عناصر الخطبة
1/ رحيل عامٍ محتشدٍ بالأحداث مليء بمتناقضات الحياة 2/ اختلاف مشاعر الناس ورغباتهم حين انسلاخ العام 3/ مرور الأيام دون اعتبار وحساب بيعٌ مغبون 4/ تعاقُبُ السنين دليلُ كمالِ عظمةِ الله وقيّوميته 5/ تعاقب الأعوام نعمة للعبد أو نقمة عليه 6/ استقبال العام الجديد بمحاسبة النفس على ماضيها 7/ البدار بالتوبة النصوح قبل الممات والفواتاهداف الخطبة
اقتباس
بعد أيام قليلة ينتهي عام، ونستقبل عاماً، إنها قنطرة نوشك أنْ نعبرها لتستقرَّ أقدامنا على قنطرةٍ أخرى، فخطوة نودِّع بها، وأخرى نستقبل بها، نقف بين قنطرتين مودِّعين ومستقبلين، مودعين موسماً كاملاً أودَعْنا فيه ما شاء الله أن نُودِع، فخزائن بعضنا ملأى بما هو له، وخزائن بعضنا ملأى بما هو عليه ..
معاشر المؤمنين والمؤمنات: بعد أيام قليلة ينتهي عام، ونستقبل عاماً، إنها قنطرة نوشك أن نعبرها لتستقر أقدامنا على قنطرة أخرى، فخطوة نودع بها، وأخرى نستقبل بها، نقف بين قنطرتين مودعين ومستقبلين، مودعين موسماً كاملاً أودعنا فيه ما شاء الله أن نُودِع، فخزائن بعضنا ملأى بما هو له، وخزائن بعضنا ملأى بما هو عليه.
يوم أو يومان هي كل ما تبقى من هذا العام الذي أوشك رحيله، وأزف تحويله، وصدق الله العظيم، ومَن أصدق من الله قيلاً؟ يقول: (يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ) [النور:44]، وصدق الله ومن أصدق، من الله حديثاً؟ يقول: (وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ) [آل عمران:140].
وهذا السير الحثيث يباعد عن الدنيا ويقرب إلى الآخرة، يباعد من دار العمل ويقرب من دار الجزاء، قال علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-: ارتحَلَت الدنيا مدبرة، وارتحلت الآخرة مقبلة، ولكل منهما بنون، فكونوا من أبناء الآخرة، ولا تكونوا من أبناء الدنيا؛ فإن اليوم عمل ولا حساب، وغداً حساب ولا عمل. أخرجه البخاري.
نسيرُ إلى الآجالِ في كُلِّ لَحظةٍ *** وأَعمارُنا تُطوَى وهُنَّ مَراحلُ
ترحَّلْ مِن الدنيا بزادٍ مِن التُّقَى *** فعُمْرُكَ أيـامٌ وهُنَّ قلائــلُ
وما هذه الأيامُ إلا مراحــلُ *** يحثُّ بها حادٍ إلى الموتِ قاصدُ
وأعْجَبُ شيءٍ لو تأمَّلْتَ أنَّها *** منازلُ تُطوَى والمسافرُ قاعدُ
إن الشهور والأعوام، والليالي والأيام، مواقيت الأعمال، ومقادير الآجال، تنقضي جميعاً، وتمضي سريعاً، والليل والنهار يتعاقبان لا يفتران، ومطيَّتان تقربان كل بعيد، وتدنيان كل جديد، وتجيئان بكل موعود إلى يوم القيامة، والسعيد لا يركن إلى الخُدَع، ولا يغترُّ بالطمع، فكم من مستقبلٍ يوماً لا يستكمله! وكم من مؤَمِّلٍ لغدٍ لا يدركه! ( وَلَن يُؤَخّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذَا جَاء أَجَلُهَا وَللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) [المنافقون:11].
