُ مذمُومٌ، والكراهيةُ ممقُوتةٌ...
الخطبة الأولى:
الحمدُ لله الرحيم الرحمن، امتَنَّ على مَن شاءَ مِن عبادِه بالصحةِ في الأبدان، والأمنِ في الأوطان، نحمَدُه -سبحانه- على نعمِهِ الكثيرة وهو الكريمُ المنَّان، وأشهدُ أن لا إله إلا الله لا يُحبُّ كلَّ هَزيمٍ خوَّان، وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسولُه صاحِبُ الحُجَّة والبيَان، والمُنَزَّهُ عن الخِيانَةِ والبُهتان، صلَّى الله وسلَّم عليه وعلى آله وأصحابِه وأتباعِهِ مِمَّن اقتَفَى أثَرَه في خِصالِ الإيمان.
أما بعد .. فيا أيها المُؤمنون: اتَّقُوا اللهَ بالتِزامِ شرائِعِه، وتَركِ نواهِيهِ؛ تفُوزُوا بمحبَّة الله ومعيَّتِه، كما قال -سبحانه-: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) [التوبة: 4]، وقال: (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) [البقرة: 194].
اتَّقُوا اللهَ تُفلِحُوا دُنيا وآخرة، قال الله تعالى: (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ) [الحجر: 45، 46]، وقال -سبحانه-: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ) [الطلاق: 2، 3].
وإن مِن تقوَى الله: التِزامَ أعظَم ما أمَرَ الله به، وهو التوحيدُ بإفرادِ الله بالعِبادة؛ فلا يُصلَّى إلا لله، ولا يُدعَى إلا الله، قال تعالى: (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ) [الكوثر: 2]، وقال -سبحانه-: (وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا) [الجن: 18].
والتوحيدُ هو دينُ رُسُل الله جميعًا، فهو دينُ نُوحٍ، وإبراهيم، ومُوسَى، وعيسَى، وخاتَمهم نبيِّنا مُحمدٍ -صلى الله عليه وسلم- صلواتُ الله عليهم جميعًا -، قال تعالى: (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) [النحل: 36]، وقال الله - جلَّ وعلا -: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ) [الأنبياء: 25].
والتوحيدُ هو معنَى شهادةِ أن لا إله إلا الله، فلا يُعبَدُ أحدٌ بحقٍّ إلا الله، قال الله تعالى: (ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ) [الأنعام: 102].
وأما الشهادةُ الأُخرى التي يحصُلُ بها مع شهادةِ التوحيدِ الفوزُ والنجاةُ، ويحصُلُ بها الفوزُ الكبيرُ، فهي شهادةُ أن محمدًا رسول الله، أرسَلَه لهِدايةِ الخلقِ، وأوحَى إليه بحيث يُصدَّقُ في خبَرِه، ويُطاعُ في أمرِه، ولا يُعبَدُ اللهُ إلا بما جاءَ به، قال تعالى: (وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى) [النجم: 1- 5].
أيها الناس:
إن سبيلَ النجاة وطريقَ الجنَّة هو الإيمان، قال تعالى: (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا) [النساء: 175].
وقال رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- في بيانِ أركانِ الإيمان: "أن تُؤمِنَ بالله، وملائِكَتِه، وكُتبِه، ورُسُلِه، واليوم الآخر، والقَدَر خيرِه وشرِّه".
وقال تعالى: (وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ ..) الآية [البقرة: 177]، وقال -سبحانه-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا) [النساء: 136].
كما أنه -صلى الله عليه وسلم- ذكَرَ أركانَ الإسلام فقال: "الإسلامُ: أن تشهَدَ أن لا إله إلا الله، وأن مُحمدًا رسولُ الله، وتُقيمَ الصلاة، وتُؤتِيَ الزكاة، وتصُومَ رمضان، وتحُجَّ البيتَ إن استَطعتَ إليه سبيلًا".
عباد الله: الصلاةُ عِمادُ الدين، صِلةٌ بين العبدِ وربِّه، كما في الحديثِ: "إذا كان أحدُكُم في صَلَاتِهِ فإنما يُناجِي ربَّه".
