اقتباس
السبب الرابع: كثرة المعاصي: فَمِنْ عُقُوبَاتِهَا أنها تُعْمِي بصيرة القلب وتطمس نوره، وتَسُدُّ طُرُقَ الْعِلْمِ، وتحجب مواد الهداية. وقد قال مالك للشافعي لمّا اجتمع به: إني أرى الله قد ألقى على قلبك نورًا، فلا تطفئه بظلمة المعصية.
الخذلان معناه: تَرْكُ الْعَوْنِ، يقال خذَله اللهُ: أي: تخلَّى عن نصرته وإعانته، وفي التنزيل: (وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ)[آل عمران: 160]؛ أي: وإِنْ أراد خذلانكم وترك معونتكم فلا ناصر لكم.
والخَذول صيغة مبالغة أي كثير الخذلان، قال تعالى: ( وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنْسَانِ خَذُولاً)[الفرقان: 29]؛ أي يُضله ويُغويه ويزين له الباطل ويقبح له الحق، ويَعِدُهُ الأماني ثم يتخلى عنه وقت الحاجة فلا ينقذه ولا ينصره.
وللخذلان أسباب، منها:
السبب الأول : اتباع الهوى: والهوى: ميل النفس إلى ما تحب من غير الإصغاء لحكم الشريعة فيه.
والهوى: سبب في الزيغ والانحراف والضلال، ويشهد لهذا قوله تعالى: (وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ)[ص: 26]؛ أي: لا تَمِلْ مع أهواء نفسك وحظوظها، فيصرفك الله عن الدلائل الدالة على الحق.
وقال تعالى: (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ)[القصص: 50]، وقال عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ -رضي الله عنه-: "الهوى شريك العمى، وقال أيضا: إنَّمَا أَخَافُ عَلَيْكُمَ اثْنَتَيْنِ: طُولَ الأَمَلِ، وَاتِّبَاعَ الْهَوَى؛ فَإِنَّ طُولَ الأَمَلِ يُنْسِي الآخِرَةَ، وَإِنَّ اتِّبَاعَ الْهَوَى يَصُدُّ عَنِ الْحَقِّ".
وقال الفُضيل بْن عِيَاضٍ: من استحوذ عليه الهوى واتباع الشهوات انقطعت عنه موارد التوفيق.
وقال رجل للحسن البصري : أي الجهاد أفضل؟ قال : جهادك هواك.
وقال ابنُ القيم -رحمه الله-: "سَمِعتُ رجلًا يقولُ لشيخِنا ابنِ تيمية: إذا خان الرجلُ في نقد الدَّراهم (أي في عَدِّها وتمييز الصحيح من المغشوش)؛ سَلَبَه اللهُ معرفةَ النَّقد، أو نَسِيَه. فقال الشيخُ: هكذا مَنْ خان اللهَ تعالى ورسولَه في مسائلِ العلم"([1]).
ولِلْعُلَمَاءِ فِي ذَمِّ الهَوَى ومُخَالَفَتِهِ كُتُبٌ وأبواب.
السبب الثاني: الرياء وملاحظة المخلوقين:
لا ينفك أحد عن التطلع إلى حب لذة المحمدة والجاه والطمع فيما في أيدي الناس، لكن من كمل عقله ووفق لاتباع الحق رأى ذلك مَرَضاً مُهْلِكًا فاحتاج إلى دواء يزيله ويقطع عروقه، وذلك الدواء النافع هو أن يُعْرض عن رغبته في كل ذلك لما فيه من المضرة، وفوات صلاح القلب، وحرمان التوفيق في الحال والمنزلة الرفيعة في الآخرة، والعقاب العظيم والمقت الشديد والخزي الظاهر، حيث ينادى على رءوس الخلائق: يا مرائي أما استحييت إذا اشتريت بطاعة الله -تعالى- عرض الحياة الدنيا، راقبت قلوب العباد واستهزأت بنظر الله تعالى وطاعته، ولا يخلو الطامع في الْخَلْقِ من الذُّلِّ والخيبة أو من الْمِنَّةِ والمهانة[2].
