عناصر الخطبة
1/حال أهل الإيمان في شهر القرآن 2/بعض آثار القرآن على المقبلين عليه 3/معنى حسن الظن بالله وبعض فضائله 4/بواعث حسن الظن بالله تعالى 5/الحكمة من نعيم الدنيا وآلامها 6/الغنيمة الغنيمة للعشر الأواخر 7/أرجى ليالي العشراقتباس
إنَّ حُسْنَ الظنِّ باللهِ شجرةٌ تُنبِت أشرفَ الأحوال، وتُثمِر أينعَ المعارف، فَأْلًا ورجاءً، وانشراحَ صدرٍ واطمئنانَ قلبٍ، وسرورَ خاطرٍ، وسعةَ حالٍ، وانبساطَ آمالٍ، فما أحسَنَها من شجرة، أصلُها ثابتٌ وفرعُها في السماء، تؤتِي أُكُلَها كلَّ حين بإذن ربها...
الخطبة الأولى:
الحمد لله، الحمد لله حمدًا لا يُحصى عديدُه، ولا يَبلى جديدُه، أحمده -سبحانه-، وأشهد ألَّا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، لا انقطاعَ لجوده، ولا مطمعَ إلا في مزيده، وأشهدُ أنَّ سيدَنا ونبيَّنا محمدًا، أصدقُ عبادِه في الرجاء، وحُسْن الظنِّ والدعاءِ، صلَّى اللهُ وسلَّم عليه، ما شِيمَ بارقٌ في الأرجاء، وجادَتْ سحبٌ بوابل السماء، وعلى آله وصحبه الكرام النبلاء، ومَنْ تَبِعَهم بإحسان ما تعاقَب الصبحُ والمساءُ.
أما بعدُ: فاتقوا اللهَ عبادَ اللهِ، وأحسِنوا الظنَّ به -سبحانه-، يُكرِمْكُم بما لا يُبصره ذو ناظر، ولا يَقدُرُه ذو خاطرٍ، فإن بساطَ عطائِه ممدودٌ، وإن سحابَ جُودِه معقودٌ.
أيها المسلمون: إنَّ أهل الإيمان في شهر القرآن؛ شهر رمضان، يعكُفون على كلام ربِّهم عكوفَ محبٍّ على محبوبه؛ فيتلُونه حقَّ تلاوته، ويجعلون صحبتَه شغلَهم آناءَ الليلِ وآناءَ النهارِ، لا يسأمون ولا يفترون، ويتَّخذون تدبُّرَ معانيه، وموعظةَ القلوب بعيون رقائقه ومثَانِيه، حادِيَهم في طريقهم إلى الله، يُؤثِرون تلاوتَه وتدبُّرَه على سائر المحبوبات، من طعام ومنام وسمَر يُرام، فلا تَجري ألسنتُهم إلا بترديده، ولا ترنو أبصارُهم إلا إلى موعوده، ولا تَطَلَّعُ أفئدتُهم إلا إلى زجره ووعيده، قد اتخذوه صاحبًا وحبيبًا، وأنيسًا وسميرًا، واتخَذُوا من معانيه غذاءَ ألبابهم، وقوتَ قلوبهم، ولذةَ أرواحهم، ونعيمَها وأنسَها وسرورَها.
ولقد رأوا في مثاني هذا الكتاب بصائرَ تُنجِيهم من العمى، وبيِّنات تُوصِلهم إلى الهدى، وحِكَمًا مصرَّفة، وأمثالًا مضروبة، تستحِثّ عقولَهم، وتنوِّر بصائِرَهم، إنهم في شأن، وغيرهم في شأن، قد امتازوا عن غيرهم بأنهم رأوا القرآنَ رسائلَ من ربهم -عز وجل-، فهم يتدبَّرونها في الصلوات، ويُلازِمونَها في الخلوات، ويمتَثِلونَها في الطاعات، والسنن المتَّبَعات، فإن شئتَ أن تصف حالَهم فما أحسنَ أن تقول: ألسنتُهم مغارفُ ألفاظِه، وقلوبُهم مرابعُ هداياته، وعقولُهم أوعيةُ حقائقه وبيناته، فالألسنة ترتِّل وتحبِّر، والعقول تتفكَّر وتتدبَّر، والقلوب تتَّعِظ وتنزَجِر وتتبصَّر.