قال تعالى: (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ) [البقرة: 45]، وقال -سبحانه-: (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ) [البقرة: 238]، وقال - عزَّ وجل -: (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ) [هود: 114].
والزكاةُ قَرينةُ الصلاةِ في كِتابِ الله، وتكونُ بإخراجِ جُزءٍ معلُومٍ مِن المال، وفي ذلك طُهرةٌ للنُّفوس، ونَماءٌ للمالِ، وتفقُّدٌ لحاجَةِ المُحتاجِين، قال الله تعالى: (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ) [البينة: 5].
والرُّكنُ الرابعُ مِن أركان الإسلام: صِيامُ شهر رمضان، قال الله تعالى: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) [البقرة: 185].
والرُّكنُ الخامِسُ: حَجُّ بيتِ الله الحرام، قال الله تعالى: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا) [آل عمران: 97]، وقال رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "الحجُّ المبرُورُ ليس له جزاءٌ إلا الجنَّة".
حجَّ رسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم- في السنة العاشِرة، ونزلَ عليه في يوم عرفة قولُه تعالى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا) [المائدة: 3]؛ وما ذاك إلا أنه كمُلَ دينُ الله، وتمَّت شريعتُه المُشتمِلَةُ على الفضائلِ العالِيَة، والمحاسِنِ الشريفَة.
فمِن محاسِنِ هذا الدين: أنه حضَّ على الاجتِماعِ والتآلُف، والتعاوُن على الخَير، قال تعالى: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ) [المائدة: 2]، وقال: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا) [آل عمران: 103].
ومِن محاسِنِ هذا الدين: حثُّهُ المُؤمنين على الأخلاقِ الفاضِلَة، والأقوالِ الطيِّبة، قال تعالى: (وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) [الإسراء: 53]، وقال لنبِيِّه -صلى الله عليه وسلم-: (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) [القلم: 4]، وقال: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ) [آل عمران: 159]، وأمَرَ المُؤمنين بالاقتِداءِ به -صلى الله عليه وسلم-.
وقد جعلَ -صلى الله عليه وسلم- مما يُفرِّقُ المُؤمنَ عن المُنافِقِ: الصِّدقَ في الحديث، والوفاءَ بالعَهد، والأمانة.
ومِن محاسِنِ الشريعةِ: أنها خَيرٌ ورحمةٌ للخَلقِ أجمَعين، قال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) [الأنبياء: 107].
ومِن محاسِنِ الشريعة: أمرُها بالعدل والإحسان، وإعطاءِ كلِّ ذي حقٍّ حقَّه، قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى) [النحل: 90].
ومِن محاسِنِ الشريعة: تنظيمُها للحياةِ على أكمَلِ الوُجوهِ وأتَمِّها، قال تعالى: (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) [الإسراء: 9].
ومِن ذلك: تنظيمُه لأحوالِ الأُسرة بما يُؤدِّي إلى سعادةِ الزوجَين، وبما يُؤدِّي إلى صلاحِ الذرِّيَّة؛ ليكُونُوا لبِنَاتٍ صالِحةً في مُجتمعاتِهم، قال تعالى: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) [الروم: 21].
وأمَرَ الشرعُ ببِرِّ الوالدَين، وحُسن تربيةِ الأبناءِ، وصِلَةِ الرَّحِم؛ ليتماسَك المُجتمعُ ويتآلَف.
كما نهَى عن الفواحِشِ والمُوبِقات، قال تعالى: (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ) [الأعراف: 33].
ومِن محاسِنِ الشريعة: تنظيمُها للمُعاملات المالِية لتُقضَى حوائِجُ الناس، ولتنمُو التجارَة، ويزدَهِر الاقتِصاد المبنِي على ثِقَة الناسِ بعضِهم ببعضٍ، ومِن هنا حرَّم الغِشَّ، وأكلَ أموال الآخرين بالباطِل، وأكلَ الرِّبَا، والجهَالات في البُيُوع، والقِمَارَ والميسِر، وأمرَ بالعدلِ والإنصافِ، وتوثِيقِ الحُقُوق.
