عناصر الخطبة
1/خطورة خطاب الكراهية 2/أسباب خطاب الكراهية 3/الخطاب النافع هو المبني على الشفقة واللين 4/أثر خطاب الكراهية 5/الصمت خير من خطاب الكراهية 6/النظرة السلبية للمسلمين وكيفية مواجهتهااقتباس
خطاب الكراهية كزَبَد السيل، يذهب جُفاءً ولا يمكث في الأرض، وما تلبَّث أحدٌ بخطاب الكراهية إلا نفرت من وَحْشِيِّه أسماعُ العقلاء فكرهوا سماعَ قوله أو قراءة مقاله، إنه خطاب يحجز صاحبَه في نطاق ضيق لا يرى فيه إلا نفسَه، فلا مقام عنده لحُسْن ظن ولا لسعة خلاف، بل هو بركان هائج...
الخطبة الأولى:
الحمد لله، الحمد لله العزيز الغفار، يكوِّر النهارَ على الليل، ويكوِّر الليلَ على النهار، يعلم السِّرَّ والجهرَ، وما في شواهق الجبال وأعماق البحار، لا تدركه الأبصارُ وهو يدرك الأبصارَ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يخلق ما يشاء ويختار، وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله، المصطفى المختار، -صلوات الله وسلامه عليه-، وعلى آل بيته الطيبين الأطهار، وأزواجه أمهات المؤمنين الأخيار، وعلى أصحابه المهاجرين والأنصار، ومَنْ سار على طريقهم واتبع هداهم ما تعاقَب الجديدانِ؛ الليلُ والنهارُ، وسلَّمَ تسليما كثيرا.
أما بعد: فيا أيها الناس: اتقوا الله حقَّ التقوى، واستمسِكُوا من الإسلام بالعروة الوثقى، وعليكم بجماعة المسلمين؛ فإن يد الله على الجماعة، (وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)[النُّورِ: 31].
عباد الله: إن أيَّ مجتمع على هذه البسيطة ينشد استقرارًا في المعرفة وتوازنًا في الحوار، واستيعابا لاختلاف التنوع، حريٌّ به أن يستمطر أسبابَ ذلك؛ فإن ما يصيبه من اضطراب خطابي أو يحل قريبا من داره ما هو إلا إبَّان غياب ذلكم الاستمطار، الذي يدفع الخلل أو يرفعه، وإنَّ الناظر فيما تعانيه أمة الإسلام من احتراب مقروء ومسموع وتلاسُن لا خطام له ولا زمام لَيلحظ -دون ريب- أن من أبرز مهيجاته وأدعاها لإشعال فتيله هو خطاب الكراهية؛ المنتشِر في أوساط متحدِّثيها وذوي أقلامها انتشار النار في الهشيم؛ ذلكم الخطاب الذي لا مصلحة فيه مكتَسَبة، ولا نفعا مقنِعًا يُرجَى، بل إن أرقى ما يصل إليه من درجة أنه غير حَسَن، ولا صالح، ولا نافع، بل هو رقية نزغ الشيطان بين صاحب خطاب الكراهية وبين المخاطَب، ولن يكبح جماحَ هذا النزغ ويقف حاجزًا دونه إلا الخطابُ بالتي هي أحسن، فإن الله -جل شأنه- يقول: (وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ)[الْإِسْرَاءِ: 53].
خطاب الكراهية -عباد الله- هو كل قول مقروء كتابةً، أو مسموع لفظًا يُثير تحريضًا أو فتنةً أو عنفًا أو ازدراءً أو عصبيةً أو تمييزًا بين الأفراد أو الجماعات، وإن خطورة مثل هذا الخطاب تكمن في إرباكه للأمن الفكري والأمن الاجتماعي، المؤثِّرَيْنِ جميعًا في النسيج المعرفي والتجانس الاجتماعي؛ إذ عليهما -بعد توفيق الله- مُعَوَّل المجتمعات في أصل الاستقرار، وبهما تُدرأ الفوضى في ثنايا وسائل التواصل بين أفرادها ومجموعها.
ولَمَّا كان خطاب الكراهة شارِدًا عن محور الوسط والوسطية عُرف بأن سبب إذكائه إما غلو حانق، وإما انحراف ساقط؛ ليصبح الخطاب الوسطي ضحية كِلَا طرفَيْ خطابِ الكراهية؛ فالمغالي يراه خطابًا منحرفًا؛ لأنه دونه في الغلظة وضيق العطن، والمنحرف المجافي يراه خطابا متشددًا؛ لأنه لا ينزل إلى بذاءته وانفلاته، وكلا الخطابينِ -عباد الله- تَلْفِظُهما الأسماعُ الرشيدةُ، وليس لهما رجع صدى في أسماع النبلاء ذوي الرزانة والتثبُّت، وأما الخطاب الوسطي فإنه يمر كالبرق من الأُذُن إلى القلب؛ ولا غروَ في ذلكم؛ فلسانُ الصدقِ أربى الألسن، ولا يكون إلا في العلو دائما، (وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا)[مَرْيَمَ: 50].