والليلَ فاعلم والنهارَ كلاهما *** أنفاسُنَا فيها تُعَدُّ وتُحْسَبُ
ويقول الآخر :
كـلُّ يومٍ يمرُّ يأخُذُ بَعْضِي *** يورِثُ القلبَ حسرةً ثُمَّ يَمْضِي
معاشر المسلمين: أزف رحيل هذا العام، فها هو يطوي بساطه، ويقوِّض خيامه، ويشد رحاله، عام كامل، تصرَّمَتْ أيامُه، وتفرقت أوصاله، وقد حوى بين جنبيه حِكَماً وعبراً، وأحداثاً وعظاتٍ، فلا إله إلا الله! كم شقِيَ فيه من أناس! ولا إله إلا الله! كم سُعِد فيه من آخَرين! لا إله إلا الله! كم من طفل قد تيتم! وكم من امرأة قد ترملت! وكم من متأهل قد تأيم؟ لا إله إلا الله! كم من مريض قوم قد تعافى! وسليم قوم في التراب قد توارى! لا إله إلا الله! كم من أهل بيت يشيعون ميتهم، وآخرون يزفون عروسهم! لا إله إلا الله! دار تفرح بمولود، وأخرى تعزى بمفقود! لا إله إلا الله! عناق وعبرات من شوق اللقاء، وعبرات تهلّ من لوعة الفراق! لا إله إلا الله! آلام تنقلب أفراحاً، وأفراح تنقلب أتراحاً! أيام تمر على أصحابها كالأعوام، وأعوام تمر على أصحابها كالأيام!.
أيها المسلمون لقد انتهى عام، بماذا انتهى؟ حضر فلان وغاب فلان، مرض فلان، ودفن فلان، وهكذا دواليك، تغيُّر أحوالٍ، وتبدل أشخاص، فسبحان الله! ما أحكم تدبيره! يعز من يشاء ويذل من يشاء، يعطي من يشاء بفضله، ويمنع من يشاء بعدله، وربك يخلق ما يشاء ويختار، أمور تترا، تزيد العاقل عظة وعبرة، وتنبه الجاهل من سبات الغفلة، ومن لم يعتبر بما يجري حوله، فقد غبن نفسه: (يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ) [النور:44].
فيومٌ علينا ويومٌ لنا *** ويومٌ نُسَاءُ ويومٌ نُسَرّْ
أيها الأحبة: تختلف رغبات الناس ويتغاير شعورهم عند انسلاخ العام، فمنهم من يفرح، ومنهم من يحزن، ومنهم من يكون بين ذلك سبيلاً، فالسجين يفرح بانسلاخ عامه؛ لأن ذلك مما يقرّب موعد خروجه وفرجه، فهو يعد الليالي والأيام على أحر من الجمر، وقبلها تمر عليه الشهور والأعوام دون أن يشعر بها، فكأنه يحاكي قول القائل:
أعُدُّ الليالي ليلةً بَعْدَ ليلةٍ *** وقد عِشْتُ دَهْرَاً لا أعُدُّ اللياليا
آخر يفرح بانقضاء العام، ليقبض أجرة مساكن وغلة ممتلكات أجّرها حتى يستثمر ريعها وأرباحها، وآخر يفرح بانقضاء عامه من أجل ترقية وظيفية، إلى غير ذلك من المقاصد التي تفتقر إلى المقصد الأسمى وهو المقصد الأخروي، فالفرح بقطع الأيام والأعوام دون اعتبار وحساب لما كان فيها ويكون بعدها هو من البيع المغبون.
إنَّا لَنَفرح بالأيام نقطعُهــــا *** وكُلُّ يومٍ مضـى يُدْنِي مِن الأجَلِ
فاعمَلْ لِنَفْسِكَ قبل الموت مُجتهداً *** فإنما الربحُ والخسرانُ في العمَـلِ
فالعاقل من اتعظ بأمسه، واجتهد في يومه، واستعد لغده.
عباد الله: إن من أعظم الحِكَم في تعاقب السنين وتغيّر الأحوال والأشخاص أن ذلك دليل على كمال عظمة الله تعالى وقيوميته، فهو الأول فليس قبله شيء، وهو الآخر فليس بعده شيء، وهو الظاهر فليس فوقه شيء، وهو الباطن فليس دونه شيء، كل من عليها فانٍ، ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام.