أيها المُؤمنون: لقد كان مِن خُطبةِ المُصطفى -صلى الله عليه وسلم- في الحجِّ أن قال: "إن دماءَكُم وأموالَكُم وأعراضَكُم عليكُم حرامٌ"، ثم قال: "ألا فلا ترجِعُوا بعدِي ضُلَّالًا يضرِبُ بعضُكُم رِقابَ بعضٍ".
فكان في دينِ الإسلام تأصِيلُ مبادِئ الأمنِ والاستِقرار في المُجتمع الذي تزدَهِرُ به الحياةُ، وتنمُو به التِّجارات، وتطمئِنُّ به القُلُوب، ويتمكَّنُ النَّاسُ فِيه مِن عِبادةِ علَّام الغيُوب.
ولذا امتَنَّ الله على عِبادِهِ بنِعمةِ الأمنِ فقال: (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ) [الأنعام: 82]، وجعَلَ الأمنَ مِنحةً لمَن قامَ بشَرعِه، فقال -سبحانه-: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا) [النور: 55].
إن المُسلمَ مُساهِمٌ في الأمنِ في كل مكانٍ، فهو لا يعتَدِي؛ إذ كيف يعتَدِي وهو يسمَعُ قولَ الله تعالى: (وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) [البقرة: 190]؟!
وكيف يتجرَّأُ على مالِ غيرِه، أو يسفِكُ الدمَ وهو يسمَعُ اللهَ يقولُ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا * وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا) [النساء: 29، 30]؟!
طريقةُ المُسلم: عدمُ تجاوُزِ ما أمَرَ الله به مِن الوفاءِ بالعُهُود والمواثِيقِ، كما قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) [المائدة: 1].
والمُسلمُ مُلتَزِمٌ لِمَا أمَرَ الله به مِن طاعةِ وُلاةِ الأمُورِ، مما يحفَظُ النِّظامَ العامَّ، وينتُجُ عنه استِقرارُ البُلدان وأمنُها، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) [النساء: 59].
بل المُسلمُ يمقُتُ الاعتِداءَ على الآمِنين مِن المُسلمين وغيرِهم في كافَّة البُلدان، ويُدينُ الاعتِداءَات والجماعات الإرهابيَّة.
إن الشريعةَ قد جاءَت بما يحفَظُ الأمنَ والاستِقرارَ في كل المجالاتِ؛ فحَفِظَت الأمنَ العقدِيَّ، والأمنَ الفِكريَّ، والأمنَ السياسيَّ، والأمنَ الأخلاقيَّ، جاءَت بحفظِ الأمنِ في الدول والأوطان، بل جاءَت الشريعةُ بزراعةِ محبَّة الخيرِ في القلوبِ، فيتمنَّى المرءُ لأخيهِ ما يتمنَّاهُ لنفسِه؛ فالتحاسُدُ مذمُومٌ، والكراهيةُ ممقُوتةٌ، قال تعالى: (وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا) [النساء: 32].
ولئِن كان الشرعُ يأمرُ بنشر الأمن والسلام والاستِقرار في جميعِ بِقاع العالَم، فإن الشرعَ يُؤكِّدُ ذلك في هذه البلاد المُبارَكة، كما قال تعالى: (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ * فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا) [آل عمران: 96، 97]، وقال -سبحانه-: (فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ) [قريش: 3، 4]، وقال تعالى: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ) [العنكبوت: 67].
وتوعَّدَ اللهُ مَن همَّ مُجرَّد همٍّ بالإحداثِ في الحرمَين، فقال تعالى: (وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ) [الحج: 25].
وكما أمَّنَ اللهُ الحرمَين الشريفَين بهذه الولايةِ الإسلاميَّة، نسألُه -سبحانه- أن يُعيدَ المسجدَ الأقصَى أُولَى القِبلتَين ومسرَى رسولِ الله -صلى الله عليه وسلم-، وأن يحفظَ أهلَنا في فلسطين، وأن يمُنَّ عليهم بالأمنِ الوارِفِ، والعيشِ الرَّغِيدِ، واستِرجاعِ حُقوقِهم.