ولا عجبَ أن كان هذا حالَهم؛ فإنه كلامُ ربِّ العالمينَ، وفضلُه على غيره من الكلام، كفضل الله على خَلْقِه، كلامٌ لو نزَل على الأرض لقطَّعها، أو على الجبال لَصدَّعَها.
إخوةَ الإيمانِ وأهلَ القرآنِ: وإذا أراد اللهُ بعبيده المقبلِين على كلامه خيرًا فتَح لهم من فهمهم وإدراك حقائقه ما تسمو به هممُهم، وتزكو به نفوسُهم، وتطيب به حياتُهم وتَحسُن أحوالُهم، وما يكون لهم بلاغًا إلى حين، وإنَّ من المعاني التي بثَّها ربُّهم بين أيديهم في كتابه، وأراد منهم أن يعقلوها؛ ليحسُنَ حالُهم، ويطيب مآلُهم، حُسْنَ الظنِّ به -سبحانه-، فهو مِلاكُ الخيرِ الذي أُريدَ لهم، وهو أنبلُ مراتبِ معاملتهم لربهم، فإنهم به يرجون جميلَ صُنعِه بهم، ويؤمِّلون لُطفَه وبِرَّه، ويرغبون في إحسانه وجوده، وهذا مِنْ أحسنِ الاعتقادِ في الرب وأكمله، وهو اللائق بكماله وجلاله، وهو متولِّد عن معرفته حقَّ معرفته، وقَدْره حقَّ قدرِه.
وحقيقٌ بمَنْ يقرأ قولَه -سبحانه-: (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ)[طه: 82]، أن يطمَعَ في مغفرة ذي الجلال، وأن يؤمِّل فيها جهدَه، ولا يَقنُط من رحمته، ولا يَيأَسَ من روحه، حقيقٌ بمَن يقرأ قولَه -تعالى- وتقدَّس: (رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً)[غَافِرٍ: 7]، أن يرجوَ سعةَ رحمة الرب له، وشمولَها لخطاياه، وأن يرى رحمتَه أرجى من عمله، ومغفرتَه أوسعَ من ذنوبه، وحريٌّ بمَن طَرَقَ سمعَه قولُ خالقه: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ)[الْبَقَرَةِ: 277]، أن يكون -بعد العمل بها- حَسَنَ الظنِّ بنَبِيلِ مَوعُودِها، مترقِّبَ الحصولِ على جزائها، قريبَ الأملِ، وافِرَ الفألِ، حتى يكون من عباده الذين لا خوفَ عليهم ولا هم يحزنون، في دنياهم وأخراهم، في عاجِل أمرِهم وآجِلِه.
جديرٌ بمَن يتلو قولَه -تعالى-: (إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ * لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ)[فَاطِرٍ: 29-30]، ثم يستوفِي خلالَها جهدَه، فيلازِم الكتابَ وإقامَ الصلاة والإنفاقَ في وجوه الخيرات أن يكون من أعظم الراجِين لنَيْل موفور الأجور، ومزيد الفضل من لدن غفور شكور، فإنه قد أطمَعَهم في رجائه ودَعَاهم إليه، والكريمُ إذا أطمَع أوجَب، وإذا أمَّل حَقَّقَ.