إن تعاقب الشهور والأعوام على العبد، قد يكون نعمة له أو نقمة عليه، فطول العمر ليس نعمة بحد ذاته، فإذا طال عمر العبد ولم يعمره بالخير فإنما هو يستكثر من حجج الله تعالى عليه، أخرج الإمام أحمد والترمذي والحاكم عن أبي بكرة -رضي الله تعالى عنه- أنه قال: قال رسول الله -عليه الصلاة والسلام-: "خير الناس من طال عمره وحسن عمله، وشر الناس من طال عمره وساء عمله" قال قتادة رحمه الله: اعلموا أن طول العمر حجة. فنعوذ بالله أن نغتر بطول أعمارنا.
معاشر المسلمين: إن هذا العام الذي ولى مدبراً قد ذهب ظرفه وبقي مظروفه بما أودع فيه العباد من الأعمال، وسيرى كل عامل عمله، (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرَاً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدَاً بَعِيدَاً) [آل عمران:30]، سيرى كُل عامل عمله (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحَيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ) [الأنفال:42]، (وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) [فصلت:46].
ها نحن نودع عاماً كاملاً من أعوام العمر، فما أسرع ما مضى وانقضى! وما أعظم ما حوى! فكم من حبيب فيه فارقنا! وكم من اختبار وبلاء فيه واجهنا! وكم من سيئات فيه اجترحنا! وكم من عزيز أمسى فيه ذليلاً! وكم من غني أضحى فيه فقيراً! وكم من حوادثَ عِظامٍ مرت بنا! ولكن أين المعتبرون المبصرون؟ وأين الناظرون إلى قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ"؟.
أيها المسلمون: إن الليالي والأيام خزائن للأعمال، ومراحل للأعمار، تُبلي الجديد، وتقرب البعيد، أيام تمر، وأعوام تتكرر، وأجيال تتعاقب على درب الآخرة، فهذا مقبل وهذا مدبر، وهذا صحيح، وهذا سقيم، والكل إلى الله يسير.
فانظر -أيها الحبيب- في صحائف أيامك التي خلت، ماذا ادخرت فيها لآخرتك؟ واخْلُ بنفسك وخاطبها: ماذا تكلم هذا اللسان؟ وماذا رأت العين؟ وماذا سمعت هذه الأذن؟ وأين مشت هذه القدم؟ وماذا بطشت هذه اليد؟ وأنت مطلوب منك أن تأخذ بزمام نفسك وأن تحاسبها، يقول ميمون بن مهران: لا يكون العبد تقياً حتى يكون مع نفسه أشد من الشريك مع شريكه.
فلْنُحاسِبْ أنفسنا على الفرائض، ولنحاسب أنفسنا على المنهيات، ولنحاسب أنفسنا على الغفلات، فنحن نمتطي عربة الليالي، والأيام تحث بنا السير إلى الآخرة؛ ولما سئل أبو حازم: كيف القدوم على الله؟ قال: أما المطيع فكقدوم الغائب على أهله، وأما العاصي فكقدوم العبد الآبق على سيده.
أيها المسلمون: هذا عام من أعماركم قد تصرّمت أيامه، وقُوِّضت خيامه، وغابت شمسه، واضمحل هلاله، إيذانا بأن هذه الدنيا ليست بدار قرار، وأنه ما بعدها دارٌ إلا الجنة أو النار، فاحذروا الدنيا ومكائدها، فكم غرّت من مُخلِد فيها، وصرعت من مكبّ عليها، تتجدد الأعوام فنقول: إن أمامنا عاماً جديداً نراه طويلاً لكن سُرعان ما ينقضي.
قال عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما-: أخذ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بمنكبي فقال: "كن في الدنيا كأنك غريب، أو عابر سبيل"، وكان ابن عمر يقول: إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك. أخرجه البخاري، فلا يركن المؤمن إلى الدنيا، ولا يطمئن إليها، فهو على جناح سفر يهيئ نفسه للرحيل.