أيها المُؤمنون: لقد كان مِن خُطبة نبيِّنا الكريمِ -صلى الله عليه وسلم- في هذا الموطِنِ الشريفِ أن قال: "ألا كلُّ شيءٍ مِن أمرِ الجاهليَّة تحتَ قدَمَيَّ موضُوعٌ".
كان في الجاهليَّة: العصبيَّةُ المَقِيتةُ، والتمييزُ بين الناسِ، ورفعُ الشِّعارات، والتفاخُرُ بالآباء والأجداد، فنُهُوا عن ذلك كلِّه، قال تعالى: (فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا) [البقرة: 200].
فمِن أمرِ الجاهليَّة: أن يُجعَلَ موسِمُ الحجِّ موطِنًا للمُزايَدات، أو مكانًا للشِّعارات أو المُظاهَرات، أو الدعوةِ للأحزابِ والتجمُّعات؛ بل يجبُ أن يُجعلَ الحجُّ لله وحدَه، قال تعالى: (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) [البقرة: 196]، فلا مكانَ للشِّعارات الحِزبيَّة، ولا للدعوات المذهبيَّة، ولا للحركات الطائفيَّة التي نتَجَ عنها المذابِحُ العظيمةُ وتشريدُ الملايين.
لقد كان مِن خُطبة النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- في عرفة: "لقد تركتُ فيكُم ما لن تضِلُّوا بعده إن اعتصمتُم به: كتابَ الله".
أيها الأمةُ قاطِبَة: تمسَّكُوا بكِتابِ ربِّكم تهتَدُوا وتُفلِحُوا، قال تعالى: (إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ) [الزمر: 41]، وقال -سبحانه-: (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) [الإسراء: 82]، وقال: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا) [النساء: 174].
يا قادَةَ الأمة: هذا كِتابُ الله بين أيدِيكُم، سِيرُوا على هَديِه وحكِّمُوه، وانشُرُوه في الأمة، قال تعالى: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ) [المائدة: 48].
يا عُلماء الأمة: كِتابُ الله هو المصدرُ الكامِلُ للهداية، استنبِطُوا مِنه حُلُولَ مشاكِلِ الأمة، كما قال تعالى: (لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ) [النساء: 83]، تقرَّبُوا إلى الله بنشرِ أحكامِه وأخلاقِهِ.
أيها الآباء والأمهات.. أيها المُربُّون: ما أشدَّ حاجةَ أبنائِنا إلى أن يتعلَّمُوا القرآن؛ ففيهِ الهِدايةُ التامَّة، والأخلاقُ الفاضِلةُ، وخيرُكُم مَن تعلَّمَ القرآنَ وعلَّمَه.
أيها الإعلاميُّون: عليكُم واجِبٌ بنشرِ ما دعَا إليه القرآنُ العظيمُ مِن الخير والفضائِل.
ويا أصحابَ المال: تقرَّبُوا إلى الله ببَذلِ شيءٍ مِما آتاكُم الله مِن المال في نشر كِتابِ الله، وترغيبِ الخلقِ في تعلُّمِه وتعليمِه، والعملِ به، والدعوةِ إليه، قال تعالى: (مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) [البقرة: 261].
أيها الحُجَّاج: بعد أن خطَبَ رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- في عرفة، أمَرَ بلالًا فأذَّنَ ثم أقامَ، فصلَّى الظهرَ مقصورةً ركعتَين، ثم أقامَ فصلَّى العصرَ مقصُورةً ركعتَين، ثم وقفَ في عرفة على ناقَتِه يذكُرُ الله، ويدعُوه حتى غرَبَ قُرصُ الشمسِ، ثم ذهبَ إلى مُزدلِفَة، وكان يُوصِي أصحابَه بالرِّفقِ ويقولُ: "يا أيها النَّاس! عليكُم بالسَّكِينة والوَقَار؛ فإن البِرَّ ليس بالإيضَاعِ" أي: الإسرَاع.