وإنه لَحريٌّ بمن يلهَج بقوله -تعالى-: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ)[الطَّلَاقِ: 2-3]، أن يُفسِح في نفسه سماءَ الرجاء، ويَفتح لها أبوابَ الطمع في كرم الله وحُسْن الظن به -سبحانه-، فيهرُب من ضِيقِ الهمومِ والغمومِ والأحزانِ والمخاوفِ إلى سعةِ فضاءِ الثقةِ باللهِ -تبارك وتعالى-، وصِدْق التوكُّل عليه، وحُسْن الرجاء لجميل صُنْعه به، وتوقُّع المرجوِّ من لطفه وبِرِّه، وجُودِه وإحسانِه؛ فإنه لا أشرحَ للصدر، ولا أوسعَ له -بعد الإيمان- من ثقته بالله، ورجائه له، وحُسْن ظنِّه به، وذلك أنه رجاءٌ مضمونٌ، وحُسنُ ظنٍّ مأمونٌ، فقد أخبَر -صلى الله عليه وسلم- عن ربه في الحديث القدسي: "يقول الله -تعالى-: أنا عند ظنِّ عبدي بي"(متفق عليه)، قال الإمام ابن القيم -رحمه الله-: "وكلَّما كان العبدُ حَسَنَ الظنِّ بالله، حَسَنَ الرجاءِ له، صادقَ التوكُّلِ عليه، فإن اللهَ لا يُخَيِّب أملَه فيه البتةَ؛ فإنه -سبحانه- لا يخيِّب أملَ آمِلٍ، ولا يضيِّع عملَ عامِلٍ".
ومن شريف حُسْن الظن به -سبحانه-: أن يظنَّ العبدُ بربِّه أنه ما أذاقَه مرارةَ الكسر إلا ليذيقَه حلاوةَ الجَبْر، فما كَسَرَ عبدَه المؤمنَ إلا ليجبره، وما منَعَه إلا ليعطيه، ولا ابتلاه إلا ليعافيه، ولا أماتَه إلا لِيُحيِيَه، ولا نغَّص عليه الدنيا إلا ليُرَغِّبه في الآخرة، ولا ابتلاه بجفاء الناس إلا ليَرُدَّه إليه، ويستخلِصَه لنفسه، ويصطفيه لأُنْسِه.
ومِنْ أرجى مواضع حُسْن الظن بالله وأحسنها: ظنُّ الإجابة عند الدعاء؛ ففي الحديث: "ادعُوا اللهَ وأنتم مُوقِنون بالإجابة"، وظنُّ قَبولِ التوبةِ لمَن تاب، وظنُّ المغفرةِ عند الاستغفار تصديقًا بوعدِه الحقِّ، وظنُّ العفوِ والرحمةِ عند حضور الأجل، ففي الحديث: "لا يموتنَّ أحدُكم إلا وهو يُحسِن الظنَّ بالله -عز وجل-"(أخرجه مسلم).
عبادَ اللهِ: هذا وإن لِحُسنِ الظنِّ بالرب -جلَّ جلالُه- بواعثَ تبعَث عليه وتُعِين عليه، ومن ذلك: معرفةُ العبدِ ربَّه -سبحانه- بأسمائه وصفاته على الوجه الذي ذكرَه في كتابه وسُنَّة نبيِّه -صلى الله عليه وسلم-، فإن مَنْ عرَف اللهَ بأسمائه وصفاته أحبَّه، فإذا أحبَّه رجاه وأحسَن الظنَّ به، وَوَثِقَ به، وتوكَّل عليه، وأقبَل بكُلِّيَّتِه عليه، وإنما يكون سوءُ الظنِّ بالله ممَّن جَهِلَ كرمَ وجهِه، وعزَّ جلالُه، وعَمِيَ عن جميل أوصافه، وما تقتضيه من الكمال والجلال، فله الأسماء الحسنى، والصفاتُ العلا، والأفعالُ الجُلَّى، سبحانه جلَّ شأنُه.