أيها الأحبة: الليل والنهار يباعدان من الدنيا ويقربان من الآخرة، فطوبى لعبد انتفع بعمره! فاستقبل عامه الجديد بمحاسبة نفسه على ما مضى، وتاب إلى الله -عَزَّ وجل-، وعزم على ألا يضيع ساعات عمره إلا في خير؛ لأنه يذكر دائماً قول نبيه -صلى الله عليه وسلم-: "خيركم من طال عمره وحسن عمله"، وهو يلهج دائما بدعاء النبي -صلى الله عليه وسلم-: "اللهم اجعل الحياة زيادة لي في كل خير، والموت راحة لي من كل شر".
عباد الله: ذهب عامكم شاهداً لكم أو عليكم، فاحتطبوا زاداً كافياً، وأعدوا جواباً شافياً، واستكثروا في أعماركم من الحسنات، وتداركوا ما مضى من الهفوات، وبادروا فرصة الأوقات، قبل أن ينادي بكم منادي الشتات، ويفجأكم هادم اللذات، فعن جابر -رضي الله عنه- قال: سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- يعظ رجلاً ويقول له: "اغتنم خمساً قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك، فما بعد الدنيا من مستعتب، ولا بعد الدنيا دارٌ إلا الجنة أو النار" أخرجه الحاكم.
فيا مَن قد بقي من عمره القليل، ولا يدري متى يقع الرحيل، يا من تُعد عليه أنفاسه، استدرِكْها، يا من ستفوت أيامه، أدْرِكْها، نفسك أعزُّ ما عليك فلا تهلكها، فعن أبي مالك الأشعري -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "كل الناس يغدو، فبائعٌ نفسه فمعتقها أو موبقها" رواه مسلم.
ويا من أقعده الحرمان، يا من أركسه العصيان، كم ضيّعت من أعوام، وقضيتها في اللهو والمنام! كم أغلقت باباً على قبيح، كم أعرضت عن قول النصيح! كم صلاةٍ تركتها، ونظرة أصبتها، وحقوق أضعتها، ومَنَاهٍ أتيتها، وشرور نشرتها! أَنَسِيتَ ساعةَ الاحتضار؟! حين يثقل منك اللسان، وترتخي اليدان، وتشخصُ العينان، ويبكي عليك الأهل والجيران، أنسيت ما يحصل للمحتضر حال نزع روحه؟! حين يشتد كربه، ويظهر أنينه، ويتغيّر لونه، ويعرق جبينه، وتضرب شماله ويمينه.
هذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وليس أكرم على الله من رسوله، إذ كان صفيَّه وخليلَه، حين حضَرَتْهُ الوفاة، كان بين يديه ركوة فيها ماء، فجعل يُدخل يده في الماء، فيمسح بها وجهه ويقول: "لا إله إلا الله! إن لِلْمَوْتِ سَكَرَات" رواه البخاري.
عباد الله: أين من عاشرناه كثيراً وألفنا؟ أين مَن ملنا إليه بالوجدان وانعطفنا! كم أغمضنا من أحبابنا جَفْناً! كم عزيز دفنّاه وانصرفنا! كم قريب أضجعناه في اللحد وما وقفنا! فهل رحم الموت منا مريضاً لضعف حاله وأوصاله؟ هل ترك كاسباً لأجل أطفاله؟ هل أمهل ذا عيال من أجل عياله؟ أين مَن كانوا معنا في الأعوام الماضية؟ أتاهم هادم اللذات، وقاطع الشهوات، ومفرّق الجماعات، فأخلى منهم المجالس والمساجد، تراهم في بطون الألحاد صرعى، لا يجدون لما هم فيه دفعاً، ولا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعاً، ينتظرون يوماً الأمم فيه إلى ربها تُدعى، والخلائق تُحشر إلى الموقف وتسعى، والفرائص ترعد من هول ذلك اليوم والعيون تذرف دمعاً، والقلوب تتصدع من الحساب صدعاً.
