عناصر الخطبة
1/تنوع القرآن في الهداية والإرشاد 2/من أعظم قصص القرآن 3/دروس وعبر من قصة موسى والخضر عليهما السلام 4/حسن الأدب مع الله تعالى 5/فلسفة الحياة عند المؤمن.اقتباس
هذه القصة تنبأنا عن فلسفة الحياة عند المؤمن بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا وبمحمد -صلى الله عليه وسلم- نبيًّا ورسولاً؛ إذ قلبه مطمئن، ونفسه راضية بوعثاء الدنيا ومصائبها، وتعثراتها وانكساراتها؛ لأن ألم اليوم، وقسوة الحال، وحرّ الواقع، يعقبه -بإذن الله- برد المستقبل، ونعيم النهايات، وخاتمة الخير...
الخُطْبَةُ الأُولَى:
عباد الله: من جماليات القرآن في الهداية والإرشاد، والدلالة والبيان، تصريف القول، وتنوع الأسلوب، بين ضرب للأمثال، وعرض للقصص، وحوارات ومعارضات، (وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآَنِ لِيَذَّكَّرُوا)[الإسراء:41]؛ لتأخذ النفوس حقها من الهداية والدلالة، والوعظ والتذكير، والبيان والإرشاد، فتترسخ فيها معاني التوحيد، ومقومات الصلاح، وأسس النجاح والفلاح (إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا)[الإسراء:9].
عباد الله: من أعظم قصص القرآن المشحونة بالدروس والدرر، المملوءة بالآيات والعِبَر، قصة موسى -عليه السلام- مع الخضر، وذلك أن "مُوسَى -عليه السلام- قام خَطِيبًا في بَنِي إسْرَائِيلَ، فَسُئِلَ أيُّ النَّاسِ أعْلَمُ؟ فَقَالَ: أنَا أعْلَمُ، فَعَتَبَ اللَّهُ عليه؛ إذْ لَمْ يَرُدَّ العِلْمَ إلَيْهِ، فأوْحَى اللَّهُ إلَيْهِ: أنَّ عَبْدًا مِن عِبَادِي بمَجْمَعِ البَحْرَيْنِ، هو أعْلَمُ مِنْكَ".
ومجمع البحرين قيل: هو ملتقى البحر المتوسط مع البحر الأحمر، وكان فيما سبق بينهما أرض.
"قَالَ: يا رَبِّ، وكيفَ بهِ؟" يخبرك هذا عن حرص موسى -عليه السلام- على التزوّد من العلم والسعي في تحصيل الكمالات؛ إذ العلم وطلب الخير لا يَعرف عُمْراً ولا يَحُدّه جاه ولا يعلوه منصب، قال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: "تعلموا قبل أن تسودوا".
فعلّق البخاري بقوله: "وبعد أن تسودوا، وقد تعلم أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- في كِبَر سنّهم، فقِيلَ لموسى -عليه السلام-: "احْمِلْ حُوتًا في مِكْتَلٍ، فَإِذَا فقَدْتَهُ فَهو ثَمَّ، فَانْطَلَقَ وانْطَلَقَ بفَتَاهُ يُوشَعَ بنِ نُون، وحَمَلَا حُوتًا في مِكْتَلٍ، حتَّى كَانَا عِنْدَ الصَّخْرَةِ وضَعَا رُؤُوسَهُما ونَامَا"، وفي رواية: "وفي أصْلِ الصَّخْرَةِ عَيْنٌ يُقَالُ لَهَا: الحَيَاةُ لا يُصِيبُ مِن مَائِهَا شيءٌ إلَّا حَيِيَ، فأصَابَ الحُوتَ مِن مَاءِ تِلكَ العَيْنِ، قالَ: فَتَحَرَّكَ وانْسَلَّ مِنَ المِكْتَلِ، فَدَخَلَ البَحْرَ"(رواه البخاري).
آية باهرة وقدرة ظاهرة؛ فبعد أن كانا يأكلان منه، بثَّ الله فيه الروح وعادت إليه الحياة، لتعلم أن الله على كل شيء قدير، وأنه -سبحانه- لا يتعاظمه شيء، إن عليك إلا فعل السبب ثم سَلِّم أمرك للباري -سبحانه-..