إن مَنْ أراد لخطابه القبولَ عند الناس، والأثرَ البالغَ في إيصال الغاية النبيلة فليجعله مبنيًّا على الإشفاق بالناس لا الإسفاف بهم، والحرص على إيصال المنفعة إليهم لا الإضرار بهم، وإحاطته بالرحمة لهم لا القسوة عليهم، فبذلكم -لَعَمْرُ اللهِ- كانت خطابات سيد ولد آدم الذي أوتي جوامع الكلم -صلوات الله وسلامه عليه-، والذي قال عنه ربه: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ)[التَّوْبَةِ: 128].
فالرحمة والرأفة والحرص على الناس صفات لا تجتمع في امرئ يحمل لسانُه خطابَ الكراهيةِ.
عباد الله: لقد فَهِمَ أقوامٌ معنى حرية التعبير فهما مقلوبا، لا يَمُتُّ للحرية بِصِلَة، ولا هو من بَابَتِه في وِرْد ولا صَدَر، حتى إنهم جعلوا من أعراض الناس وحرماتهم وبواطنهم كلأً مُبَاحًا، ووِرْدًا مُشاعًا يصدر منه رعاء التحريض والسباب والتعيير، ويسقى منه المهوشون المشوشون وأغرار القيل والقال.
خطاب الكراهية -عباد الله- هو عنف لفظي، وإن الله يعطي بالرفق ما لا يعطي بالعنف، والله -جل وعلا- يقول لنبيه -صلى الله عليه وسلم-: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ)[آلِ عِمْرَانَ: 159]، خطاب الكراهية خطاب يفض ولا يجمع، يُبعد ولا يُقَرِّب، يُفسد ولا يُصلح، إنه كحصى الخذف، يفقأ العين ولا يقتل الصيد.
خطاب الكراهية كزَبَد السيل، يذهب جُفاءً ولا يمكث في الأرض، وما تلبَّث أحدٌ بخطاب الكراهية إلا نفرت من وَحْشِيِّه أسماعُ العقلاء فكرهوا سماعَ قوله أو قراءة مقاله، إنه خطاب يحجز صاحبَه في نطاق ضيق لا يرى فيه إلا نفسَه، فلا مقام عنده لحُسْن ظن ولا لسعة خلاف، بل هو بركان هائج لا يقذف إلا بالحمم فلا تقع على شيء إلا أحرقته أو أذابته.
خطاب الكراهية سلوك المُسِفِّ، وسلاح النَّزِقِ، إنه تقيُّؤٌ لباطن مُتخَمٍ بالغل والغرور والتشفي والانتصار الزائف، وخطاب الكراهية -عباد الله- ليس مرضا وراثيًّا لا إرادة للمرء في رفعه، بل هو مركَّب من خليط مزاجي يُغَذِّيه فكر جانح، ونفس مضطربة، فهما جرثومة عالقة في الهواء تقع على كل نفس خَلِيَّة من الخُلُق والعدل والإنصاف، ونموها في نفس المرء مرهون بقدر ما يحمله من مضاداتها؛ بحيث يمكنه دفعُها قبل وقوعها عليه، أو على أقل تقدير رفعها عنه بعد الوقوع، لكن الوقاية خير من العلاج؛ لأنها أعمق وأسلم في التحصين من تلكم الجرثومة.
وإذا عجز المرءُ عن تهذيب خطابه وصبغه بصبغة الرأفة والإشفاق ونُصْح الغير فإن آخِرَ الدواء الناجع لصاحبه هو الصمتُ، كيف لا ورسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "مَنْ كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو لِيَصْمُتْ" (رواه البخاري، ومسلم).
ألَا إن من فضل الله على أمة الإسلام أن كانت -بشريعتها الغراء- أبعدَ ما تكون عن خطاب الكراهية، ولا عجب في ذلك؛ فقد قال الله عنها: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا)[الْبَقَرَةِ: 143]، أي: عُدُولًا خِيارًا؛ فبالعدلِ يُقسطون في القول والحُكْم على المُخالِف، وبالخيار يُقسطون في العمل والأخلاق مع الغير، لكن الخلل الذي ينتاب مجموعَها إنما هو نتيجة شرود عن استحضار ذلكم الفضل والتزام مساره، فاعترى بعضَهم العدولُ عنه إلى ما لا يُحمد.
إذا ما اتقى الإنسان بالقول ربه***تجنَّب فيما قد يقول نِوَاهِيَهْ
فخيرُ خطابِ المرءِ ما كان رحمةً***وشرُّ خطابٍ ما أبان كراهِيَةْ
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين والمسلمات من كل ذنب وخطيئة، فاستغفروه وتوبوا إليه إن ربي كان غفورا رحيما.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وبعد:
فاتقوا الله -عباد الله-، ثم اعلموا أنه قد انتشر في عقد هذا الزمن نظرة سلبية من غير المسلمين تجاه الإسلام وأهله، فأزكت تلكم النظرةُ خطابَ كراهية ضدهما، حتى أضحى سمة بارزة في عدد من وسائل أولئكم، وقد كثر الحديث عنها وعن دوافعها، فلم يخرج الأمر عن أن الذي يُغَذِّي خطابَ الكراهية ضد الإسلام والمسلمين إما عمق عقديّ، وإما ردة فعل عكسية لأغلاط غير مقبولة من أناس ينتسبون إلى الإسلام، وإما بالأمرين جميعا.