فيا من تمرّ عليه سَنَة بعد سَنَة، وهو في نوم الغفلة والسِنة، يا من يأتي عليه عام بعد عام، وقد غرق في بحر الخطايا وهام، قل لي بربك: لأي يوم أخرت توبتك؟ ولأي عام ادخرت أوبتك؟ إلى عام قابل، وحول حائل، فما إليك مدة الأعمار، ولا معرفة المقدار، فبادِرْ التوبة واحذر التسويف، وأصلح من قلبك ما فسد، وكن من أجلك على رصد، وتعاهد عمرك بتحصيل العدد، وفرَّ من المجذوم فرارك من الأسد، فقد أزف الرحيل، وقرب التحويل، والعمر أمانة، سيُسأل عنه المرء يوم القيامة.
فعن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا تزول قدما ابن ادم يوم القيامة من عند ربه حتى يُسأل عن خمس: عن عمره فيم أفناه، وعن شبابه فيم أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه، وفيم أنفقه، وماذا عمل فيما علم؟" رواه الترمذي، ويقول عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه: ما ندمتُ على شيء ندمي على يوم غربت شمسه، نقص فيه أجلي، ولم يزد فيه عملي.
أيها المسلمون: أين الحسرات على فوات أمس؟ أين العبرات على مقاساة الرمس؟ أين الاستعداد ليوم تدنو فيه منكم الشمس؟ فتوبوا إلى ربكم قبل أن يشتمل الهدم على البناء، والكدر على الصفاء، وينقطع من الحياة حبل الرجاء، وقبل أن تخلو المنازل من أربابها، وتؤذن الديار بخرابها، واغتنموا ممرَّ الساعات والأيام والأعوام، وليحاسب كل واحد منكم نفسه، فقد سعد من لاحَظَها وحاسبها، وفاز من تابعها وعاتبها.
وهلموا إلى دار لا يموت سكانها، ولا يخرب بنيانها، ولا يهرم شبابها، ولا يتغير حُسنها، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "من يدخل الجنة ينعم لا يبأس، لا تبلى ثيابه، ولا يفنى شبابه" أخرجه مسلم.
فيا عبد الله: استدرك من العمر ذاهباً، ودع اللهو جانباً، وقم في الدجى نادباً، وقف على الباب تائباً، بلسان ذاكر، وجفن ساهر، ودمع قاطر، فعن أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله عز وجل يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، حتى تطلع الشمس من مغربها" أخرجه مسلم.
فأحسن فيما بقي، يُغفر لك ما مضى، فإن أسأت فيما بقي، أُخذت بما مضى وبما بقي:(يَا اأَيُّهَا الإِنسَـانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبّكَ كَدْحاً فَمُلَـاقِيهِ * فَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كِتَـابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً * وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُوراً * وَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كِتَـابَهُ وَرَاء ظَهْرِهِ * فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُوراً * وَيَصْلَى سَعِيراً * إِنَّهُ كَانَ فِى أَهْلِهِ مَسْرُوراً * إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ * بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيراً) [الانشقاق:6-15].
أيها المسلمون: إن الأيام تطوى، والأعمار تفنى، والأبدان تبلى، والسعيد من طال عمره وحسن عمله، والشقي من طال عمره وساء عمله، والأعمال بالخواتيم، والمرء يموت على ما عاش عليه، ويُبعث على ما مات عليه؛ فعن جابر -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "يُبعث كل عبد على ما مات عليه" أخرجه مسلم.
ختاماً: عبد الله، أمة الله، هذا باب التوبة مفتوح، وقوافل التائبين تغدو وتروح، وعطاء ربنا ممنوح، فالبدار البدار إلى توبة نصوح! قبل الممات والفوات، يقول تعالى: (ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ تُوبُواْ إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحاً) [التحريم:8]، ويقول جل وتقدس: (وَتُوبُواْ إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [النور:31].
التعليقات