ومن بواعثِ حُسنِ الظنِّ بالله -تعالى- تدبُّر شريعته القويمة، والنظر إلى ما فيها من الأحكام والحِكَم؛ فإنها شريعة وضَع اللهُ بها الآصارَ والأغلالَ، ورفَع بها الحرجَ، ووسَّع فيها سبلَ الخيرات، وجعَلَها شريعةً وَسَطًا، لا غُلُوَّ فيها ولا جفاءَ، فهي شريعةٌ حنيفيةٌ سمحةٌ سهلةٌ، كلُّها عدلٌ ورحمةٌ ومصلحةٌ وخيرٌ وبِرٌّ ومعروفٌ؛ وذلك مدعاةٌ إلى حُسْن الظنِّ بمشرِّعِها، ومُنزِلها للعباد، وأنه لا يُريد بهم إلا الخيرَ والصلاحَ في معاشهم ومعادهم؛ فسبحان مَنْ كَمُلَ في ذاته وصفاته وأفعاله، وكَمُلَتْ شريعتُه التي هي من كمال علمه -تبارك وتعالى-، (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا)[الْأَنْعَامِ: 115].
نفعني اللهُ وإياكم بهَدْيِ الكتابِ، وبسُنَّة النبيِّ الأوَّابِ، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب، فاستغفِروه إنه هو أهل التقوى وأهل المغفرة.
الخطبة الثانية:
الحمد لله، الحمد لله الذي أنعَم علينا بخير التنزيل، وخصَّنا بأصدقِ القيلِ، أحمده -سبحانه- على فضله الجزيل، ونوالِه الجميلِ، وأصلِّي وأسلِّم على رسوله الداعي إلى أهدى سبيل، وعلى آله وصحابته، أَكْرِمْ بهم من جيلٍ، ومَنْ تَبِعَهم بإحسان إلى يوم المقيل.
أيها المؤمنون الصائمون القائمون: ومِنْ بواعثِ حسنِ الظنِّ به -سبحانه- كذلك: تأمُّل سُنَّته الكونية في خَلْقه لهذا العالَم، وما فيه من مظاهر الحكمة والرحمة والبِر والإحسان، وغلَبة الخير على الشر؛ فقد خلَق اللهُ عبادَه في أحسن تقويم، وأسكنَهم في أرض ممهَّدة، وسخَّر لهم ما في السموات والأرض جميعًا منه، ودبَّر لهم من ملكوته ما تَصْلُح به حياتُهم، ويطيب به معاشُهم، فدَرَجُوا على هذه الأرض مطمئنينَ آمنينَ، تَحُوطُهم الأقواتُ والأرزاقُ، وتعمُّهم الخيراتُ والبركاتُ، ومِنْ فضلِه -سبحانه- أَنْ جعَل الخيرَ والسلامةَ هو الغالب على عامَّة الخَلْق، وجعَل البلاءَ والفتنةَ عارِضًا لا يدوم، وطائِفًا لا يلبَث، ولولا صروفُ البلاءِ لَأخلَدَ الناسُ إلى الأرض، ورَغِبُوا بها عمَّا أُعِدَّ لهم من طيبات الحياة الأخرى، التي هي خيرٌ وأَبْقَى.
فتأمَّلْ حكمتَه -سبحانه- في هذه الدار، كيف جعَل نعيمَها ولذائذَها سببًا في عمارتها حتى حين، وجعَل آلامَها المكدِّرةَ لنعيمها باعِثًا على تطلُّب النعيم الذي لا يشوبه نَصَبٌ ولا وصبٌ، ولا همٌّ ولا حَزَنٌ، فإن النفس -بِجِبِلَّتِها- تطمح إلى اللذة التي لا يشوبها ألمٌ، والنعمةِ التامةِ التي لا يُكَدِّرُها الرهقُ والحرمانُ، فاقتضت حكمةُ أحكمِ الحاكمينَ وأرحمِ الراحمينَ، تلك المزاوَجة بين الْمُقبِلِينَ في الدنيا؛ نعيمٌ مشوبٌ بألم، وخيرٌ ممزوجٌ بِشَرٍّ؛ ليبقى الإنسانُ بين الساكن إلى الدنيا، والمقبِل على الآخرة، فلا يسكُنَ إلى الدنيا سكونًا يُنسِيه الآخرةَ، فيخسر الخسرانَ المبينَ، ولا يتركها صرمًا فيضعف في معاشه، ويضعف في طريقه إلى الله، بل لا بد من قَدْر من السكون يستطيع به العيشَ عليها وإنفاذَ مراد الله فيها، واتخاذِها مزرعةً للآخرة، وطريقًا مُوصِلًا إلى نعيمها الأبدي.