فأما ما كان سببُه عمقا عقديًّا فلا حيلة لأمة الإسلام تجاهه، فلو جاءتهم كل آية لم يستطيعوا نزعه من صدروهم إلا أن يشاء الله، فإن مَنْ شَبَّ على شيء شاب عليه، وقد قال الله -جل شأنه-: (وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ)[الْبُرُوجِ: 8].
وأما ما كان سببُه راجعًا إلى ردة فعل عكسية لأخطاء بعض أهل الإسلام فإن هذا هو ما يعنينا بالدرجة الأولى؛ لأن أهل الإسلام هم المعنيون بالقدوة الحسنة، وموافَقة أفعالهم لما ينتسبون إليه؛ فإن الطرف الآخَر لا يُفَرِّق بين الإسلام وبين المنتسبينَ إليه، فأي غلط يقع فيه أحد منهم سيُلقون باللائمة على الإسلام.
وإن من المؤسف -عباد الله- أن كثيرا ممن يخالط غير المسلمين لا يعكس صورة إيجابية عن الإسلام بما يقع منه في أفعاله وأقواله وأخلاقه، إنهم لا يصلهم منه معنى سماحة الإسلام ولا عالميته، ولا عدله، ولا شموليته ولا كماله في كل زمان ومكان، ومن هنا وجَب على أهل الإسلام عامةً وأهل المعرفة خاصةً أن يكونوا صُوَرًا مشرقة للإسلام في ديار غير المسلمين، عبر الخطاب الوسطي والقلم المعتدل والتعامل الحميد، وأن يُشيعوا بين أولئك القوم المعنى الحقيقيَّ للإسلام في نظرته إلى الحياة سياسةً واقتصادًا وثقافةً وحضارةً وإلى الفرد ذَكَرًا وأنثى، وإلى الأسرة المكوَّنة من الأفراد، وإلى المجتمع المكوَّن من الأُسَر، وأن الإسلام دين قَيِّم يستوعب شئونَ الحياة كلها، وما يقع من خطأ لأحد المسلمين فإنه منه لا من الإسلام.
كما يجب أن يكون للإعلام والمنظَّمات ونحوها جهود مبذولة في هذا الأمر العظيم، فإن عليهم من المسئولية والتبعة ما ليس على مَنْ دُونَهم، وإن أمضى الوسائل وأقلها كلفةً ومؤونةً خُلُق رفيع، وخطاب مُشرِق يسع المسلمُ به أولئك القومَ؛ فإن للأخلاق مُضِيًّا لا يبلغه غيرُها، والله الهادي إلى سواء السبيل.
هذا وَصَلُّوا -رحمكم الله- على خير البرية، وأزكى البشرية محمد بن عبد الله صاحب الحوض والشفاعة، فقد أمركم الله بأمر بدأ فيه بنفسه وثنَّى بملائكته المسبِّحة بِقُدْسِه، وَأَيَّهَ بكم أيها المؤمنون، قال جل وعلا: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب : 56].
اللهم صلِّ وسلِّم وزِد وبارِك على عبدك ورسولك محمدٍ، صاحبِ الوجهِ الأنور، والجَبين الأزهَر، وارضَ اللهم عن خلفائه الأربعة: أبي بكرٍ، وعُمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن سائر صحابةِ نبيِّك محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-، وعن التابعين، ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوك وجودك وكرمك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، واخذُل الشركَ والمشركين، اللهم انصُر دينَكَ وكتابَكَ وسنةَ نبيِّك وعبادَكَ المؤمنين.
اللهم فرِّج همَّ المهمومين من المُسلمين، ونفِّس كربَ المكروبين، واقضِ الدَّيْن عن المدينين، واشفِ مرضانا ومرضَى المُسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِح أئمَّتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك، واتبع رضاك يا رب العالمين.
اللهم وفِّق وليَّ أمرنا لما تحبُّه وترضاه من الأقوال والأعمال يا حيُّ يا قيُّوم، اللهم وفقه وولي عهده لما فيه صلاح البلاد والعباد، اللهم أصلِح له بطانته يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم انصر إخواننا المُستضعفين في دينهم في سائر الأوطان، يا حي يا قيوم.
اللهم آت نفوسنا تقواها وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها.
اللهم أنت الله لا إله إلا أنت أنت الغني ونحن الفقراء أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم لا تحرمنا خير ما عندك بشر ما عندنا يا ذا الجلال والإكرام.
(رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)[البقرة: 201].
عباد الله: اذكروا الله العظيم يشكركم، واشكروه على آلائه يزدكم ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.
التعليقات