"فَاتَّخَذَ الحوتُ سَبِيلَهُ في البَحْرِ سَرَبًا، فأمْسَكَ اللَّهُ عَنِ الحُوتِ جِرْيَةَ المَاءِ، فَصَارَ مِثْلَ الطَّاقِ، فكانَ لِمُوسَى وفَتَاهُ عَجَبًا، فَانْطَلَقَا بَقِيَّةَ لَيْلَتِهِما ويَومِهمَا، فَلَمَّا أصْبَحَ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ: آتِنَا غَدَاءَنَا، لقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هذا نَصَبًا، ولَمْ يَجِدْ مُوسَى مَسًّا مِنَ النَّصَبِ حتَّى جَاوَزَ المَكانَ الذي أُمِرَ به".
إذ صاحب الهدف وطالب المجد تكون نفسه توّاقة وهِمّته سامقة، وإن تعثرت به السبل، وتخطته المعوقات، فهي تذهب أدراج الرياح حين يتحقق الهدف، وتقطف الثمرة، فَقَالَ له فَتَاهُ: (أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ)[الكهف:63]؛ إذ الشيطان مبعث الشرور، وموئل النكوص والدبور؛ وقد قال الله: (إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا)[الإسراء:53].
"قَالَ مُوسَى: (قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آَثَارِهِمَا قَصَصًا)[الكهف: 64]؛ فَلَمَّا انْتَهَيَا إلى الصَّخْرَةِ، إذَا رَجُلٌ مُسَجًّى بثَوْبٍ، أوْ قَالَ تَسَجَّى بثَوْبِهِ، فَسَلَّمَ مُوسَى، فَقَالَ الخَضِرُ: وأنَّى بأَرْضِكَ السَّلَامُ؟ فَقَالَ: أنَا مُوسَى، فَقَالَ: مُوسَى بَنِي إسْرَائِيلَ؟ قَالَ: نَعَمْ".
فقَالَ له موسى -عليه السلام- في عرض لطيف وتواضع جمّ: (هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا)[الكهف:66]؛ بأسلوب العرض وإظهار الرغبة، لا بمنطق الفوقية والأمر، وإن كان الطلب من فاضل إلى مفضول فموسى كان عند الله وجيهاً، قَالَ الخضر: (إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا)[الكهف:67].
"يا مُوسَى: إنِّي علَى عِلْمٍ مِن عِلْمِ اللَّهِ عَلَّمَنِيهِ لا تَعْلَمُهُ أنْتَ، وأَنْتَ علَى عِلْمٍ عَلَّمَكَهُ لا أعْلَمُهُ"، قَالَ موسى بلين وسماحة ورغبة: "سَتَجِدُنِي إنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا، ولَا أعْصِي لكَ أمْرًا، فَانْطَلَقَا يَمْشِيَانِ علَى سَاحِلِ البَحْرِ، ليسَ لهما سَفِينَةٌ، فَمَرَّتْ بهِما سَفِينَةٌ، فَكَلَّمُوهُمْ أنْ يَحْمِلُوهُمَا، فَعُرِفَ الخَضِرُ فَحَمَلُوهُما بغيرِ نَوْلٍ -بغير أجر- فَجَاءَ عُصْفُورٌ، فَوَقَعَ علَى حَرْفِ السَّفِينَةِ، فَنَقَرَ نَقْرَةً أوْ نَقْرَتَيْنِ في البَحْرِ، فَقَالَ الخَضِرُ: يا مُوسَى ما نَقَصَ عِلْمِي وعِلْمُكَ مِن عِلْمِ اللَّهِ إلَّا كَنَقْرَةِ هذا العُصْفُورِ في البَحْرِ".
(أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ)[الحج:70]؛ "فلَمْ يَفْجَأْ موسى -عليه السلام- إلَّا والخَضِرُ قدْ قَلَعَ لَوْحًا مِن ألْوَاحِ السَّفِينَةِ بالقَدُومِ.. فَنَزَعَهُ، فَقَالَ مُوسَى: قَوْمٌ حَمَلُونَا بغيرِ نَوْلٍ عَمَدْتَ إلى سَفِينَتِهِمْ فَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أهْلَهَا؟ قَالَ: ألَمْ أقُلْ إنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا؟ قَالَ: لا تُؤَاخِذْنِي بما نَسِيتُ ولَا تُرْهِقْنِي مِن أمْرِي عُسْرًا -فَكَانَتِ الأُولَى مِن مُوسَى نِسْيَانًا-"؛ إذ كريم النفس وغني الطبع يعفو ويصفح.
"فَانْطَلَقَا يمشيان على الساحل إذ أبصر الخضر غلامًا يَلْعَبُ مع الغِلْمَانِ، فأخَذَ الخَضِرُ برَأْسِهِ مِن أعْلَاهُ فَاقْتَلَعَ رَأْسَهُ بيَدِهِ"، فأنكره مُوسَى -عليه السلام- واعتراض عليه: (أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا)[الكهف:74]، وهذه أشد من الأولى؛ لأن خرق السفينة قد يكون به الغرق وقد لا يكون، أما هنا فهو منكر ظاهر.
(قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا)[الكهف:75]؟ - قَالَ ابنُ عُيَيْنَةَ: وهذا أوْكَدُ – "فَانْطَلَقَا، حتَّى إذَا أتَيَا أهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَما أهْلَهَا، فأبَوْا أنْ يُضَيِّفُوهُمَا، فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أنْ يَنْقَضَّ فأقَامَهُ، قَالَ الخَضِرُ: بيَدِهِ فأقَامَهُ، فَقَالَ له مُوسَى: لو شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عليه أجْرًا".
فموسى -عليه السلام- لم يَعِب على الخضر فعل الخير والإحسان؛ إذ المعروف لا يُنْكَر، والنفوس السليمة تقبله وترضاه، لكنَّ موسى -عليه السلام- التمس من الخضر أخذ أجرة يتبلغون بها وتسد حاجتهم، قَالَ: (هذا فِرَاقُ بَيْنِي وبَيْنِكَ)[الكهف:78]؛ قَالَ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "يَرْحَمُ اللَّهُ مُوسَى، لَوَدِدْنَا لو صَبَرَ حتَّى يُقَصَّ عَلَيْنَا مِن أمْرِهِمَا"(رواه الشيخان).
وصدق الله (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)[يوسف: 111]، أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم.
الخطبة الثانية:
عباد الله: من وحي هذه القصة حسن الأدب مع الله -تعالى-، في القول والفعل، فالله أحق أن يتأدب معه، وأن يستحيا منه، فالخضر حين عاب السفينة عزا ذلك إلى نفسه بقوله (فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا)[الكهف: 79]، وإن كان على عِلْم علَّمه الله إياه، لكن في حادثة إقامة الجدار، وهو إصلاح ظاهر، أسنده إلى الله -تعالى-: (فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ)[الكهف: 82].
وما أعظم أثر صلاح العبد واستقامته، فخيره ممدود، وأثره مردود، وفضله غير محدود. فهذا أبو صالح حفظ الله له ولده بعد موته، وقيَّض لهما نبيًّا يقيم الجدار ليحفظ عليهما كنزهما من النهب أو الضياع رحمة وبرًّا (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)[النحل:97].
وبعد عباد الله: هذه القصة تنبأنا عن فلسفة الحياة عند المؤمن بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا وبمحمد -صلى الله عليه وسلم- نبيًّا ورسولاً؛ إذ قلبه مطمئن، ونفسه راضية بوعثاء الدنيا ومصائبها، وتعثراتها وانكساراتها؛ لأن ألم اليوم، وقسوة الحال، وحرّ الواقع، يعقبه -بإذن الله- برد المستقبل، ونعيم النهايات، وخاتمة الخير، والله -تعالى- يقول: (قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ)[التوبة:51]، لكن الوصية؛ (فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ)[هود:49].
هذا وصلوا وسلموا..
التعليقات