فلما وصَلَ مُزدلِفَة صلَّى المغرِبَ ثلاثًا، والعِشاءَ ركعتَين جَمعًا وقَصرًا، وباتَ بمُزدلِفَة وصلَّى الفجرَ بها في أولِ وَقتِها، ثم دعَا اللهَ إلى أن أسفَرَت، ثم ذهَبَ إلى مِنَى فرمَى جَمرةَ العقَبَة بعد طُلُوع الشَّمس بسبعِ حصَيَات، وذبَحَ هَديَه وحلَقَ، ثم طافَ طوافَ الإفاضَة، وبقِيَ في مِنَى أيامَ التشريقِ يذكُرُ اللهَ، ويرمِي الجمَرَات الثلاث بعد الزوال، يدعُو عند الصُّغرَى والوُسطَى، ورخَّصَ لأهلِ الأعذارِ في تَركِ المَبِيتِ بمِنَى.
وسُنَّةُ رسولِ الله -صلى الله عليه وسلم- المُكثُ بمِنَى إلى اليوم الثالِث عشر، وهو الأفضلُ، وجازَ التعجُّلَ في الثانِي عشر.
فلما فرَغَ مِن حجِّهِ وأرادَ السفَرَ إلى المدينة طافَ بالبيتِ.
حُجَّاج بيت الله الحرام: إنكم في موطنٍ شريفٍ يقولُ فِيهِ رسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "ما مِن يَومٍ أكثَرُ مِن أن يُعتِقَ اللهُ فِيهِ عَبِيدًا مِن النَّارِ مِن يوم عرفة، وإنه ليَدنُو ثم يُباهِي بهم الملائكَة"؛ ولهذا أفطَرَ -صلى الله عليه وسلم- يوم عرفة في حجِّه؛ ليتفرَّغَ للذِّكرِ والدُّعاء.
فأرُوا اللهَ مِن أنفُسِكم، وأكثِرُوا مِن دُعائِهِ لكُم ولمَن تُحبُّون ولمَن لهم عليكُم حقٌّ، وللمُسلمين عامَّة بأن يُصلِحَ الله أحوالَهم، وأن يتولَّى شُؤونَهم.
ولا تنسَوا الدعاءَ لمَن أحسَنَ إليكُم، كما في الحديثِ: "مَن صنَعَ إليكُم معرُوفًا فكافِؤُوه، فإن لم تجِدُوا فادعُوا له".
وإن مِمَّن أحسَنَ للمُسلمين في مشارِقِ الأرضِ ومغارِبِها بخِدمةِ الحرمَين، والقِيامِ على ضُيُوفِ الرحمن: حُكَّام هذه البلاد المُبارَكة المملكة العربية السعودية. فتقرَّبُوا لله تعالى بالدُّعاء لهم.
اللهم يا حيُّ يا قيُّوم، يا ذا الجلال والإكرام نسألُك أن تُوفِّقَ خادِمَ الحرمَين الشريفَين الملِكَ سلمانَ بن عبد العزيز، اللهم كُن معه مُؤيِّدًا وناصِرًا ومُعينًا على كل خيرٍ، اللهم جازِهِ خيرَ الجزاء على ما يُقدِّمُه مِن الخير والإحسان، اللهم بارِك في وليِّ عهدِه الأميرِ مُحمد بن سَلمان، اللهم شُدَّ عضُدَه به، واجعَله سبَبَ خَيرٍ للأمةِ كلِّها.
اللهم تقبَّل مِن الحَجِيجِ حجَّهم، اللهم تقبَّل مِن الحَجِيجِ حجَّهم، ويسِّر لهم أمورَهم، واكفِهم شرَّ مَن أرادَ بهم سُوءًا، اللهم أعِدهم لبُلدانهم سالِمين غانِمين، قد غُفِرَت ذنوبُهم، وقُضِيَت حوائِجُهم.
اللهم اغفِر للمُسلمين والمُسلِمات، والمُؤمنين والمُؤمِنات، وألِّف ذاتَ بينهم، وأصلِح قُلوبَهم، وتولَّ شأنَهم، وآمِنهم في أوطانِهم، وارزُقهم الاستِعدادَ ليومِ المعاد.
(سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) [الصافات:180- 182].
التعليقات