السبب الثالث: التكبر والغرور وإعجاب المرء بنفسه.
عن ابن عمر أنّ رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "ثَلاثٌ مُهْلِكاتٌ وَثَلاثٌ مُنْجِياتٌ وَثَلاَثٌ كَفَّاراتٌ وَثَلاثٌ دَرَجاتٌ: فأمَّا المُهْلِكَاتُ: فَشُحٌ مُطاعٌ وَهَوىً مُتَّبَعٌ واعْجابُ المَرْءِ بِنَفْسِهِ"[3].
ومعنى إعجاب المرء بنفسه: أي تحسين كل أحد نفسه على غيره وإن كان قبيحا، وعرفه القرطبي بأنه: ملاحظة نفسه بعين الكمال مع النسيان لنعمة الله، وقال عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: "التَّوْفِيقُ خَيْرُ قَائِدٍ، وَحُسْنُ الْخُلُقِ خَيْرُ قَرِينٍ، وَالْعَقْلُ خَيْرُ صَاحِبٍ، وَالْأَدَبُ خَيْرُ مِيرَاثٍ، وَلَا وَحْشَةَ أَشَدُّ مِنَ الْعُجْبِ[4].
فثمرة العجب الهلاك، قال أبو حامد الغزالي "ومن آفات العُجْب أنه يحجب عن التوفيق والتأييد من الله -تعالى-، فإن المُعْجب مخذول، فإذا انقطع عن العبد التأييد والتوفيق فما أسرع ما يَهلك، وكما قيل: كم سراجٌ قد أطفأته الريح؟ وكم عابدٌ أفسده العُجب؟"[5].
قال ابن حجر الهيتمي: الحامل على التكبر هو اعتقاد كمال تميزه على الغير بعلم أو عمل أو نسب أو مال أو جمال أو جاه أو قوة أو كثرة أتباع، فالتكبر أسرع إلى العلماء الذين لم يمنحوا نور التوفيق منه إلى غيرهم،... فالجاهل العامي إذا تواضع وذل هيبة لله وخوفا منه فقد أطاع بقلبه فهو أطوع من العالم المتكبر والعابد المعجب[6].
السبب الرابع: كثرة المعاصي: فَمِنْ عُقُوبَاتِهَا أنها تُعْمِي بصيرة القلب وتطمس نوره، وتَسُدُّ طُرُقَ الْعِلْمِ، وتحجب مواد الهداية. وقد قال مالك للشافعي لمّا اجتمع به: إني أرى الله قد ألقى على قلبك نورًا، فلا تطفئه بظلمة المعصية.
ولا يزال هذا النور يضعف ويضمحلّ، وظلام المعصية يقوى، حتى يصير القلب في مثل الليل البهيم. فكم من مَهْلكٍ يسقط فيه، وهو لا يبصره، ثم تَقْوَى تلك الظلمات، وتفيض من القلب إلى الجوارح، فيغشى الوجهَ منها سوادٌ بحسب قوتها وتزايدها!![7].
قال أبو حامد الغزالي: وقال بعض السلف: ليست اللعنة سوادا في الوجه ونقصا في المال، إنما اللعنة أن لا تخرج من ذنب إلا وقعت في مثله أو شر منه، وهو كما قال، لأن اللعنة هي الطرد والإبعاد، فإذا لم يوفق للخير ويسر له الشر، فقد أبعد، والحرمان عن رزق التوفيق أعظم حرمان[8].
نسأله سبحانه الصدق والإخلاص والإعانة على الهداية، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
---------------------------------
([1]) روضة المحبين ونزهة المشتاقين (ص: 480).
([2]) الزواجر عن اقتراف الكبائر (1/ 80)، إحياء علوم الدين (3/ 311).
([3]) رواه البيهقي في شعب الإيمان برقم (745).
([4]) شعب الإيمان (6/ 368)، (10/ 385(.
([5]) فيض القدير (3/ 307)
([6]) الزواجر عن اقتراف الكبائر (1/ 119).
([7])الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي = الداء والدواء (ص: 78(.
([8]) إحياء علوم الدين (4/ 53(
التعليقات