فيا لَلَّهِ ما أحسَنَها من حكمة، وما أبلَغَه من تدبير من حكيم حميد، تشهَد له العقولُ بتمام التسديد، وكمال الإصابة وبالغ الإحاطة، والله خير وأبقى.
عبادَ اللهِ: إنَّ حُسْنَ الظنِّ باللهِ شجرةٌ تُنبِت أشرفَ الأحوال، وتُثمِر أينعَ المعارف، فَأْلًا ورجاءً، وانشراحَ صدرٍ واطمئنانَ قلبٍ، وسرورَ خاطرٍ، وسعةَ حالٍ، وانبساطَ آمالٍ، فما أحسَنَها من شجرة، أصلُها ثابتٌ وفرعُها في السماء، تؤتِي أُكُلَها كلَّ حين بإذن ربها.
هذا وإن من الحري بأهل الإيمان -وقد أقبلَت إليهم هذه العشرُ المعظَّمةُ من رمضان- أن يعمروها أحسنَ عمارة بالعمل الصالح، محسنينَ الظنَّ بربهم -تبارك وتعالى- أنه سيُعِينُهم على ذِكْره وشُكْره وحُسْن عبادته، على أتمِّ جِدٍّ واجتهادٍ وتشميرٍ، متأسِّينَ بما كان عليه نبيُّهم -صلى الله عليه وسلم- في هذه العشر، فقد كان صلى الله عليه وسلم "يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيره"(متفق عليه)، وكان صلى الله عليه وسلم إذا دخَل العشرُ أحيا ليلَه، وأيقَظ أهلَه، وشدَّ المئزرَ.
وإنما يعظُم قدرُ الاجتهاد في هذه الليالي العشر؛ رجاءَ إدراكِ ليلةِ القدرِ، التي هي خيرٌ من ألف شهر، فمَن حُرِمَ خيرَها فقد حُرِمَ، ومَنْ أدرَكَها فقد رَبِحَ وغَنِمَ، هي -وأيمِ اللهِ- ليلةُ العمرِ، وجوهرةُ الشهرِ، وفرصةُ الدهرِ، وينبوعُ المغفرةِ والأجرِ، وفي الحديث: "مَنْ قام ليلةَ القدرِ إيمانًا واحتسابًا غُفِرَ له ما تقدَّم من ذنبه"(متفق عليه).
وأرجى لياليها أوتارُ العشر؛ لِمَا في الصحيح: "تحرَّوْا ليلةَ القدرِ في الوتر من العشر الأواخر من رمضان"، فالتَمِسوا بركاتِ هذه الليلة الغرَّاء، وحَذَارِ أن تَسقُطَ هذه الجوهرةُ النفيسةُ من بين أيديكم فيدرككم الندمُ، ولاتَ ساعةَ مندمٍ، ثم لِتُحْسِنوا الظنَّ به -سبحانه- أنه سيتقبَّل عنكم أحسنَ ما عملتُم، وسيتجاوز عن سيئاتكم، فإنه غفور شكور، يغفر الكثيرَ من الزلل، ويشكر القليلَ من العمل، واجعلوا من تمام التعبُّد بحُسْن الظنِّ به -سبحانه- في هذه الليالي الشريفة الفألَ الجميلَ بأنه مُزِيلٌ عنكم هذه الجائحةَ ورافِعُها، وكاشفٌ هذه النازلةَ ودافِعُها، فإنه -سبحانه- المؤمَّل لكل خير، المرجوُّ عند كل ضُرٍّ، وهو المنَّانُ الحنَّانُ، الحيُّ القيومُ، وجهُه أكرمُ الوجوهِ، وجاهُه أعظمُ الجاهِ، لا يتعاظَمُه شيءٌ، وهو أكبرُ وأعظمُ من كلِّ شيءٍ، ولا حولَ ولا قوةَ إلَّا به، وهو حسبُنا ونِعْمَ الوكيلُ.
اللهم بفضلك عُمَّنا، وبلطفك حُفَّنا، وعلى الإسلام والسنة والجماعة جمعًا توفَّنا، توفَّنا مسلمينَ، وألحِقْنا بالصالحينَ، غيرَ خزايا ولا مفتونينَ، ولا مبدِّلينَ ولا مُغَيِّرينَ، يا ربَّ العالمينَ.
اللهم أَعِزَّ الإسلامَ وانصر المسلمينَ، وأَذِلَّ الشركَ والمشركينَ، ودَمِّر أعداءَ الدين، واجعل هذا البلدَ آمِنًا مطمئنًا رخاءً سخاءً، وسائرَ بلاد المسلمين، اللهم ارحم في هذه الدنيا غربتَنا، وفي القبور وحشتَنا، ويومَ القيامة بين يديك ذُلَّ وقوفنا، يمِّمْ كتابَنا، ويَسِّر حسابَنا، وثبِّت على الصراط أقدامَنا، واجعل الحبيبَ المصطفى -صلى الله عليه وسلم- في الجنة جارَنا، وَاسْقِنا من يده الشريفة شربةً لا نظمأ بعدَها أبدًا يا ربَّ العالمينَ.
اللهم احرُسْنا بعينِكَ التي لا تنامُ، وَاكْنُفْنا بكنَفِكَ الذي لا يُرام، وَاحْفَظْنا بعزِّكَ الذي لا يُضام، اللهم فارِجَ الهمِّ، كاشفَ الغمِّ، مجيبَ دعوةِ المضطرينَ، رحمنَ الدنيا والآخرة ورحيمَهما، نسألُكَ أن ترحمنا رحمةً من عندك، تُغنِينا عن رحمة مَنْ سِواكَ يا رب العالمين.
اللهم وفِّق وليَّ أمرنا بتوفيقِكَ، وأيِّدْه بتأييدِكَ، وفِّقه ووليَّ عهده لكل خير، ولِمَا فيه عزُّ الإسلام والمسلمين يا ربَّ العالمينَ، اللهم أَنْزِلْ رحمتَكَ على عبادِكَ المرضى، اللهم أنزِلْ رحمتَكَ على عبادِكَ المرضى، اللهم أنزِلْ عليهم عاجلَ الرحمة، اللهم اشفِ أبدانهم، وابعَثِ العافيةَ في أجسادهم، اجعل محلَّ الداء دواءً، ومحلَّ السقمِ شفاءً، اللهم مَنْ يحفظون أمنَنا فاحفظهم، ومَنْ يحرسون صحتَنا فاحرُسْهم، وَاجْزِهم خيرًا يا الله.
اللهم اغفر لنا كلَّ ذنب يُباعِدُنا عن رحمتِكَ، اللهم اغفِرْ لنا كلَّ ذنب يُباعِدُنا عن رحمتِكَ، ويَحْرِمُنا كرامتَكَ، ويسلبنا فضلَكَ، ويحرمنا رزقَكَ، يا ربَّ العالمينَ.
اللهم صلِّ على محمد، وعلى آل محمد، كما صليتَ على إبراهيم، وعلى آل إبراهيم، إنكَ حميد مجيد، وبارِكْ على محمد، وعلى آل محمد، كما باركتَ على إبراهيم، وعلى آل إبراهيم، إنكَ حميدٌ مجيدٌ. وَأَقِمِ الصلاةَ.
التعليقات